بعيداً عن السياسة
 

بثينة شعبان

بثينة شعبان -

جلست أمام التلفاز مستجمعةً كلّ قواي وذاكرتي عن الماضي والحاضر، ومحاولةً أن أستوعب بعمق ما أراه وما أسمعه أيضاً، رغم كلّ ما يعترضني في الوقت ذاته من مشاعر الحزن والقلق على شعب حمل مفاتيح دياره في صدره لعقود ماضية، رافضاً أن يتخلّى عن أرضه وتاريخه وحقوقه في العودة وفي بناء دولته.
كان استعراضاً للقوة على حساب ضعف وتشتت واستهانة بكلّ التاريخ والقرارات والشرعية الدولية والحقوق والمنطق. لقد كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يعبّر عن أننا نحن في هذه القاعة أناس أقوياء، وأخذ يذكر بعض الأسماء التي عملت على هذه الصفقة، والتي بذلت جهوداً حثيثة لإيصالها إلى هذه النقطة المهمة والتاريخ المهم من وجهة نظره، ولم يغفل أبداً أن يذكِّر شريكه بنيامين نتنياهو، بالقرارات الجريئة التي اتخذها لصالحه وصالح كيانه، وأهمها انسحابه من الاتفاق النووي الإيراني، واغتياله للقائد قاسم سليماني، وفي كلتا الحالتين أمسك بيدي شريكه، ووقف الحضور مصفّقاً لحجم الإنجازين. 
للزيادة في تسلية الحضور، طمأنهم ترامب إلى أنّ التردّد الذي كان يعاني منه الرؤساء الآخرون لا مبرّر له على الإطلاق، وقد اكتشف ذلك بغاية البساطة؛ إذ إنه اعترف بالقدس عاصمة لـ»إسرائيل»، ولم يحدث شيء، واعترف بضمّ الجولان إلى «إسرائيل»، وبشرعية المستوطنات الإسرائيلية، ولم يحدث شيء، واكتشف أنّ كلّ ما كان يُسمّى الضغوط التي تُمارَس على رؤساء الولايات المتحدة لا قيمة لها، وأنه ببساطة اتخذ قراره وأخبر كلّ من حاول الاتصال به أنّ الوقت قد فات، وأن لا شيء يمكن تغييره اليوم. 
ولم يفته أن يذكر أن لديه فريقاً من الخبراء الذين سيضعون خريطة طريق لتنفيذ كلّ ما تمّ التوصل إليه من قرارات، وأنّ هؤلاء سيضعون المهل الزمنية مع برامج استثمارية، مطمئناً صديقه نتنياهو إلى أنّ «جيرانه» سيبدؤون الاستثمار في مشاريعه المقبلة بمليارات الدولارات، ولاسيما أنّه أكّد وأعاد التأكيد أنّ «إسرائيل» ستكون واحة للديمقراطية والازدهار. 
كان هناك سيناريو آخر يمرّ شريطه في ذاكرتي وأنا أشاهد لغة الجسد السعيدة لكلّ الحاضرين، والتي لا تقيم وزناً لكلّ من عداهم خارج قاعة الاحتفال هذه، كان شريط الرفض اللفظي لكلّ ما يعتري هذه الأمة والشعب، والذي استمرّ على مدى عقود من دون أن يتحوّلَ إلى خطة أو رؤية أو آلية عمل حقيقية توضع متطلباتها وترسم مراحلها ويبدأ المسؤولون عنها بالتنفيذ. 
كان شريط الانقسام والتبعثر والتشتّت، بحيث نشهد فصائل ومنظمات وإدارات مختلفة ومتناقضة أحياناً مع أنّ الهدف الأساس والمعلن هو تحرير الأرض، واستعادة المقدّسات والحفاظ على القدس وضمان حقّ العودة. 
في هذا الشريط الثاني الذي كان يسري بالتوازي مع ما أراه وأسمعه وما يثير بي من حزن على هذه الأمة، والاستخفاف الشديد بحقوقها ومواقفها وطموحات شعبها، كنت أرى وأسمع خطباً طنّانة موجّهة إلى الإعلام والناس كي تشكّل مخدّراً ما، أو تسهم في خلق وهم ما، وهو أنّ الأمور بخير فقط لنستيقظ في اليوم التالي ونعلم أنّ «كلام الليل يمحوه النهار» وأنّ كلّ ما قِيل وكلّ ما تمّ الادعاء به يفتقر إلى الصّدق في القول والعمل، ويفتقر إلى وحدة الكلمة ووحدة الموقف، ووحدة الصّف والقناعة والإيمان، والتي هي شروط أساسية ولا بدّ منها لإنجاح أيّ جهد هادف بهذا الحجم وبهذه المهمّة الصّعبة. 
لقد أمضى الكثيرون عقوداً وهم يلعنون الظلام، وفي الوقت ذاته يشهدون على ضياع الفرص يوماً بعد يوم، وقضم الأراضي، وتهجير المسلمين والمسيحيين من ديارهم المقدّسة، بينما يعاني الأسرى أشدّ المعاناة في سجون الاحتلال، ويدفع الكثير من المؤمنين بقضيتهم ثمناً باهظاً قد يكون حياتهم، ولكنهم يدفعونه فرادى وليس كمجموعات عمل تخطّط وترى وتتابع، ويبقى العمل والنهج مستمرين مهما ارتقى من القادة شهداء وجرحى وسجناء. 
أي إنّ العمل بقي فردياً أحياناً، ومزاجياً أحياناً أخرى، ولم يصل إلى مرحلة توحيد الجهود؛ كلّ الجهود الداخلية والعربية والإقليمية والدولية، لمعالجة وضع محقّ لا يمكن أن يتنكّر له صاحب منطق في العالم لو أنه تمّ استخدام الأدوات الكفيلة باحترام واستعادة هذا الحقّ. 
عالمان يسيران أمامي وأنا جالسة من دون حراك غير قادرة على الخروج من هذا المسار، ومن كلّ التناقضات التي اعترته، وكلّ الأخطاء التي أوصلته إلى هذه المرحلة من دون أن يمتلك أحد الشجاعة ليقول دعونا نتوقّف قليلاً، ونسأل السؤال أين أخطأنا وأين أصبنا؟ وما هي العوامل التي أوصلتنا إلى هذه المرحلة الصعبة والمعقّدة؟ بل إنّ الإصرار على قول الكلام الذي لا يوصل إلى أيّة محطة، وعقد الاجتماعات التي تراكم بياناً تلوَ الآخر منذ عشرات السنين ولا أحد يهتمّ حتى بقراءة البيان أو أرشفته أو العودة إليه، كلّ هذا مستمرّ رغم علمهم علم اليقين أنّه لن يؤدي إلى شيء، ولن يغيّر في المعادلة أو على الأرض شيئاً. 
أنظر في السيناريو الأول وأقول هل ألوم من استثمر في تاريخ من الضعف وعدم الصدق والمراءاة لكي يخدم أهدافه هو ويحقّق له ولمن يقود كلّ الفوائد والقطاف التاريخي، معتمدين على أخطاء الآخرين وإصرارهم على عدم المكاشفة وعدم الصدق، أم ألوم من عقد الاتفاقات ومثّل في أحداث أوهم شعبه أنها مهمّة لإنصافه وهو يعلم علم اليقين أنها لن تعود إليه بفائدة تُذكر؟ هل تلوم الضحية من يستهدفها وهي مدركة أنه يتحيّن كلّ فرصة للانقضاض عليها بشتّى السبل، أم أنه كان عليها أن تعدّ العدّة السليمة والصحيحة والناجعة للدفاع عن نفسها، وحرمان الأعداء النيل منها؟ 
تاريخ من المكابرة والقفز فوق الوقائع وعدم وضع الأولويات في ترتيبها الصحيح، والاعتماد على لغة التخدير وعدم الصدق مع الذات والآخرين، يجب أن يتوقف، فقد بلغ السيل الزبا، وأصبح الخطر داهماً وحقيقياً ولا مجال لدفعه إلّا بتبنّي أسلوب مغاير تماماً، واجتراح أدوات ترقى إلى حجم المعركة المصيرية، والتي هي اليوم واقع  أكثر من أيّ وقت مضى، وعلى نتائجها يعتمد مستقبل الأرض والأوطان والأجيال، إمّا لهم وإمّا عليهم، والقول الفصل هو للعمل الجادّ الصادق والمخلص والهادف، فهو من دون شكّ الطريق الوحيد إلى النجاة ولا طريق سواه.


#بنت_الأرض
*المستشارة السياسية والإعلامية للرئاسة السورية

أترك تعليقاً

التعليقات