علي كوثراني

علي كوثراني - كاتب لبناني -

في نهاية الأمر قد يضطر الجميع إلى اتخاذ إجراءاتٍ قاسيةٍ لمواجهة الكورورنا. أما عندما تفتتح بعض الدول الأوروبية الغنية مواجهتها للكورونا بسياسة "مناعة القطيع" (Herd Immunity) أو بطرح هذه السياسة للنقاش حتى، وتحديدا بعد أن شاهدنا الصين تقاتل الوباء بشراسةٍ وتشارف على الانتصار عليه، فلا بد لنا أن نسأل: لماذا؟! 
ما هي سياسة "مناعة القطيع"؟ ببساطة: ترك المرض يأخذ مداه. تقول النظرية إن إصابة 60% من التجمع البشري بفيروس معين ستؤدي إلى تطوير مناعة مكتسبة لدى هذا التجمع، بعد خصم 2% من هذه التجمع كوفيَّات.
طبعا، هناك شكوك حول دقة هذه النظرية، وحول القدرة على تطبيقها في عالمٍ مفتوحٍ كعالمنا الآن، وحول دقة نسبة الوفيات، وحول الآثار الدائمة للمرض عند الناجين منه. والأكيد هو أن اعتمادها ينطوي على مخاطرة كبرى بحياة ملايين البشر من الذين يمكن إنقاذهم. 
ولكن لماذا تنحو بعض الدول الأوروبية الغنية هذا المنحى؟! هل هي عاجزة عن محاولة إنقاذ الجميع، أم غير راغبة بتحمُّل تلك الأكلاف أصلا؟! بطبيعة الحال، من المبكر الجزم بهذا الخصوص، ولكن مع ذلك يبقى من المفيد الإشارة إلى بعض الحقائق الديموغرافية والتاريخية.
إذا أخذنا طبيعة البنية السكانية لأوروبا الغربية ونسبة وحجم الشرائح العمرية فيها بعين الاعتبار، حيث أدى انخفاض نسبة الإنجاب وارتفاع معدل الأعمار إلى تقليص الفئات العمرية المنتجة واتساع الفئات العمرية غير المنتجة والتي تحتاج إلى تقديمات اجتماعية مكلفة...
وإذا نظرنا أيضا إلى الاتجاه العام السائد في أوروبا الغربية لتقليص التقديمات الاجتماعية للمواطنين، الاتجاه الذي أتى تحت وطأة شح منهوبات مركز النهب الغربي على إثر صعود الصين وروسيا وغيرهما ممن يقفون بوجه نهب ثروات الكوكب، مما أدى إلى تقلُّص حصة اقتصادات أوروبا الغربية المكملة للنشاط النهبوي للمركز، وبالتالي عدم كفاية ما يصل إلى أوروبا من منهوبات لتغطي كلفة التقديمات الاجتماعية تلك...
وإذا علمنا أن المسنين وذوي المشاكل الصحية، بوجهٍ عام، هم الحلقة الأضعف عند تفشي الكورونا، والأكثر حاجة للعناية الطبية المكلفة...
في هذا السياق، لا تبدو المسارعة لاعتماد سياسة مناعة القطيع مباشرة، أو حتى المسارعة لطرحها، حلّا للكورونا بقدر ما تبدو انتهازا لظرف الكورونا للتخلي عن الفئات المعتمدة على تقديمات تلك الدول، ولـ"تشحيل" ما تيسَّر من المسنين الذين باتوا "عبئا ثقيلا" بعد اختتام سنين خدمتهم الطويلة لتلك الاقتصادات الناهبة، وكذلك بالنسبة لباقي ذوي الحاجة من غير القادرين على خدمة تلك الاقتصادات.
بطبيعة الحال سيجد أغنياء هذه الدول الأوروبية من المسنين وغير المسنين، الذين يتربعون دون قمة هرم النهب العالمي مباشرة (ذلك إن انتقل مركز النهب الغربي إلى أمريكا الشمالية حيث تقف قمة هرمه الآن)، الكثير من الطرق لتلقي العلاج عبر سبلٍ خاصةٍ وغير رسمية.
إذن، فإن سياسة "مناعة القطيع" لن تطال طبقات النهب العليا في أوروبا، بل المتوسطة والدنيا، وستطالها بشكلٍ انتقائيٍّ، بحيث توفِّر حظوظ النجاة لمن مازالوا ينشطون في تحريك اقتصادات النهب هذه، لا لمن يشكلون عبئا ماديّا عليها.
بناء عليه، عندما يكون النشاط الاقتصادي للمركز الغربي وتوابعه الأوروبية هو النهب العالمي، فلا بد أن نبحث عما يخدم هذا النهب في تحليلنا لسلوكياتهم، بدلا من أن نقف مشدوهين أمام انعدام الإنسانية عند الناهبين وأمام تقديمهم مصالح وسلامة طبقات النهب العليا على مصالح وسلامة طبقاته السفلى، وكأن طبقات النهب العليا ذات التاريخ الملطخ بالدم والتي لم تخجل من تسمية شعبها بالقطيع في هكذا ظروف ستخجل من أن تتعامل معه كقطيعٍ لا كبشر.
ختاما، عندما تم بناء سفينة التايتانيك الهائلة في مطلع القرن المنصرم، احتفت بها بريطانيا العظمى، سيدة الكوكب وجلاده في حينها، بالسفينة الجبارة التي لا تغرق. ولأن القدر لا يخلو من حس السخرية والدعابة، غرقت التايتانيك في أول رحلة لها، ووصلت إلى قعر المحيط كقطعٍ متناثرةٍ، بدلا من أن تصل كاملة إلى الشاطئ الشرقي لأمريكا، وكما اليوم تماما، ولم يكن على متن التايتانيك ما يكفي من قوارب نجاة. حينها أيضا، وُزِّعت القوارب القليلة على طبقات النهب العليا، وتُرك القطيع ليكتسب فنون السباحة بين جبال الجليد، والمناعة من التجمد والغرق.

* كاتب لبناني

أترك تعليقاً

التعليقات