تركيا والخطيئة الاستراتيجية الكبرى في سورية
- تم النشر بواسطة أحمد رفعت يوسف / لا ميديا

دمشق - أحمد رفعت يوسف / لا ميديا -
بعكس ما تبدو عليه تركيا في ظاهر الصورة، وهي تحاول الظهور بأنها المستفيد الأكبر من التغيير الذي جرى في سورية، فإن وراء هذه الصورة تفاصيل أعمق وأكبر تؤكد أن تركيا ارتكبت أخطاء استراتيجية قاتلة، تجاوزت فيها خطوطا حمراء أكبر من قدرتها على تحملها، وستدفع ثمنها غالياً جداً.
فتركيا قبل سقوط نظام بشار الأسد كانت تجيد اللعب على التناقضات الجيوسياسية، واستثمار موقعها الاستراتيجي، فكانت تلعب على حدود الخطوط الحمراء للأمن القومي لمعظم الدول والقوى الإقليمية والدولية الفاعلة؛ لكنها بفعل ما حدث في سورية تجاوزت بعنف كل هذه الخطوط، وهو ما سيكون المعيار والمقياس في علاقاتها بمحيطها الجغرافي والقوى الإقليمية والدولية معها، والمؤثر الأول على مستقبلها الذي أصبح في خطر.
الخطيئة التركية بدأت في الدوحة، عندما كان اجتماع وزراء خارجية «دول أستانا» وعدد من الدول العربية المعنية بالشأن السوري، يشكل غرفة عمليات للوضع في سورية، واتخاذ المجتمعين قراراً بوقف القتال، بعد سيطرة «هيئة تحرير الشام» على حلب، مرفقاً بخارطة طريق للحل في سورية، تم إبلاغه بشكل مباشر لبشار الأسد، مع ضغوط روسية وإيرانية وعربية للقبول بالحل، لكن الدور التركي بعد ذلك أدى إلى تجاوز الجميع، بالوقوف وراء قوات المعارضة للوصول إلى دمشق، وهو ما فاجأ الروس والإيرانيين والمجتمعين، وسعى الجميع إلى ترتيب أموره على عجل.
بفعل الموقع الجيوسياسي لسورية، والذي يجعلها أحد أهم مفاتيح السياسة العالمية، ونقطة التوازن الاستراتيجية في موازنات القوى والقوة الإقليمية والدولية، أدى هذا التغيير فيها إلى انقلاب جذري في هذه التوازنات، تجاوزت فيه تركيا الخطوط الحمراء، وهددت الأمن القومي للجميع، وأيقظت من جديد مشروع العثمانية الجديدة، فنتج عن ذلك:
• إخراج إيران من أهم منطقة تشكل قوة لدورها الإقليمي، وقطع طريق طهران - بغداد - دمشق - بيروت.
• هدد الأمن القومي لروسيا، الذي عملت عليه طوال تاريخها للوصول إلى المياه الدافئة، ووضع تواجدها في سورية في خطر حقيقي، وتأثير ذلك على محاولة استعادة دورها كقوة عظمى.
• أوقف مشروع «الحزام والطريق»، الذي يشكل عماد المشروع السياسي والاقتصادي للصين، والذي ينتهي على السواحل السورية، وذلك لصالح مشروع «الطريق الهندي - الأوروبي» المنافس.
• هدد موقع السعودية في العالم العربي والإسلامي، والساعية لتكون قوة إقليمية عظمى في المنطقة.
• هدد مصر، التي لم تخرج بعد من تداعيات إسقاط حكم الإخوان.
• هدد العراق، الذي مازال تحت تأثير تداعيات حربي الخليج الأولى والثانية وخطر «داعش».
• تناقض الدور التركي مع السياسة «الإسرائيلية» ومشاريعها في المنطقة.
• أشعل أضواء حمراء في أوروبا، التي لم تنسَ بعد دور وتهديدات السلطنة العثمانية، التي وصلت إلى أبواب فيينا.
• الدور التركي أصبح يتناقض بشكل شبه كامل مع السياسات الأمريكية، يضاف إلى التنافر الموجود أساساً في علاقات البلدين، وحالة العداء التي لم يخفها ترامب وإدارته للدور التركي.
هنا لا بد من الإشارة إلى أن اختراق كل هذه الخطوط الحمراء يحتاج إلى قوة عظمى لحمايته وتحمل تبعاته، وهو ما لا يتوفر في عالم اليوم، إلا عند الولايات المتحدة، وإلى حدٍّ ما روسيا والصين، وبالتالي يفوق بكثير طاقة دولة متوسطة مثل تركيا، وهو ما جعلها في مواجهة مع كل هذه الدول، حتى باتت اليوم بحالة «صفر أصدقاء»، ولم يبق لها من صديق سوى قطر.
هذا المحيط المتلاطم الأمواج من الأعداء، الذي بات يحيط بتركيا، سيجعلها تواجه أخطاراً حقيقية على دورها ومكانتها ومستقبلها كنظام حكم ودولة، حيث تتلاقى إرادة كل هذه الدول والقوى على عدم تحمل تركيا دولة قوية تهدد الجميع لو بقيت تمتلك الفرصة لتتحول إلى دولة إقليمية عظمى، وهذا سيوجد مصلحة مشتركة عند كل هذه الدول لتفكيك عوامل القوة التركية، والجميع ينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض عليها، والحالة الأقرب لهذه المصلحة هو تقسيمها، خاصة وأن هذه الأفكار سبقت التغيير في سورية، وأعلنها على الملأ عدد من شخصيات الإدارة الأمريكية؛ لكنها أصبحت بعد دورها في سورية هدفاً استراتيجياً ومصلحة قومية لكل الدول المؤثرة والفاعلة إقليمياً ودولياً.
بعد هذه الانقلابات والتحولات في موازين القوى الإقليمية والدولية التي عبثت بها تركيا، يمكن تأكيد أن ما حدث للرئيس الأوكراني زيلينسكي في البيت الأبيض الأمريكي، والتوافق الأمريكي الروسي لوقف الحرب في أوكرانيا، وعلى حساب وحدتها، مرشح بشكل أو بآخر لتطبيقه في تركيا، التي يتوفر فيها من مخاطر التقسيم أكثر مما لدى أوكرانيا.
المؤشرات الأولى للموقف الإقليمي والدولي من تركيا بعد خطيئتها الاستراتيجية في سورية، وتلاقي مصالح الجميع لتحجيم دورها، ظهرت في اختيار واشنطن وموسكو العاصمة السعودية الرياض مقراً لعقد واحدة من أهم القمم العالمية بين الرئيسين ترامب وبوتين، والتي يشبّهها المراقبون بـ»قمة يالطا» التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، والتي وضعت أسس التوازنات والعلاقات الدولية الناتجة عن الحرب العالمية الثانية، وهي القمة التي عمل أردوغان المستحيل لاستضافتها بهدف تثبيت الدور والموقع الجيوسياسي الجديد لتركيا، وفشل في ذلك، وهذا يعني أن راية المنطقة وزعامة العالم الإسلامي أعطيت للسعودية وليس لتركيا.
وسط هذا الصراع والتحولات الدراماتيكية في توازنات القوى والقوة الإقليمية والدولية تمتلك سورية دور بيضة القبان في ترجيح كفة أي دولة في المنطقة تسعى لأن تكون قوة إقليمية عظمى، وهو لا يمكن أن يتم بدون أن تضمن سورية لجانبها، وهو ما سينعكس بشكل مباشر على سورية وشكل الدولة ونظام الحكم السياسي الذي يجري بناؤه الآن، والذي يجب أن يكون بعد هذه التطورات متوافقاً مع نظام الحكم السعودي ودوره الإقليمي والدولي، وعلى هذا الأساس يمكن أن نقرأ أي سورية يجري بناؤها اليوم؟!
المصدر أحمد رفعت يوسف / لا ميديا