دمشق /  خاص / لا ميديا -
شهدت الأيام القليلة الماضية سلسلة من الاعتداءات والمواقف “الإسرائيلية” المتعلقة بالملف السوري، والتي حملت رسائل ميدانية وسياسية عديدة.
العدوان “الإسرائيلي” على السيادة السورية بدأ مع الجولة الاستعراضية التي قام بها رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، برفقة أركان حكومته، في الجنوب السوري المحتل، واستخدم خلالها كل أنواع الاستعراض والغطرسة، التي وصلت إلى درجة الوقاحة.
وقبل ذلك بأيام، أطلق تصريحات لا تقل وقاحة عن التي أطلقها خلال جولته هذه، قال فيها: “نحن من أسقطنا الأسد، ونحن من يقرر في سورية”.
أما العدوان الأخطر فقد تم من خلال قيام أكثر من 15 طائرة من طرازات (F 35) و(F 16) و(F 15) باختراق الأجواء السورية، من جنوبها إلى شمالها، وتحليقها بكل حرية فوق المناطق الجنوبية والوسطى والساحلية، بدءاً من مرتفعات الجولان جنوباً، مروراً بدرعا والقنيطرة ودمشق وحمص وحماة وحلب، وإلى أعزاز القريبة من الحدود التركية شمال حلب، لتتجه من هناك غرباً بموازاة هذه الحدود، وصولاً إلى أقرب نقطة منها شمال اللاذقية على الساحل السوري.
اللافت أن الطائرات “الإسرائيلية” لم تنفذ أي عمليات قصف على أي موقع، وإنما حلقت بطريقة استعراضية، وبدون أن يتعرض لها أحد، باعتبار أن الجيش السوري لم يعد يمتلك وسائل دفاع جوي، وحتى لو وجد بقايا منها فإن السلطة السورية الحالية لا تمتلك الإرادة والقدرة على المغامرة برد على هذه الطائرات. لكن من المهم الإشارة إلى أن هذا التحليق تم على مرمى نظر الأمريكيين والروس والأتراك، الذين يمتلكون قواعد عسكرية في سورية، ويمتلكون وسائط دفاع جوي؛ لكن تحليق الطائرات “الإسرائيلية” تم بدون أن تتلقى حتى مجرد إشارات تحذير من أي من قوات هذه الدول.
هذه العربدة “الإسرائيلي” غير المسبوقة لم تأتِ من فراغ، وإنما سبقتها عدة مواقف سياسية وعسكرية، وصولاً إلى هذه الاستفزازات.
فقد جاءت بعد تسعة أيام فقط من زيارة رئيس السلطة الانتقالية المؤقتة في سورية، أحمد الجولاني، لواشنطن، ولقائه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي وعده بالضغط على نتنياهو لتوقيع “اتفاق فك الاشتباك” للعام 1974، وتلا ذلك زيارة المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف، وطلبه من نتنياهو ضرورة توقيع “اتفاق فك الاشتباك”؛ لكن نتنياهو رفض الطلب الأمريكي.
كما جاءت الزيارة بعد جلسة لمجلس الأمن أجمع فيها أعضاء المجلس على إدانة الخروقات التي تقوم بها “إسرائيل” في الأراضي السورية.
أيضاً جاءت عقب إعلان “إسرائيلي” رسمي بأن المفاوضات الأمنية مع دمشق وصلت إلى طريق مسدود.
وتزامنت مع توجه وفد عسكري تركي - روسي - سوري مشترك، إلى الجنوب السوري، لتنفيذ ما اتفق عليه في محادثات (روسية - “إسرائيلية” - تركية) لاستئناف الدوريات الروسية، التي كانت تقوم بها قبل سقوط نظام الأسد، مقابل توافق على دور معين لـ”إسرائيل” في أي تسوية ستتم حول الساحل السوري.
هذا الاستعراض “الإسرائيلي”، وبعد كل هذه التطورات، وبدون تنفيذ عمليات قتالية، يؤكد أن الهدف منه استعراض للقوة؛ لكن الأهم هو توجيه رسائل بعدة اتجاهات:
- الأولى: إلى السلطات السورية، تقول فيها: نحن لسنا معنيين بالتوصل معكم إلى أي اتفاق، وما تريده “إسرائيل” ستقرره بنفسها، وهي قادرة على الوصول إلى أي مكان في سورية، وليس فقط إلى دمشق، ولا يستطيع أحد حمايتكم، حيث الرادارات الروسية والأمريكية والتركية كلها رصدت والجميع شاهد... وصمت، وأن الانسحاب “الإسرائيلي” من أي شبر في جنوب سورية لن يحدث إلا ضمن صفقة شاملة، ووفق الشروط “الإسرائيلية”، والتي تشمل اعترافاً سورياً كاملاً بسيادة “إسرائيل” على الجولان، ومنطقة عازلة خالية من السلاح الثقيل، تصل إلى بعد كيلومترات قليلة جنوب دمشق.
- الثانية: إلى واشنطن والمبعوث الأمريكي ويتكوف، تقول: لن نقبل ضغوطاً للتنازل تحت عنوان “تسهيل استقرار سورية الجديدة”، ونحن من يقرر كيف ومتى نوقع الاتفاق مع السلطات السورية، وليس واشنطن.
- الثالثة: إلى مجلس الأمن، الذي ندد بزيارة نتنياهو إلى مناطق في الجنوب السوري، بأن “إسرائيل” ستصل ليس فقط إلى الجنوب وإنما إلى كل شبر في سورية.
- الرابعة: إلى موسكو، تقول: أنتم موجودون في الجنوب السوري بموافقتنا، ومنظوماتكم الشهيرة لا ترد، ووجودكم اليوم شكلي.
- الخامسة: إلى تركيا، التي تعتبر نفسها ولية أمر السلطات السورية الجديدة، وتحاول التمدد إلى المنطقة الجنوبية، المحاذية للحدود مع الكيان “الإسرائيلي”، ومشاركة روسيا بتقرير مصير المنطقة، لتقول إن المشكلة ليست هنا في الجنوب فقط، بل في كل منطقة تقع تحت سيطرة الحكومة السورية التي تدعمونها، وخاصة في الساحل السوري، وها نحن اخترقناه ونخترقه متى شئنا. وفيها أيضاً رسالة مباشرة إلى أردوغان لوقف تهديداته وتقول له: “اهدأ قبلما نهديك”.
- والرسالة السادسة: إلى الرأي العام “الإسرائيلي” (القلق) بأن الحكومة لن تُقامر بأمن الحدود الشمالية، مهما كانت الإغراءات الدبلوماسية.
وما زاد في الطنبور نغماً هو تصريحات وأخطاء كارثية وقع فيها المسؤولون السوريون في تعليقاتهم على العربدة “الإسرائيلية”، حيث وصف البيان السوري الرسمي، حول جولة نتنياهو الاستفزازية في الجنوب، بأنها مجرد “زيارة غير شرعية”. أما مندوب سورية في الأمم المتحدة، إبراهيم العلبي، فقد وصف الجيش السوري، في كلمته، خلال مناقشة مجلس الأمن للاستفزازات “الإسرائيلية”، بقوله: “جيش الاحتلال السوري”.
“إسرائيل” اليوم تستثمر باللحظة الراهنة، حيث التوازنات الإقليمية والدولية اهتزت بقوة، وتركت فراغاً كبيراً تحاول “إسرائيل” تعبئته، وبقية الأطراف الإقليمية والدولية المعنية بالملف السوري تحاول تأدية أدوراها الميدانية والسياسية؛ لكن لا أحد منها مستعد للذهاب إلى صدام مع “إسرائيل” في سورية، وهي تحاول ليس فقط قطع الطريق أمام استقرار السلطة السورية “المتطرفة”، وإنما تحاول السيطرة على إرادتها السياسية والعسكرية والاقتصادية.
ما يجري يؤكد أن الوضع في سورية وعموم المنطقة لم يستقر بعد، وهو مربوط بحبل سري ممتد من دمشق ويمر عبر عواصم المنطقة، وصولاً إلى بكين وموسكو وكييف وكاراكاس، ويتغذى من أنابيب النفط والغاز الممتدة والتي يجري الصراع لمدها حول مكانها ومسارها. وهذا يؤكد أن الصفعة الكبرى ربما لم تأتِ بعد، وقد تكون قاتلة لبعض الأطراف، والوضع بحاجة لمعجزة لإنقاذه، مع الإشارة إلى أن الشرق هو منطقة المعجزات، التي لا تلاقي أحياناً تفسيراً لها في النظريات السياسية والعسكرية المعروفة.