علي كوثراني

علي كوثراني -

في مملكة مسحورة، تقع في قلب جزيرة العرب، يُحكى أن كانت فيها عائلةٌ يولد أبناؤها أمراء، فلا يكون مَلك البلاد إلا منهم، وكذلك وُلاة المناطق، فيتربّون في بيوت السياسة والحكم منذ الصغر، في جوٍّ عائلي منقسم إلى فسطاطين، الأعمام لجهة زوجة من زوجات الجد المؤسّس، وباقي الأعمام من زوجاته الأخريات… فوثب حفيدٌ على المُلك، بالرغم من صغر سنّه وتخلّف ترتيبه بين الأمراء، متخطّياً بذلك كلّ من يسبقه من الأعمام وأبنائهم في الفسطاطين، ووضع يده على منصب اختُرع له، ولي ولي العهد، ثم سجن ولي العهد ومن لفّ لفّه من أمراء ورجال أعمال ورئيس حكومة بلد "شقيق" "على ظهر البيعة"، وأصبح ولي عهد أبيه الطاعن في السن، فأمسى قرار المملكة كلّه بيده.
ويُحكى أن هذه المملكة كانت ثالث الدول على مستوى البسيطة من حيث ميزانية العسس والجند، وثانيها من حيث استخراج الزيت من باطن الأرض، وأوّلها من حيث تصديره إلى باقي الشعوب، وقد بلغت من الغنى مبلغاً فاقت معه مُدّخراتها النقدية 737 ملياراً من دنانير الروم، إلى أن امتطى فارس الحزم صهوة قرارها، فسعّر نيران عداوة أبناء العمومة فيها، واستعدى حلفاء الأمس من وكلاء التديُّن الرسمي فيها، وشدّ الحبل على عنق باقي طوائفها.
أما في الخارج، فقد تآمر مع نظيره، ولي عهد ساحل عمان المتصالح، الذي لم يعد متصالحاً على ما يبدو، على إمارة صغيرة، مسحورة أيضاً، درجت العادة فيها أن يخلع الابن أباه، فانقطعت الشعرة التي ربطت مجلس تعاون جزيرة العرب. وشنّ حرباً على جار آخر، هو الأفقر بين الجيران إلى درجة لم يُسمح له فيها بالدخول إلى مجلس التعاون هذا، وقال إنه سيحسمها خلال أسبوع أو اثنين، فهدّم عمرانه وفرّق شعبه وذبح منهم من ذبح، ولم تنته حربه بخمسة أعوام، بدّد فيها من مدّخرات مملكته على أسلحة قيصر ما يمكن أن يغني به ويصون كل بلاد العرب، ولم يرفّ للعالم جفن، إلا عندما أمر بتقطيع شخص، ارتاب بأمره، بالمنشار، وتذويبه بماء النار، لا في جوف الصحراء، بل في سفارة بلاده في هضبة الأناضول، التي تنافسه على الحظوة في مجلس قيصر الروم، فكانت الفضيحة بجلاجل، وقرف العالم كلّه منه.
ولم يقف عند ذلك، بل هدّد جاره الأقوى في هضبة فارس، بحرب لم يتجرّأ قيصر الروم على خوضها، وأرسل في العلن لخطب ودّ ربيبة قيصر وشوكته في أرض العرب، باعثاً إليها غُرّاً ضاحكاً، ضحكت عليه نساؤها، وكان أقرانه وأسلافه قد استحوا من ذلك قبلاً عندما كانت الشوكة جارحةً، فلم يفعلوه إلا في السر، بينما تحمّست معه لذلك، وبعد أن كُسرت الشوكة، مملكةٌ تافهةٌ متهاويةٌ تسحب الجنسية من أبنائها وتعطيها للوافدين من بلاد السند والهند، تدعى جزيرة الريتويت، فاستجلب عليه بذلك سخط العرب والمسلمين.
أما جاره الأفقر، الأقرب والأخطر، الذي كان سعيداً قبل ظهور المملكة المسحورة، وصاحب الجالية الأكبر فيها، والذي كان الجد "المُؤسّس" قد أوصى بالانتباه إلى حساسية موقعه، فصبر على جحيم التدمير والمذابح، ولم يرضَ أن يخوض إلا حرباً شريفة، فأمسك أرضه ووطأت أقدام أبنائه التخوم الجنوبية للمملكة، أرض أجدادهم، وسيّر طيوراً أبابيل رمت آبار الزيت وملحقاتها بحجارة، عطّلت بضربة واحدة منها نصف إنتاج المملكة من الزيت، أي ما يزيد عن نصف عُشر إنتاج العالم كلّه، وقطعت ما يزيد عن ثلثي صادرات المملكة منه، وما يقلّ بقليل عن ثلثي عائداتها، وفعلت ذلك كلّه بوسائلَ ميسّرة وزهيدة التكلفة.
فما كان من قيصر الروم، إله الزيت في العالم الجديد، الذي كان منذ زمن قريب قد شدّ يديه على ضرع المملكة، فحلبت له خمسمائة مليار من دنانيره حلبةً واحدةً، والتي استنجدت به المملكة بعد الضربة، إلا أن عدّها ضد مصالحه، لا من الجار غير السعيد، بل من هضبة فارس، فأرعد وأزبد، وتمخّض عن مطالبة المملكة وأخواتها بعلاوة على الجزية مقابل حماية مستقبلية، فاتصل بفارس الحزم طالباً المزيد، واتصلت به جزيرة الريتويت التافهة من تلقاء نفسها عارضةً المزيد.
ولكن مهلاً، فإن الحكاية لم تُروَ بعد كاملةً، إذ إن لها سياقاً تجري أحداثها من خلاله، فهي ليست حكاية أمير أرعن غبي، أتى قومه بعمى بصر وبصيرة، يزيّن لهم بيع الزيت، كل ثروتهم، في سوق قيصر، وهو بعد في باطن الأرض، ليبدّد ثمنه كاملاً في سوق قيصر، ويحكم خمسين عاماً، فخرّب البلاد وشرّد العباد وبدّد الثروات وضيّع ملك آبائه ومات بحسرته شاباً…
إنما هي حكاية قيصر نفسه، وقد أفل عصر هيمنته، فانقلب الزمن وأهل الكوكب ضدّه، وبات يشدّ على أدواته، فتنكسر بين يديه واحدةً تلو الأخرى، وينقشع السحر شيئاً فشيئاً عن جزيرة العرب، وعن باقي العرب، فتعود القبائل والطوائف إلى رشدها، وتنظر في أمر نفسها، وتتفكّر في شأن بناء غد، تقبض فيه بيسارها على مُقدّراتها، فتوظّفها لحياة ورفعة أبنائها، وترفع فيه يمينها، لتمنع دماءها، وتردع أعداءها، فينقطع الضجيج، ويكون لها، لجميعها، كلمةٌ واحدةٌ مسموعة، وحكايةٌ تروى.
*  كاتب لبناني

أترك تعليقاً

التعليقات