محمد طاهر العصفور / لا ميديا -
ناقد وعالم لغوي بحريني
منذ الوهلة الأولى يشعر المرء بشيء من الإرهاق وهو يتحدث عن الشعر. الشعر يختلف عن النثر. وقد يكون ما يميز الشعر عن النثر الإيقاع؛ لكن ما يجعل من الكلام شعراً ليس الإيقاع فحسب، ربما لأن الشعر ومضة لغوية محكومة بنص موجز ينبغي إنجاز معناه، والنثر مساحة كبرى يلعب فيها المبدع على مداه الطويل. وربما كان الشعر الملحمي أكثر قدرة على بناء خطاب متسع الآفاق. أما الشعر الغنائي فومضات لغوية قد يربط بينها رابط، وقد تتحقق فيه رؤية شعرية؛ إلا أني أشك في ذلك؛ لكني قد أقول في هذا النوع من الشعر: الشعر في بعض مجاليه اكتشاف معانٍ جديدة في سحر وخفة، وهذه المعاني تنبثق ربما من السؤال. السؤال هو الذي يفضي بنا إلى إبداع إجابات غير صريحة ولكنها تلعب في منطقة فائض المعنى. وإذا كان الشعر محرضاً على البحث عن الذات، فإن هذه الذات الكبيرة سوف تصنع لغة تتجاوز المألوف. ويبدو أن تمرد الشاعر أو نزقه (والذي سأتحدث عنه في مقال آخر) هو الذي يأوي بالشاعر إلى تفجير تلك العلاقة المألوفة بين الدال والمدلول، وإشاعة فوضى عارمة من الفهم.
وإذا كانت اللغة كائناً متطوراً يؤدي إلى الذات ما تريد، فإن هذا الشعر سيكون أكثر قدرة على العبور بالذات من اللاوجود إلى الوجود، حيث إن الوجود في هذه المساحة هو اللغة؛ لذلك قيل قديماً: "كلمني حتى أراك". وربما كان الدكتور محمد حسين بزي، وهو المتخصص في فلسفة العرفان، يمارس شيئاً من هذه الذات المتوقدة الباحثة عن الوجود في مستوياته المختلفة، والتي يغامر خلالها باللعب بين سطوح المعنى محاولاً خلق رداء آخر من البوح يرتضيه فعلاً تواصلياً خفيف الظل بينه وبين الآخر، ويكشف فيها عن انفعالاته وعن كيف يفكر الرجل والعاشق والمتأمل. ومما يثير دهشة المتلقي أن الشاعر بزي يقتنص معاني كثيرة من خلال نصه الحمّال بين الغياب والحضور.
ومن الممكن التأمل في العنوان "أغاني شيراز"* باعتباره عتبة النص الأولى. وهذه العلاقة الإسنادية بين مبتدأ محذوف وخبر حاضر، وكأنه أراد أن يقول هذه شيرازياتي أعيد صياغتها من جديد، إذ تستدعي ذلك الموروث الشعري والعرفاني، وتأتي عبارته مسبوكة ببوح شيراز وترنيمات شيراز؛ ولكن من خلاله هو، فالبحث عن الذات بين الشمس والظل، أو إلى جلال الدين الرومي (إلى مولانا جلال الدين الرومي... غادِرني فيَّ وإليَّ). وفي شيء من التأني ما زال الشاعر بزي يكتشف ذاته شعراً وليس فلسفة، وقد سخّر ذلك المخزون الفلسفي والفكري من أجل إنجاز الذات الشاعرة فناً. وإذا كانت علامات الظل والماء والشمس وغيرها من رموز صوفية وظفها باقتدار لافت، فإن هذا لا يعني تحوّل تلك القصائد إلى تجربة صوفية، وإنما هي لغة متطورة نسجها الشاعر من جديد ليصوغ منها ذاته الشاعرة كمنجز ألق يؤدي إلى الذات من الجمال ما لا يحصر من انتفاضة فنية صارخة غير رتيبة.
وهنا ننصتُ إلى الشاعر وهو يقول في قصيدة "قمر شيراز":
حكايتي، يا دهشتي
عن المرايا
كلَّ يومٍ
تحتسي ظلالي
وتشربُ السماءَ من خيالي
سبعٌ شدادٌ
كلّما شعّ القمرْ
من قلب شيرازٍ
تهادى الضوءُ بي
ليقهرَ النهارَ بالليالي!
* * *
أحكي لكم
عن دمعتينِ
كانتا تؤرّخانِ للصحارى
حين شهقةِ الورودِ
في لظى نيروزها
تُعبِّدان سحنة الصحراء
باحتفائها
وتربتان فوق شاهق المدى
بالحبِّ
حين الحبُّ للحواسِ
بوحُ حائها!
* * *
أحكي كثيراً
أبكي طويلاً
أروي لكم
حكايةَ الجنّ الذي
ما عاد يهوى النّارَ 
في أعشابِ فارسٍ
ولا جواره
مدينةٌ قالوا جزافاً:
فاضلةْ!
* * *
أحكي لكم
عن طفلةٍ
حيناً تسمّى
"الفاصلة"
قد تجمعُ الأضداد
بين جانبٍ وآخرٍ
عنها
وعن تجاوزِ الحروفِ
والحبر الأنين
عاصفاً
ودهشتينِ
كانتا على عرشٍ
تسامى من قصبْ!
* * *
ستعرفون الآن
ربّما ستفهمونْ
سرَّ النقطةِ العصماءِ
في الدموعِ
معنى السرِّ
في العروشِ
كيف ترعبُ الرياحَ
غضبةُ القصبْ
تهزّها
تقضّها
لكنَّ هذا
ليس حبري
ليس شعري
إنّه ضياءُ وجهي
دمعُ عيني
لهفتي
إنْ زاد شوقي للحبيبةْ!

حاول الشاعر في هذا النص أن يشيع ثقافة الماء على نحو آخر في "تحتسي/ وتشرب". وكنت أتوقع سيلاً عارماً من الاصطلاحات المحيلة إلى مفهوم آخر؛ غير أن الشاعر التفت من جديد على ومضة الماء، ولا أعرف ما الذي جعله يحجم عن مستور إحساسه بمفهوم الظمأ لدى نصفه الآخر الذي رشح في سياق حديثه مدى انصهاره فيه.
وتعلو الدهشة حين يقول بزي في قصيدة "أجدادي في الحب":
أجدادي في الحبِّ
وُلِدوا من صلبي
كانوا عشاقاً
من بعدي
لكنّهم
ما عشقوا
بسوى قلبي!
وهنا لا يترك الشاعر فرصة دون أن يسجل لذاته حضوراً على مستوى التناص مع الخطاب الشعري. وإذا كان بزي يرى في المتنبي أجمل ما جادت به قريحة الشعر العربي، بل كما يقول كثير من أتراب الشاعر، فإن بزي يتمرد على المتنبي في قوله:
لا بقَوْمي شَرُفْتُ بل شَرُفُوا بي
وبنَفْسِي فَخَرْتُ لا بجُدودِي
وهنا يعيد بزي المعنى بمفهوم وجودي جديد: "أجدادي في الحب ولدوا من صلبي"، وكأنه جاوز المتنبي زهواً وبهاءً على نحو رشيق وباقتدار تشكيلي رائع.
أما في قصيدة "أنا الوقت" فيُفهم من مفهوم الوقت إطلالة على الزمن، الذي هو الوجود فلسفياً، والزمن هو الحركة؛ لكن بزي يختصر الزمن في الذات ليحكم سيطرته معنوياً على الأشياء، فيقول:
أنا الوقتُ
حدِّثْ رؤى الغيبِ
لملِمْ جراح المدى
ألفُ كأسٍ
هنا تنتشي
من دموع المطرْ
هنا، بين جَفنيَّ
ينشقُّ ألفُ قميصٍ
ويُهْرَعُ يوسفُ قبلي
لبابٍ ترنّحَ عشقاً
على دفّتيه
ارتعاشُ القمرْ
هنالك في الجُبِّ
منخلعاً عن حناياهُ
ينتظرُ الكونُ
يغفو بحِضني القدرْ
وبينهُما
بوحُ سرّي
بموتِ الجهاتِ
وبعثِ البشرْ!

ومن خلال محايثتي للشاعر، فإنه يمكنني القول: كان الشاعر منسجماً رومانسياً مع ذاته، وهو الذي صرّح في غير مكان بأن قصائده تكتبه ولا يكتبها، وكأنها سيرة ذاتية بماء الشعر المشبع بالفلسفة والعرفان، أصبغ عليها من يوسفياته فتأرجح بين الغياب والحضور، أترى كان معلّقاً بين السماء والأرض، تتجاذبه الرؤى وتقضّ مضجعه التساؤلات؟! أم أنه تنزّل من عليائه إلى شجرة ابن سينا، فتعقلن كثيراً وأشرق ملياً متنفساً السهروردي حتى زاوج بين هذا وذاك؟

صدر عن دار الأمير في بيروت، 2022.