عادل بشر / لا ميديا -
في مشهد غير مسبوق منذ دخول الطائرات المسيّرة ساحة الحروب الحديثة مطلع الألفية، بدأت دول غربية كبرى، وعلى رأسها بريطانيا، تتعامل مع الطائرات بدون طيار الأمريكية الشهيرة MQ-9 Reaper ليس بوصفها "سلاح الجيل القادم"، بل كعبء عسكري يجري التخلص منه بهدوء. فقد أعلنت لندن، عبر تصريحات رسمية وتقارير إعلامية بريطانية متخصصة، بينها مجلة الدفاع البريطانية، أنها تخلّت عن إمكانية تسليم أو بيع طائرات هجومية بدون طيار من طراز MQ-9 Reaper للقوات المسلحة الأوكرانية، وأن هذا النوع من المسيّرات تم إخراجه من الخدمة البريطانية بعد 18 عاماً من التشغيل.
وبرغم أن القرار جاء مبرراً باعتبارات تشغيلية ومالية، فإن الإعلام الأوكراني قدّم تفسيراً مختلفاً وأكثر جرأة، مشيراً إلى أن أسباب الاستبعاد تعود إلى "ضعف هذا النوع من الطائرات أمام أنظمة الدفاع الجوي الحديثة، كما تجلى ذلك في اليمن".
مجلة الدفاع البريطانية ذكرت في تقرير لها، أمس الأول، أن لندن استبعدت إمكانية نقل طائرات MQ-9 Reaper الهجومية والاستطلاعية الأمريكية الصنع إلى القوات المسلحة الأوكرانية.
وصرح وزير الدفاع البريطاني "آل كارنس" رسمياً بأنه "لا توجد خطط لبيع أو نقل طائرات بدون طيار من طراز MQ-9 Reaper إلى أوكرانيا".
ووفقاً له، فإن هذه الطائرات المسيّرة تخضع للتخلص بموجب التزامات معاهدة المبيعات العسكرية الأجنبية (FMS). ويشير هذا المرجع بوضوح إلى أن بريطانيا تخضع لإشراف الولايات المتحدة في هذا الشأن.
وأوضحت المجلة أن سلاح الجو البريطاني، أعلن قبل أيام  أن طائرة ريبر المسيّرة قد أكملت رحلتها القتالية الأخيرة.

في قلب تقييم السلاح الجوي الأطلسي
وسائل إعلام أوكرانية تناقلت تصريح وزير الدفاع البريطاني حول عدم نقل طائرات MQ-9 Reaper إلى أوكرانيا.
وعلّق مراقبون أوكرانيون على ذلك بالقول إن قرار لندن بالتخلي عن هذا الطراز من الطائرات المُسيّرة يعود إلى "انتهاء عمرها الافتراضي وضعفها الشديد أمام أنظمة الدفاع الجوي الحديثة، كما تجلى في اليمن".
هذا الاعتراف الواضح، وفق محللين، وإن كان مجرد "عبارة قصيرة" إلا أنها كبيرة في المعنى والمضمون، لأنها تُدخل اليمن، وللمرة الأولى، في قلب تقييم السلاح الجوي الأطلسي، وتجعل من التجربة القتالية اليمنية معياراً يعيد صياغة صورة أحد أهم الأسلحة التي راهنت عليها واشنطن طوال عقدين.
ويرى محللون أن ما حدث لم يكن مجرد "هزيمة تقنية" للطائرات بدون طيار الأمريكية، بل تحوّل استراتيجي قادته الدفاعات اليمنية محلية الصنع، التي استطاعت خلال السنوات الأخيرة إسقاط 26 طائرة Reaper أمريكية الصنع، بينها أربع خلال العدوان السعودي الإماراتي على اليمن، و22 خلال معركة إسناد غزة وتحديداً في الفترة الممتدة ما بين تشرين الثاني/ نوفمبر 2023م ونيسان/ أبريل 2025م، قبل أن تلجأ واشنطن إلى هدنة مع صنعاء مطلع أيار/ مايو الماضي.
هذا الرقم لم يمر في الغرب مرور الكرام. فـMQ-9 Reaper لم تكن مجرد طائرة بدون طيار، بل أحد أكثر أسلحة أمريكا فاعلية وتأثيراً في حروب ما بعد 2001، وكانت بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها، أشبه بالقابض على مفاتيح السماء. حلقت طويلاً فوق العراق وأفغانستان وسوريا والصومال واليمن نفسها، ونفذت عمليات اغتيال وضربات دقيقة كان الإعلام الأمريكي يقدمها على أنها تعبير أخلاقي عن "الحرب النظيفة" التي تتجنب المخاطرة بجندي أمريكي على الأرض. وارتبطت MQ-9 بهذه الهالة التي تُرهب الخصوم، وتطمئن صانعي القرار في واشنطن ولندن وباريس إلى أن السيطرة الجوية ليست قابلة للاهتزاز، وكانت تتمتع بسمعة راسخة باعتبارها "العين القاتلة في السماء".
لكن ما حدث في اليمن قلب هذه المعادلة رأساً على عقب، فقد وجدت هذه الطائرات نفسها تتساقط أمام صواريخ صنعاء محلية الصنع مثلما تسقط أسراب طائرات قديمة بلا حماية.
واستطاعت صنعاء تحويل أكثر طائرة أمريكية شهرة إلى هدف عادي قابل للإسقاط، بل إلى نقطة ضعف في الاستراتيجية الجوية الغربية.

تأثير الصدمة من صنعاء إلى لندن ونيودلهي
لم يكن إدراك هذه الحقيقة محصوراً في غرف العمليات اليمنية. فالهزات امتدت إلى خارج المنطقة. فالهند، على سبيل المثال، كانت قد أعلنت في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 عن صفقة ضخمة لشراء 31 طائرة MQ-9 المتطورة، وكانت الصفقة تمثل رهاناً استراتيجياً لمواجهة الصين وباكستان في المسرح البحري الهندي. لكن بعد عام واحد فقط، أعلنت نيودلهي التراجع عن الصفقة. الصحافة الهندية قالتها صراحة: "كنا نريدها لردع الصين وباكستان، فإذا بها عاجزة عن مواجهة اليمن".
وفقاً لخبراء عسكريين فإن الصدمة الحقيقية في الغرب لم تكن فقط في خسارة هذا النوع من الطائرات التي تبلغ تكلفة الواحدة منها 30 مليون دولار، بل في الطريقة التي سقطت بها. فصنعاء لم تعتمد على قدرات تشويش روسية أو مظلات صينية. بل بنيت قدرات الرصد والاستهداف والتوجيه على تقنية وطنية خالصة، وعلى شبكة مراقبة وتحكم أثبتت أنها قادرة على رؤية الطائرة، تتبعها، قفلها رادارياً، ثم إسقاطها. أي أن اليمن لم ينتصر عبر صدفة، بل عبر بناء ما يشبه "سلسلة قتل عملياتية" كاملة، أعادت تعريف ما يمكن لبلد محاصر أن يفعله في مواجهة التكنولوجيا الغربية.
كما أن أكثر ما يقلق الغرب اليوم أن تجربة إسقاط الـMQ-9 لا تعني سقوط طائرة فقط، بل تحمل في طياتها دلالة سياسية وعسكرية أبعد وهي أن تكنولوجيا الهيمنة الجوية الأمريكية لم تعد مطلقة، وأن خصماً يمتلك الإرادة والقدرة على التطوير يمكنه أن يقوّض صورة سلاح شكل جزءاً أساسياً من العقيدة العسكرية الأمريكية في العقدين الأخيرين. وهذا ما يجعل تصريح الصحافة الأوكرانية حول اليمن أكثر أهمية، لأنه يعترف أن التقييم الأوروبي الجديد للطائرة لا ينطلق من مختبرات أو نظريات، بل من تجربة قتال حقيقية جرت في فضاء تقوده صنعاء.
واليوم، حين تُسقط بريطانيا طائرات MQ-9 من حساباتها، وتتراجع الهند عن شرائها، وتبحث دول غربية عن بدائل أكثر قدرة على البقاء في بيئات عدائية، يتضح أن الدفاعات اليمنية لم تسقط طائرات فقط، بل أسقطت صورة كاملة بناها الإعلام الغربي والجيوش الكبرى حول "سلاح لا يُمس". ولعل هذه هي المرة الأولى التي يخرج فيها سلاح أمريكي متطور من الخدمة لأن بلداً محاصراً قال له عملياً: السماء لم تعد لكم.