د. سلوى حسين العابد / لا ميديا -
عندما أقرأ أبياته التي يسجلها أجده يغرق في الرثاء، لاسيما عندما يودع غالياً لديه، فقصيدته التي رثى بها والده العلامة/ علي يحيى العماد كانت مسجلة بأحرف من نور، ولاتزال للآن تقرؤها وكأنك تعيش لحظة الوداع للتو.
لم يرثِ أباه فقط، ولكنه رثى نفسه، وسجل قصيدة رثاء غريبة وكأنه يشتاق لعالم السمو والخلود الأبدي، وفي مشاهد ساخرة وعابرة تحدث عن صورة الوداع لأي شخص، وقام بتوديع روحه، رغم أن جسده لايزال موجوداً في العالم المادي.
تم تنفيذ ذلك الرثاء في كل أبجدياته عندما فجع بوفاة شقيقه وعضده الهاروني/ ياسر، فتجلت مرثيته التي كتبها لنفسه وأصبحت لأخيه وكأن نغزات قلبه قد استشعرت وفاة أخيه من قبلها بشهور. فهل سيسكت عن مرثية أخرى لأخيه؟!
لا، وألف لا، بل جادت قريحته برثاء بعد الآخر، يظل أجمله قوله:
 يا آسر الروح مُذ فارقت دنيانا
والدمع يذرف أنهاراً إلى الآنا
وبعدما غاب تحت الأرض أفضلنا
شاهدت بعدك فوق الأرض أردانا
ومثلما شيَّد العتمي منازلهم
بالأمس، ها هو ذا يبني لموتانا
 حيناً يشيّد للأحياء مسكنهم
وللذي مات يبني القبر أحيانا
في ذمة الله والعتمي معيشتنا
«عتميةٌ» هي دنيانا وأخرانا
والقصيدة السابقة تحول فيها الشاعر العماد من لغة «الهنجمة» إلى لغة «المسكنة»، كيف لا وقد دُفن أخوه وابنه وصديقه ومرشده ياسر؟!
فخاطبه بـ: إنك أفضل مني، والأسوأ هم الأحياء.
ثم يتكلم عن «العتمي»، والعتمي هذا هو رجل يعمل في البناء، مثلما نقول «شاقي»، فقام العتمي ببناء قبر ياسر في الليل، وحسين منتظر غير مصدق أن هذا القبر يضم أحب الناس إلى قلبه.
يتحدث عن العتمي الذي يبني للناس منازل تؤوي في دنيا فانية، بينما هو الآن يبني بيت ياسر للآخرة الباقية، ثم يقوم بتوظيف اسم العتمي وهو اسمه الذي ينتسب به لقريته (عتمة) فيقوم بتحويره بطريقة بلاغية مبدعة ويجعل من اسمه لوناً داكناً فيختم قصيدته بـ:
عتمية هي دنيانا وأخرانا
وكأنه يقول: بعد فراقك يا أخي لم تعد هناك ألوان مشرقة، بينما القارئ يعتبرها عبارة تدل على تعب الحياة ومشقتها، لاسيما لمن لا يخافون الله، فلا دنيا ارتاحوا بها ولا آخرة عملوا لها.
ما جعلني أكتب عن الشاعر سببان: أولهما: تخصصي في مجال النقد والتحليل، وإن كنت ما أزال أحبو في هذا العالم الصاخب، وثانيهما: تم وصفه بالبردوني، وهذا اختيار غير موفق، ليس استخفافا بالشاعر العماد؛ ولكن لأن مدرسة البردوني التنبؤية والفكرية غير مدرسة العماد الفلسفية.
فالعماد تجده يصرخ عندما يهجو، كيف لا وهو يهجو أكثر مما يمدح؟! وإن دل فهو دليل صدق محبته لوطنه وما وجد من أهداف انحرفت وأحلام سرقت. ثم تجده وقد خفض صوته عندما يرثي، وكأن ما كتبه ليس بيده، وإنما بدموع فؤاده تزاحمت وأخرجت أجمل المراثي وتجد فيها آهات وأوجاعاً يتمنى ألا تتكرر.
حتى فـــي مديحه سخرية وخط رجعة، وفي وصفه عمق وتأمل، وفي قلمه إبداع، وعنده تزاحم شديد للكلمات، فتراها في بعض أبياته تنفجر معلناً ولادة قصيدة تسمو بك للأعلى. وفي بعض القصائد تجد أنك لم تفهم ماذا يقول، وكأنه يقول: فلسفتي هذه لا يفهمها إلا الراسخون في العلم، بينما بعض القصائد تمتاز بسلاسة وعذوبة ووضوح جلي.
أما الأجمل في قصائده هي الرسالة الخفية، مطبقاً المثل «دق العود، يفهم مسعود»، وما أكثر مسعودات الوقت الراهن.
الشاعر العماد كتب قصيدة عن السموم المسرطنة التي هزت الشعب اليمني فهزت ضمير الشاعر فقال:

أنا الشعب
لك الأمر وحدكَ يا شعبنا
تقول أنا الشعب وحدي أنا
أنا الشعب أحمل عبئي الذي
غسلتُ لهُ بدمي ما جنى
وثرتُ على سطوة المنتنين
لأرضى وانتخب الأنتنا
فمستضعف الأمس مستكبرٌ
تَجَبَّرَ واعتقل الألسنا
ولا فرق عنديَ بين اللصوص
إذا كافرا صار أو مؤمنا
لأنّ فساد «عيال الحلال»
يفوق فساد «عيال الزنا»
فمن مكَّن الخصمَ من أرضهِ
لـ«سلمان» من أهلهِ مكّنا...!
وما ضَرَّنِي ما جنى أهلهُ
كما ضرّ مؤمنُنا الموطنا
سيرفض إفسادهُ هاجسي
إلى أن أشرَّد أو أُسجنا
أنا مَن تحمّلتُ جور الحصار
ومَن صانَ «صنعا» ومَن حصَّنا
أنا مَن رضيتُ بعيش الكفاف
ولو كان غيري أنا لانثنى
أنا من صبرتُ على «المزريين»
سنينَ وذقتُ الأسى والعنا
فمن يا ترى في الثماني السنين
من «المزريين» حمى أو بنى؟!
ومن منهمُ كان بي راحماً
لعمري ومن كان لي مُحسنا!
وجدتُ أَبيَّهمُ خانعاً
رأيتُ عزيزهمُ هيّنا
يروني بأعينهم سلعةً
أباع وأرجو بأن أرهنا
ستبقى الديون على كاهلي
إلى أن أُكفن أو أدفنا
يجازونني بالـ»مبيدات» والـ
سموم، وزادوا بفقري غِنى
كأن البلاد غَدتْ ملكهم
«تَدَغسَنَتِ» الأرض من حولنا
سأرفض «دغسنة» الفاسدين
وإن جاء بالخير من «دغسنا»
فـ«قات» الجنوب «سمينٌ» وبالـ
«مبيدات» قاتي بدا أسمنا
فلا تنهَ عن «جرعة» ثائراً
لتفتح «دغسنة» أنتنا
ولا تتبدل سفير السعود
بمُزرٍ عديم الرؤى أرعنا
فإما تكُن مثل «والي ذمار»
وإلا فَقُم وابتغِ «لندنا»
ولا فرق ما بين ذاك وذا
 «إذا قِيس حبٌّ وما بيننا»
القصيدة إبداع يشوبها الاختلال الواضح في الوزن والعروض، وهذا لا ينقص من قيمتها الشعرية، وكأن الشاعر كتب ما أملت عليه قريحته الشعرية وأراد أن يصرخ ليطفئ غضباً استشعره من خطر المبيدات.
عنوان القصيدة يتناص مع أنشودة «أنا الشعب يا فندم»، وهذه إحدى الصرخات غير المعلنة من الشاعر.
وآخر القصيدة تتناص مع أغنية «إذا قِيس حب وما بيننا» التي غناها الكثير من مطربي اليمن، مثل السنيدار والأخفش والحبيشي والسمة وغيرهم، والتي في آخرها تقول:
وإن تبحثي في حنايا الصدور
فلن تجدي مثل حبي أنا
وهذا هو المغزى من غرض الشاعر، أن الغرض من قصيدتي هذه أنكم لو بحثتم عن سبب غضبي بين السطور، فالسبب هو حبي وحرصي الشديد على شعب تحدى وعانى وذاق الأوجاع والفقر وقد يأتيه الموت وهو مدين مهموم، فلا تقتلوه بمبيداتكم، لأنه يكفيه ما قد عانى وتألم.
القصيدة رائعة. ومثلما قلت سابقاً، الشاعر العماد مبدع في الرثاء والهجاء، وتنحى قليلاً عن المديح وكأن صدق العاطفة عنده يقول: لم أعد أرى شيئا يستحق المديح والثناء
الشاعر بدأ يؤسس لمدرسة شعرية جديدة سيكون هو رائدها، مثلما كان قباني رائد الغزل، والسياب رائد الحنين، والهبل رائد العشق المحمدي، والأمثلة كثيرة، فإن الشاعر العماد سيكون رائد المدرسة النقدية اللاذعة وفارسها.
أقولها حقاً بأن شعره يستحق دراسات عليا، ومن خلال مقالي هذا أرجو أن يلتفت الباحثون لشعره لينقح ويبحث ويناقش، وقد نجد له قصيدة في كتب الأدب والبلاغة، لاسيما إذا تأمل وتعمق وتأنى وهجا كل من أذانا، فستتمخض له قصيدة هجائية رائدة، أو إذا فكر وقرر للمديح قد نجده يمدح شعباً وقائداً، ولا أرجو من الله أن يرثي ضمير المسؤول اليمني، لأني أظن أنا قد دفناهم، فهل انبعثوا من جديد؟!! ربما!!
في الأخير، كلماتي لم توفِّ الشاعر حقه؛ ولكنها خواطر مبعثرة.