أحمد القصير

أحمد القصير / لا ميديا -

عن أسباب وعواقب الأزمة بين عبد الناصر والشيوعيين بلسان "أحمد القصير"، من كوادر "حدتو" والحركة الشيوعية في مصر. وبالرغم من إقراره بالمؤامرة التي دُبّرت ضد عبد الناصر من الشيوعيين في العراق وبقية الأحزاب الشيوعية في مصر، إلا أنه بالنتيجة يُحمِّل عبد الناصر جزءا من المسؤولية بدون أي استدلال منطقي. ورغم ذلك يبقى لشهادته أهمية هنا.
تأسيس حزب 8 يناير 1958 بداية التآمر على الحركة الشيوعية وانهيار مرحلتها الثانية
في 8 يناير 1958 توحدت ثلاثة تنظيمات هي حدتو وحزب الراية وحزب العمال والفلاحين الذي كان يعرف من قبل بمنظمة (د. ش) ثم "طليعة العمال". وتشكل بذلك الحزب الشيوعي المصري. وحمل الحزب عوامل عدم الاستمرار، نتيجة الخطأ في اتفاق الوحدة. وأبرز أشكال الخطأ هو أن حدتو تخلت عن حقها في الحصول على أغلبية مقاعد القيادة. فقد كانت هي الأكثر عددا ويزيد أعضاؤها عدة مرات عن مجموع عدد أعضاء التنظيمين الآخرين. كما كانت حدتو هي صاحبة النفوذ السياسي والجماهيري. وأدى هذا التنازل من جانب حدتو إلى أن أغلبية قيادة الحزب الجديدة جاءت منعزلة عن جسد الحزب والخبرات النضالية لأعضائه. فقد وقع الحزب الوليد في قبضة عناصر قاصرة سياسيا، وعديمة الخبرة نضاليا، ومقامرة، وتتأرجح بين اليمين واليسار، وهمها الأول هو مساومة الحكومة للاشتراك في الحكم.
وفي الفترة التالية لقيام هذا الحزب مباشرة حضر إلى القاهرة قادة من الحزب الشيوعي العراقي والتقوا ببعض قادة الحزب الجديد فاقدي الخبرة النضالية والمقامرين. وتم هذا اللقاء من وراء ظهر زعماء حدتو وبخاصة زعيميها الأساسيين والتاريخيين الذين يمثلونها فكريا، وهما كمال عبد الحليم وشهدي عطية. والأشخاص الذين تقابل معهم العراقيون هم: د. فؤاد مرسي وكان ينتمي إلى حزب الراية، وأبو سيف يوسف وكان ينتمي إلى حزب العمال والفلاحين المعروف تاريخيا باسم (د. ش)، ومحمود أمين العالم ولم يكن تاريخيا حدتاوي الأصل لكنه تبنى مواقفها السياسية. وفي ذلك اللقاء قام العراقيون بإبلاغ الذين التقوا بهم بما يلي:
سوف تقوم قريبا ثورة في العراق سيترتب عليها قيام محور تقدمي في العالم العربي تتزعمه بغداد في مواجهة محور رجعي في القاهرة بزعامة عبد الناصر. كما طلبوا أن يستعد الشيوعيون المصريون لذلك، لأن زعامة العالم العربي سوف تنتقل من القاهرة إلى بغداد. ولهذا على الشيوعيين المصريين أن يتخلصوا من زعماء حدتو لأنهم حلفاء لجمال عبد الناصر. وقد قال محمود أمين العالم إنه اعترض على هذا الكلام. لكننا نقول إنه لم يفضحه في حينه رغم النصائح التي قدمت له من قادة حدتو وقادة الحزب الشيوعي السوداني. وهو بذلك شريك في الجريمة، بالصمت على الأقل لسنوات طويلة. 

تنفيذ المؤامرة
في 4 يوليو 1958 قامت مجموعة فؤاد مرسي وأبو سيف يوسف ومن خلال المكتب السياسي بفصل 4 من قادة حدتو، على رأسهم كمال عبد الحليم وشهدي عطية بوصفهما قائدي حدتو سياسيا وفكريا. وكان كمال عبد الحليم عضوا في اللجنة الثلاثية الدائمة ممثلا لتيار حدتو السياسي والفكري في الحزب الذي تأسس في 8 يناير 1958، وهي أعلى هيئة في الحزب. وكان معه في اللجنة الثلاثية فؤاد مرسي ممثلا لحزب الراية. كما كان أبو سيف يوسف ممثلا لـ(د. ش). وفي 14 يوليو قامت ثورة العراق. وفي 24 يوليو صادقت اللجنة المركزية على فصل الأربعة، بالإضافة إلى آخرين. وتم بعد ذلك فصل بقية قادة حدتو في اللجنة المركزية. وكانت النتيجة هي تمزيق الحزب الذي تأسس في 8 يناير 1958. وعادت حدتو لمزاولة نشاطها باسم الحزب الشيوعي المصري حدتو.
ذكرت آنفا أصحاب هذه المقامرة المصريين الرئيسيين. لكن كان لهم شركاء في عملية التنفيذ، ومن بين هؤلاء الشركاء د. عبد العظيم أنيس و د. اسماعيل صبري عبدالله وسعد زهران الذي تم في منزله تنفيذ مؤامرة فصل رفاق حدتو. وقد قال سعد زهران في حواري معه حول هذا الموضوع يوم 26 مارس 2014 إنه لم يتقابل مع شيوعيين عراقيين، ولم يكن على علم بأنهم طلبوا التخلص من قادة حدتو. لكن هذا القول لا يعفيه من المسؤولية، خاصة أنه كان أحد تلاميذ شهدي ويعرف أدواره الرائدة. وعلاوة على ذلك فإن سعد زهران يرى أن كمال عبد الحليم هو "الممثل الأمثل لكتلة حدتو، وهي الحركة التي كانت غالبة عدديا وسياسيا وجماهيريا في الحركة الشيوعية المصرية". وقد حرص سعد زهران على التدقيق في اختيار هذه الكلمات وقام بإملائها كلمة كلمة. ومع ذلك اشترك في مؤامرة ضد كمال عبد الحليم وبقية رفاقه. وهي مؤامرة كان لها عواقب عديدة. فقد أدت إلى انقسام الحركة الشيوعية المصرية ذاتها، بل كانت في نهاية المطاف من عوامل إنهاء مرحلتها الثانية. وقد ابتعد هؤلاء الذين قامروا وتآمروا عن الحركة الشيوعية ولم يشتركوا في تأسيس المرحلة الثالثة للحركة الشيوعية التي بدأت في 1965. وعلاوة على ذلك أدت تلك المؤامرة إلى خلق محاور وصراعات بين القوى الوطنية في العالم العربي. وهو ما أضعف هذه القوى في مواجهة الرجعية العربية والاستعمار العالمي.

مأساة د. عبد العظيم أنيس
أما مشاركة د. عبد العظيم أنيس في تلك المؤامرة فتعبر عن مأساته. فقد لفظته تلك المجموعة بعد أن تم استخدامه في فصل شهدي ورفاقه. كان عبد العظيم أنيس عضوا بحدتو، لكنه لم يكن ضمن قيادتها المركزية. وفي عام 1957 خرج من حدتو بعد خروجه على قراراتها وإصراره على أن يترشح في دائرة العباسية ورفضه اقتراح حدتو بأن يترشح في دائرة أخرى، فهو من المثقفين المعروفين ولا يرتبط بدائرة معينة. وكانت حدتو تؤيد مرشحا عماليا هو رئيس نقابة عمال شركة الترام. والغريب أن الحكومة اعترضت على كافة المرشحين الشيوعيين باستثناء عبد العظيم أنيس. وكان الضابط أحمد حمروش ومحمود أمين العالم، على سبيل المثال، من بين الذين تم الاعتراض على ترشيحهم.
انضم د. عبد العظيم أنيس بعد انفصاله عن حدتو لجماعة فؤاد مرسي، وأصبح قياديا في الحزب الذي تشكل في 8 يناير 1958. لكن تم إبعاده في أغسطس من نفس العام، أي بعد ستة أشهر فقط. فقد استبعدوه من القيادة بمجرد أن تم استخدامه في فصل كمال عبد الحليم وشهدي ورفاقهما. وعندما تقدم عبد العظيم أنيس في 1961 بطلب العودة إلى حدتو هو ومحمود العالم رفضت حدتو قبول طلبه بينما قبلت طلب محمود أمين العالم. وأعلنت حدتو بيانا عن أسباب ذلك الرفض، ومن بينها أنه اعتاد ترك حدتو دون إخطار سعيا إلى مصالح خاصة، ومن أمثلة ذلك قبوله في بداية خمسينيات القرن العشرين منحة لدراسة الدكتوراه خارج مصر قدمها له فؤاد سراج الدين وزير داخلية حكومة الوفد. وكان ذلك ضمن خطة أعدها ونفذها سراج الدين لإبعاد عدد من الشيوعيين عن مصر وعن العمل السياسي. وكانوا جميعا من المتفوقين علميا. وظل د.عبد العظيم أنيس منذ أن رفضت حدتو قبوله في 1961 حتى وفاته غير منتمٍ إلى أي تنظيم شيوعي.

مسؤولية محمود أمين العالم في المؤامرة
أعلن محمود أمين العالم عدم موافقته على طلبات العراقيين، لكن ذلك لا يعفيه من المسؤولية عن الجريمة بسبب تردده وتستره. فلم يفضحها علنا إلا بعد عدة عقود من حدوثها. فقد تم نسج خيوط المقامرة السياسية وتنفيذها ما بين مارس – يوليو 1958، لكنه ظل صامتا ولم يكتب عنها إلا عام 2001. وذلك على الرغم من النصائح التي قدمها إليه آنذاك عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي السوداني الذي أعدمه الرئيس النميري فيما بعد. وعلى الرغم من صمت محمود أمين العالم طويلا فإن كلامه يفيدنا في فهم التاريخ. فقد قال في الجزء الخامس من توثيق تاريخ الحركة الشيوعية الصادر في 2001 ما يلي:
"وقابلت كذلك زعيما ثالثا من قيادات الحزب الشيوعي العراقي قبل قيام الثورة العراقية، وأبلغنا أن شيئا سيحدث في العراق بقيادة الحزب الشيوعي العراقي، وأن العالم العربي سينقسم إلى نظامين وقيادتين. نظام وقيادة ثورية في العراق ونظام وقيادة رجعية هي قيادة عبد الناصر. لم تكن ثورة عبد الكريم قاسم قد قامت بعد في العراق، وقال لنا إننا يجب أن نعد أنفسنا وحزبنا لذلك. وكنت ضد هذا الكلام بشكل كامل، وأذكر أني أدركت بعد ذلك أنه كان وراء هذا الرأي إيحاء بل كلام شبه صريح حول ضرورة استبعاد العناصر الموالية لعبد الناصر من الحركة الشيوعية المصرية، وهذا ما يفسر فصل الرفاق الأربعة من قيادات حدتو".
هنا أقول: يا ليتك نطقت في حينه. فقد ظل محمود العالم صامتا على الرغم أيضا من التقرير السياسي التفصيلي الذي كتبه كمال عبد الحليم حول سياسة مجموعة فؤاد مرسي وأبو سيف يوسف والآخرين. وقد أطلق عليها اسم "التكتل". وقال في تقريره إن سياسة ذلك التكتل سوف تؤدي إلى تصفية الحزب وتدميره. والجدير بالذكر أن كمال عبد الحليم شاعر طليعي وصاحب نشيد "دع سمائي"، وكان مسؤولا عن مكتب الأدباء والفنانين في منظمة حدتو.

كمال عبد الحليم يتهم "التكتل" بمساومة الحكومة للاشتراك في الحكم
تم نشر تقرير كمال عبد الحليم يوم 2 سبتمبر 1958 بعد أن وقعه معه شهدي عطية وزملاؤه. واتهم كمال عبد الحليم في ذلك التقرير "تكتل" المجموعة التي تضم د. فؤاد مرسي وأبو سيف يوسف ود. اسماعيل صبري عبدالله بأنهم يقامرون بنضال الشيوعيين بهدف مساومة الحكومة للاشتراك في الحكم.
كما أوضح التقرير أن هذه المجموعة تتخبط سياسيا، وتنتقل من اليسار إلى اليمين والعكس، وتمثل تيارا انتهازيا. وقال إن سياستها ستؤدي حتما إلى تصفية الحزب الشيوعي تنظيميا وسياسيا. وتوجد نسخة من هذا التقرير ضمن مضبوطات شهدي عطية في القضية التي جرت محاكمته فيها عام 1960 أمام محكمة عسكرية خاصة. وكنت شخصيا بين زملائه المتهمين في تلك القضية. وفي أعقاب المحاكمة تم تعذيبنا وتم قتل شهدي تحت سياط التعذيب.
وقد اتضح من تطور الأحداث أن كمال عبد الحليم كان صاحب بصيرة سياسية في توصيفه لتلك المجموعة وحديثه عن انتهازيتها وأنها تساوم للاشتراك في الحكم. فبعد الخروج من المعتقلات في عام 1964 التحق زعماء تلك المجموعة بنظام عبد الناصر. فقد قام محمد حسنين هيكل بتعيينهم في "الأهرام" رغم أنهم وقفوا ضد ثورة 23 يوليو وقالوا إنها انقلاب أمريكي وأن قادتها يلعبون دور البورجوازية الكبيرة. واتهموا حدتو بأنها شاركت فيما سموه انقلابا ومؤامرة. ثم قالوا بعد ذلك إن عبد الناصر يمثل الاحتكارات الأجنبية. وبلغت المأساة - الملهاة ذروتها بقيام الرئيس أنور السادات بتعيين د. اسماعيل صبري ود. فؤاد مرسي وزراء. كما قام بتعيين أبو سيف يوسف عضوا في البرلمان.
إننا أمام حالة تثير الكثير من التساؤل وتضعنا أمام تناقض غريب. فإن هؤلاء الذين استوعبهم الرئيس السادات وقفوا من قبل ضد حدتو وهاجموها لأنها تعاونت مع عبد الناصر وأيدت ثورة يوليو. ومن هذا المنطلق تآمروا أيضا ضد قادتها مع العراقيين. لكنهم في نهاية المطاف وضعوا أنفسهم سياسيا في معسكر السادات صاحب "كامب ديفيد".
يوضح ذلك صحة كلام كمال عبد الحليم بأنهم كانوا يساومون بنضال الشيوعيين بهدف المشاركة في الحكم. وقد تمت هذه المساومة على حساب مناضلين دفعوا حياتهم من أجل الوطن، وعلى حساب الحركة الوطنية وليس الحركة الشيوعية وحدها. أما كمال عبد الحليم وشهدي عطية فكان مصيرهما على نحو آخر. فمن جانب لم يلتحق كمال عبد الحليم بنظام عبد الناصر، ولم ينضم مثلا إلى تنظيمه السري المسمى "طليعة الاشتراكيين". كما تعرض للاعتقال طوال عام 1966 ثم طوال عام 1967. وكان ذلك بسبب مواصلته النضال وتزعمه تأسيس "التيار الثوري" في 14 مارس 1965 الذي شكل بداية للمرحلة الثالثة للحركة الشيوعية. وكنت شخصيا ضمن المجموعة الصغيرة التي أسست ذلك التيار والتي ضمت الرفيقين محمد عباس فهمي وطاهر البدري. أما شهدي عطية فقد تم تعذيبه وقتله بالمعتقل في يونيو 1960 في سياق تداعيات جريمة التآمر مع عراقيين. ومن المفارقات أن الذين قامروا وأجروا المساومات تم إلحاقهم بنظام عبد الناصر وتم بعد ذلك استيعابهم في نظام أنور السادات.

أترك تعليقاً

التعليقات