«لا» 21 السياسي -
أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وما إن تم إعلان تشكيل ما أطلق عليه حينها مجلس التعاون العربي، وضم العراق والأردن ومصر واليمن - وليس موضوعنا الآن وهنا الخوض في حيثيات ذلك الإعلان وفي نتائجه، اتصل ملك السعودية فهد بملك الأردن الحسين مستفسراً منه عن ماهية ذلك المجلس وما هي أهدافه ومن هم أعضاؤه. وبمجرد أن ذكر الحسين اسم اليمن في سياق إجابته على استفسارات فهد، ثارت ثائرة هذا الأخير موجهاً استفهاماً استنكارياً للحسين: «اليمن هذه حقي، فمِمَّن أخذتم الإذن بانضمامها إلى مجلسكم هذا؟!».
هكذا كان السعوديون يرون اليمن منذ 1967 وحتى 2014: حديقتهم الخلفية وملك يمينهم!
وكان مقر الحكم في صنعاء يقع في «الصافية»، حيث سفارتهم، لا في «التحرير» أو «الستين» أو «البونية» حيث تعمل أدواتهم.
اليوم انقلبت الآية، وإن حضر الحديث واختلفت الرؤية، وإن غاب الهلال حيث يجد السعوديون أنفسهم -وقد حُسرت أقدامهم قسراً عن «فنائهم الخلفي» وبُترت قوائم لجنتهم الخاصة- بين خيارين: إدارة الظهر لواشنطن ومحاولة أولى في التخفف لا التخلص من الوصاية عليها، أو استدارة أخرى تجاه صنعاء وقلب ظهر المجن لها ومحاولة جديدة لاستعادة الوصاية لها. لن تتحمل الرياض بكل تأكيد عواقب الأخذ بالخيار الثاني، وهي التي ذاقت بعضاً من مرارات الخسارة طوال العقد الفائت، وقد جربت الخسران مراراً في الرهان على المظلة الأمريكية لحماية رأسها من تساقط الحمم اليمنية. «معافرتها» مؤخراً لصنعاء بإثارة غبار البنوك والمطار لا يعني استعادتها زمام المبادرة، ولا يفضي إلا إلى المزيد من إضاعة الوقت والمال وإضافة المزيد في فاتورة الاستحقاق اليمني. ولولا تهاون -ولن أقول هوان- المستوى السياسي في صنعاء طوال عامين من الهدنة والمهادنة مع الرياض لما تجرأت الأخيرة على اللعب مجدداً بأوراق الحرب -التي كسبها المجاهدون في افتداء جبهات العزة- وأرزاق الشعب التي سلبها المُجهدون من ارتداء بيجامات السلطة. وبرغم ذلك فإن موازين القوى قد تبدلت بشكلٍ كبيرٍ لا يستطيع معه السعوديون القفز عليها، وإن حاولوا المناورة بالعملاء والمراوغة بالعملة، ومن الخطأ الكبير استجداء الاعتلال السلطوي المرضي للتشكيك في صحة النتيجة السابقة، وللتصحيح سيكون من الإنصاف استدعاء مُسيّرات النصر على العدوان الثلاثي الأول الأمريكي السعودي الإماراتي وصواريخ الانتصار على العدوان الثلاثي الثاني الأمريكي البريطاني «الإسرائيلي».
اليمن القوي والمستقل لا يخيف سوى الصهاينة، سواء كانوا عبراناً أو بعراناً. كذلك هو حالهم مع لبنان المقاوم والمقتدر، لبنان الذي كان ومنذ إعلان الاستقلال حديقة أمامية للكيان الصهيوني، صار اليوم رأس حربة المقاومة وسيف بأسها ولامة رأسها. لبنان الذي كان يستهزئ به الصهاينة ويقولون بأن الفرقة الموسيقية في جيشهم تكفي لاحتلاله والسيطرة عليه، يُرقّص اليوم أولئك الصهاينة «على واحدة ونص» قصفاً وعصفاً.
تغير ميزان القوى في منطقتنا مع بداية القرن الجديد، ويمكن تحديد نقطة هذا التحول مع الانتصار التاريخي للمقاومة اللبنانية في مايو/ أيار 2000، حين نجحت في تحرير الجنوب بالقوة المسلحة دون تنازلات سياسية، فقدمت نموذجاً ثورياً مغايراً أثبتت من خلاله أن الكفاح المسلح (الجهاد والمقاومة) يظل ممكناً في أصعب الظروف.
أربعون عاماً ونيف من البطولة والرجولة هزمت خلالها المقاومة الإسلامية في لبنان إمبراطورية صهيون مرتين: في أيار 2000، وفي تموز 2006، والهزيمة الثالثة تتبدى بشائرها اليوم بدايةً بإسناد غزة وليس نهايةً بالاستعداد للدفاع عن لبنان. لم يدُر في خلد صهيونيٍ عبرانيٍ أو بعراني يوماً أن سيأتي اليوم الذي يرتدع فيه جيش الكيان «الإسرائيلي» عن الاعتداء على لبنان، وليعيد فيه قادته المجرمون التفكير ألف ألف مرة قبل العدوان عليه.
«الحركة الصهيونية توافقت مبكراً على تأسيس لبنان كدولة ضعيفة كي لا تنجرّ مع الإجماع العربي (يومها) على ضرورة صدّ عدوان إسرائيل وردِّ احتلالها». «الضوضاء في لبنان اليوم هي حول مسألةٍ تقضّ مضاجع الصهيونية في العالم: لبنان لم يعد ضعيفاً، هو قوي ويُخيف. هذا يتناقض مع الدور الذي كان مرسوماً للبنان منذ الاستقلال. يريد الغرب وإسرائيل وأعوانهم الأذلّاء هنا العودة إلى الوراء. هؤلاء يطالبون بصراحة وصفاقة بنزع قوة لبنان وإضعاف قوته العسكرية كي لا يكون هناك أي قدرة للجيش على الدفاع عن لبنان. فريق نزع سلاح المقاومة لا يريد أن يقوي الجيش. وهؤلاء لا ينسجمون حتى مع طروحاتهم عبر مطالبة أميركا (راعية الجيش) بتقوية الجيش ومدّه بالسلاح الرائد. لا، هذا يزعج إسرائيل، التي هم في صفها. الباقي تعمية»، كما يوصّف أسعد أبو خليل حملة التهويل ضد المقاومة في لبنان.
غير أنه وكما يفشل بنو سعود في استنساخ علي محسن والفرقة الأولى مجدداً، يعجز اليهود عن الإتيان بسعد حداد ثانٍ وجيش لحود آخر. نعم، لا ينتهي مخزون الخيانة ولا يكمل احتياطي العملاء، فثمة عليمي ويدومي وجعجع وجُمَيّل ينسدلون تباعاً من بين أصابع أقدام الصهاينة؛ غير أن اليوم ليس كالأمس، فهذه أكف عبدالملك وتلك أيدي الحسن تصفع وجوه الخراب، وهذا حزب الله يقصف شمال الكيان، وهؤلاء أنصار الله يعصفون بجنوب الكيان الآخر. وبين هؤلاء وأولئك تنتصر فلسطين السنوار، قساميين وسرايا قدس، وتندحر أمريكا وتنتحر «إسرائيل» وتندثر رويبضات الأعراب في جحور اللعنة حتى يوم الدين.
إذن فالفارق هاهنا هو العقيدة والإرادة والإعداد والجرأة. هذا ما يقلق الصهاينة. وإلا فهذه باكستان أمامنا أكبر دولة إسلامية ونووية تجاوز عدد سكانها 245 مليون نسمة، وهذه مصر أكبر دولة عربية عديد جيوشها وأجهزتها الأمنية تجاوز مليوني جندي! لا يراها العدو ولا يحسب لها حساباً، بينما يخاف الصهاينة من خلية فلسطينية مسلحة في مخيم للاجئين بالضفة المحتلة، ومن مجاهدين حفاة يرتادون جبال السراة ويترددون ما بين الجبلية وجباليا ليل نهار ويرددون بعد كل صلاة: الموت لأمريكا، الموت لـ«إسرائيل»!