اليمن بالحبر الغربي -
مدفوعة بالحفاظ على مصالحها في السعودية -خصوصا في منطقة جيزان جنوب غربي المملكة- وفي إطار تنافسها الشديد مع الولايات المتحدة، ألقت الصين بثقلها لإنهاء الخلاف بين الرياض وطهران وتم توقيع اتفاق بكين الشهير.
فعلى ساحل المملكة الجنوبي، يسلط الاستثمار الصيني الضخم في منطقة جيزان الضوء على التأثيرات المعاكسة لاهتمام بكين المتزايد في منطقة الشرق الأوسط.
على وجه التحديد، قد يُعزى جزئياً انخراط الصين مؤخراً في المفاوضات لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران إلى مصالح الصين الاقتصادية المتنامية في مناطق السعودية، التي قد تستفيد من المزيد من الاستقرار والهدوء على طول الحدود بين السعودية واليمن.
ويقول تقرير نشره «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأوسط» إنه في العام 1938، حفر السعوديون والأمريكيون معاً بئر الدمام رقم 7، حيث اكتُشف النفط بكميات تجارية لأول مرة في شرق السعودية بعد ست محاولات باءت بالفشل.
وفي حين جرت عملية التنقيب في إطار شراكة اقتصادية بحتة بين السعودية والقطاع الخاص الأمريكي في البداية، فقد أرست الأساس لشراكة أمنية بين البلدين لا تقوم على مبيعات الأسلحة فحسب، بل على تضحيات الجانبين أيضاً.
ومعاً تصدّت السعودية والولايات المتحدة للسوفييت في أفغانستان وكبحتا طموحات صدام حسين في ضم دولة الكويت المجاورة.
ولكن في عصر التغييرات الجذرية، ووسط الجهود التي تبذلها السعودية لتنويع اقتصادها، فإن البلدين سيفوتان فرصاً مفيدة إن لم يوسعا حدود هذه الشراكة الثنائية لتتجاوز نموذج «النفط مقابل الأمن».
فقد تعرّضت العلاقات بين الرياض وواشنطن لانتكاسات عدة في السنوات الأخيرة، نظراً لما أبدته الولايات المتحدة من عدم اهتمام بالشرق الأوسط.
وفي الوقت عينه، تذكّر مصالح عمالقة الأعمال الصينيين في المدن السعودية الكثيرين بعزم الشركات الأمريكية على البحث عن النفط في الصحراء السعودية منذ ما يقارب مئة عام. ويبدو أكثر فأكثر أن الصين أحد الرابحين في هذه الديناميكية المتغيرة.
ويقول التقرير: «في حين يصعب تحديد حجم الاستثمارات الأمريكية في السعودية بالمقارنة مع الاستثمارات الصينية، يتجلى الانخراط الاقتصادي الصيني في المملكة بوضوح ويشهد نمواً».
ويشير التقرير إلى أن منطقة جيزان، على الساحل الجنوبي للمملكة على البحر الأحمر، تعد خير مثال على هذا التحول، وتضع الاتجاهات الأوسع نطاقاً في العلاقات بين الصين والسعودية، مثل الوساطة الصينية الأخيرة بين الرياض وطهران، في إطارها الصحيح.
وتشكّل منطقة جيزان هدفاً رئيسياً للحوثيين، نظراً لموقعها بالقرب من الحدود اليمنية؛ ولكنها تواصل عملها بشكل طبيعي، مثل غيرها من المدن السعودية، بينما تحارب المملكة القوات الحوثية في اليمن.
وتجذب منطقة جيزان بموقعها الاستراتيجي على البحر الأحمر مشاريع كبيرة، مثل «مبادرة الحزام والطريق» الصينية، إذ تسهّل التجارة وتعزز الاتصال بين قارتي آسيا وأفريقيا.
ومع أن جيزان هي ثاني أصغر منطقة بين المناطق الإدارية الثلاث عشرة في المملكة، فهي تحتل الصدارة في ما يتعلق بالمصالح الاقتصادية الصينية في السعودية، حتى قبل إعلان ولي العهد الأمير محمد بن سلمان «رؤية السعودية 2030» لجذب الاستثمارات الأجنبية.
وفي العام 2009 استثمرت «شركة الألومنيوم الصينية المحدودة» المدعومة من الدولة مبلغ 1.2 مليار دولار لإنشاء مصهر ألومنيوم في مدينة جيزان الاقتصادية.
وبذلك أصبحت «مدينة جيزان للصناعات الأساسية والتحويلية»، التي تفوق مساحتها 106 كيلومترات مربعة كما كان مخططاً، عماد الاستثمارات الصينية، بما في ذلك استثمار تفوق قيمته 21.3 مليار دولار لوصل شبكة طريق الحرير الصيني بأكثر من 100 سلسلة توريد محلية، بالإضافة إلى 570 مشروع تحت الإنشاء.
وتدفق آلاف العمال الصينيين إلى المنطقة للعمل ضمن منطقة التنمية الخاصة بالمشاريع الصينية الممتدة على مساحة 19 كيلومتراً تقريباً، ولاسيما في مجال الفولاذ والبتروكيماويات والسيلكون وخدمات السفن.
واللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح في الصين تعتبر هذه المنطقة واحدة من المناطق الصناعية الكبرى العشرين في العالم التي تتمتع بقدرة دولية مثبتة، وتشكل إحدى المناطق الصناعية التسع التي تم إنشاؤها في دول عربية.
وبعد مرور أكثر من عشر سنوات، ما زالت المشاريع الصينية تشهد نمواً في «مدينة جيزان للصناعات الأساسية والتحويلية». ففي تشرين الثاني/ نوفمبر، بدأت «شركة الصين لهندسة الموانئ» (تشاينا هاربور للإنشاء) ببناء نظام لتبريد مياه البحر داعم لـ»مدينة جيزان للصناعات الأساسية والتحويلية»، بعد منافسة مع مقدمي عطاءات محليين وأجانب.
وترى الصين أن العلاقة الاقتصادية مع جيزان تسلط الضوء على فوائد استئناف العلاقات بين إيران والسعودية، بما يشمل حماية مصالحها في المدن السعودية من خلال الحدّ من خطر الهجمات بالطائرات من دون طيار والصواريخ التي قد يشنها «حلفاء إيران» في اليمن.
وتجدر الإشارة إلى أن جيزان تعرضت لثلاث هجمات على الأقل في العام الفائت، من ضمنها الهجوم بطائرة من دون طيار على منشأة «أرامكو». ولكن منذ التوصل إلى الاتفاق، لم يشن الحوثيون أي هجمات على جيزان أو المدن السعودية الأخرى.
وتجدر الإشارة إلى أن السعودية نقلت في تشرين الثاني/ نوفمبر معلومات استخباراتية إلى الولايات المتحدة حول هجوم إيراني «وشيك» على أهداف في المملكة قبل شهر واحد فقط من زيارة الرئيس الصيني إلى الرياض. ولكن الهجوم لم يحصل، وهذا يبرز على الأرجح تأثير هذه المحادثات على وقف التصعيد.
وإذا تم التقيد باتفاق بكين واستمر الضغط الإيراني على الحوثيين للكف عن مهاجمة السعودية، ستزداد الفرص أمام منطقة جيزان.
وفي الواقع، أعلنت السعودية بعد شهر من الاتفاق إطلاق أربع مناطق اقتصادية خاصة، منها المنطقة الاقتصادية الخاصة في جيزان الممتدة على مساحة 24 كيلومتراً تقريباً، والتي تركز على قطاعات التعدين ومعالجة الأغذية والخدمات اللوجستية.
بيد أن الوجود الصيني يبدو واضحاً وملموساً في مدينة جيزان للصناعات الأساسية والتحويلية، وهذه هي الحال على الأرجح في المناطق الاقتصادية الخاصة الجديدة.
ويقع في جوار منطقة جيزان الاقتصادية الخاصة مرفأ «مدينة جيزان للصناعات الأساسية والتحويلية»، الذي بنته «شركة الصين لهندسة الموانئ» (تشاينا هاربور للإنشاء) وتشغله شركتا «هوتشيسون بورتس» و«تشاينا هاربور» في إطار اتحاد حصل على حق الاستثمار والتشغيل للمرحلة الأولى من الميناء لمدة 15 سنة.
ويتمتع هذا المرفأ بأهمية كبرى لـ»مدينة جيزان للصناعات الأساسية والتحويلية» والمنطقة الاقتصادية الجديدة، إذ يشكل بنية تحتية حيوية للشركات التي تسعى إلى ترسيخ وجودها هناك. وتجدر الإشارة إلى أنه يمثل ثالث أكبر ميناء في السعودية، وييسّر مرور 13 إلى 15% من التجارة العالمية.
وللعلاقات بين السعودية والصين القدرة على التطور بطرق مختلفة لا تقتصر على الاستثمار وحده. وفي هذا الإطار، أفادت تقارير غير رسمية في العام 2021 بأن الصين تساعد الرياض في بناء صواريخها الباليستية، كما تُعتبر الصين من مقدمي العطاءات المحتملين في برنامج المملكة النووي المدني.
ومن جانب الصين، لا شكّ في أنها ستواصل استعراض قوتها في المنطقة من خلال الاستثمارات.
وإذا كان ثمة درس يمكن استخلاصه من عملية التنقيب عن النفط، التي تشاركت فيها السعودية والولايات المتحدة في ثلاثينيات القرن الماضي، فهو أن المصالح الاقتصادية تستدعي أكثر من الاستثمارات، وأن هذا الاتجاه لا يظهر أي علامات على التباطؤ، لاسيما من دون زيادة المنافسة والمشاركة الاقتصادية الأمريكية.

معهد واشنطن لسياسات الشرق الأوسط