عندما تقدم القنوات مراسليها قرابين لقناعات مطابخها الخفية
RT قلبها معنا وسيفها مع داعش

«روسيا اليوم» ليست هي روسيا الأمس.. فالقناة التي بدأت بثها باللغة العربية عام 2007م، قدمت نفسها للمشاهد العربي باعتبارها «مشروع جديد من صديق قديم».. يصدق هذا التوصيف - فقط - عندما يتعلق الأمر بتغطية القناة للأزمة في سوريا، بينما ينقلب رأساً على عقب في تغطيتها للأحداث في اليمن إذ لا المشروع يعود جديداً ولا الصديق يبقى صديقاً..
تستخدم القناة المصطلحات ذاتها في البلدين: (الجيش والقوات الحكومية تتقدم؛ والجماعات المسلحة تندحر..)، إلا أنها تعني بها حالين مختلفين من منظورها الذي تكشفت فصاميته أكثر فأكثر مع بدء العدوان السعودي الأمريكي على اليمن في مارس 2015م.. (فالجيش والقوات الحكومية التي تتقدم) في الحالة اليمنية؛ ليست - في الواقع- إلا (الجماعات المسلحة التي تندحر) في الحالة السورية.. جماعات إخوانية وهابية إرهابية تحاربها روسيا الدولة بشراسة في سوريا وتبارك (روسيا القناة مجازرها وإرهابها في اليمن، وتصف عصاباتها المجلوب معظمها من شتى أصقاع الأرض بـ (الجيش والقوات الحكومية).
فأين يكمن الخلل الذي يجعل القناة تتناقض في نقلها للأحداث بين بلدين يتعرضان لمؤامرة واحدة من حيث الأهداف والأدوات؟! هل يمثل موقف القناة موقف القيادة الروسية إزاء المشهدين السوري اليمني؟! أم هو موقف القناة؟! وإلى أي مدى يؤثر انتماء مراسلها في اليمن على سياستها الإخبارية ومنظورها لطبيعة الأحداث؟!
تعرف (روسيا اليوم) نفسها على صفحتها في الويكيبيديا بأنها قناة (شبه حكومية) مقرها العاصمة موسكو، وتتبع مؤسسة (تي في - نوفوستي) التي تصفها بـ (المستقلة وغير التجارية)، ويدير القناة (مرغريتا سيمونان).
لا تخفي القناة صلتها بدوائر صناعة القرار الروسي، ما يعني أنها في المجمل ملتزمة بالمصالح القومية للدولة الروسية بقيادة (فلاديمير بوتين) الذي دشنت القناة بثها في طور بزوغ نجمه كزعيم وطني يسعى لإعادة الاعتبار (لروسيا الاتحادية) التي فقدت جل وزنها في العقد التالي لانهيار (الاتحاد السوفياتي) وإبان رئاسة (بوريس يلتسين).
تفصح السياسة الإعلامية لـ (آر - تي)  من خلال مجمل برامجها عن رغبة رسمية قومية شديدة للعودة إلى مسرح الحضور القديم في (الشرق الأوسط) لكن عبر مقاربة وطنية نفعية جديدة متحررة من العبء الأيديولوجي القديم لـ(روسيا كمركز للإمبراطورية الاشتراكية مجازاً).
تتناول القناة الماضي السوفياتي بطريقة فيها الكثير من (التسفيه)، وترسم لتكريس مشروع وجود روسي مركزي مؤثر في نطاقه الأوراسي والشرقي عموماً - صورة لدب ناهض بمخالب ثقافية متباينة ومختلفة، يذود واقفاً بصلابة، ذئاب المؤامرات الغربية التي لا تزال تستهدف تصفية وجوده وتمزيقه عبر تغذية التناقضات الإثنية والدينية لمجتمعات روسيا الاتحادية.
روسيا الدولة وروسيا القناة ليستا من الترف بحيث ينخرط كلاهما في مضمار صراع نفوذ أبعد من حدود مهمة الدفاع عن وجود قومي مهدد بالتلاشي، وبناءً عليه فإن دورهما في الشرق الأوسط موقوف على الحاجة الملحة لحماية الوجود الروسي في حده الأدنى جغرافياً وتاريخياً، دون تجاوز هذا الدور إلى حماقة التفكير في استعادة النفوذ القديم المفقود للإمبراطورية السوفياتية المنهارة.
بالنسبة لسوريا فإنها تحضر ضمن حدود القدرة الروسية على الفعل وفي نطاق قواعد الاشتباك الجديدة للدب، بوصفها البلد العربي (الشرق الأوسطي( الوحيد الذي لا تزال صلاته دافئة ومستمرة بالتواتر القديم ذاته مع الدولة الروسية، والبلد الوحيد الذي لم يشرع أبوابه لنفوذ غربي بديل على أنقاض الحضور الروسي وبالضد له.
سوريا - إذن - ليست بلداً استعادته روسيا، وإنما بلد لم تفقده طيلة عقود الحرب الباردة وعقب انهيار الاتحاد السوفياتي وسيطرة الأحادية القطبية؛ على النقيض لما هو عليه الحال بالنسبة لليمن.
تعكس هذه الحسابات الحذرة وغير الجزافية في التعاطي الروسي إزاء الشرق الأوسط؛ نفسها على خطاب (آر - تي) الذي يغدو بفعل هذه الحسابات خطاباً يتوخى المصلحة الروسية وليس الحقيقة.. 
هكذا فإن القيمة الإخبارية لحقيقة الأحداث في سوريا بمنظور القناة مساويةٌ لقيمة المصلحة القائمة فعلاً، بينما تتحقق القيمة الإخبارية في اليمن من تلافي الحقيقة عوضاً عن نقلها طمعاً في مصلحةٍ محتملة آجلة.. 
تنقل (آر - تي) في العادة أخباراً وتقارير اقتصادية تشير إلى تنامي نشاط الشركات العقارية الروسية في السوق الخليجية؛ لذا فإن إثبات صفة (التحالف العربي) في التعبير عن (العدوان) الذي تتعرض له اليمن يبدو اتساقاً مع مصلحة روسية سياسية في الحفاظ على مستوى حضور اقتصادي نسبي لروسيا في سوق العقارات الخليجية، لا اتساقاً مع الحقيقة.
وإذ يحضر (الفارّ هادي) في تناول القناة بصفة (الرئيس الشرعي) كامتداد لما يمكن أن نعتبره تأكيد روسيا الدائم التزامها بالمواثيق والاتفاقيات الدولية، فإن إطلاق صفة (التحالف العربي) على عدوان سافر وحصار همجي يطال اليمن، يدحض هذا الالتزام، ولعل تصويت مندوب روسيا في مجلس الأمن على القرار (2216) الذي يشرعن بأثر رجعي للعدوان والحصار، هو محاولة لتطبيع نشاز موقفها الآنف مع (النواميس الأممية) التي تؤكد التزامها بها.
إن دول الخليج لم تعد (دول البترودولار والرجعية العربية) كما هي في الخطاب الإعلامي السوفياتي البائد الذي تتبنى (روسيا اليوم) إنجاز القطيعة معه، وفتح آفاق جديدة لعلاقات قائمة على منظور نفعي مع (دول الخليج) تحديداً والعالم عموماً.
عدو (روسيا) ليس (عدو الطبقة العاملة)، بل من يتآمر على الغاز الروسي عبر محاولة مد أنابيب لتزويد أوروبا بالغاز (الخليجي القطري) كي يضرب ورقة النفوذ الروسي الأثمن في الغرب الأوروبي.. 
على هذا المنوال تفرز (موسكو) أصدقاءها وأعداءها اليوم، وتبلور (آر - تي) سياستها الإعلامية وفقاً له.
في غضون أسابيع من تدشين العدوان السعودي الأمريكي على اليمن، عمدت (الرياض) إلى وقف حرب نفطية باردة كانت قد شنتها بإيعاز أمريكي، لخفض الريع النقدي الروسي المتحصَّل من عائدات بيع النفط بأسعار مرتفعة مستقرة، وصولاً إلى جعل خزانة (موسكو) تفلس.
وبذلك تملقت (الرياض) الدب الروسي الغاضب بمصلحة عاجلة وإن بدت مؤقتة فإنها أثمرت تبرير القرار (2216) وجعلت خطاب (روسيا اليوم) أقرب إلى خطاب وسائل إعلام دول العدوان، بالنقيض لما هو عليه في المشهد السوري.
بين انتماء المراسل ومصلحة القناة 
معظم مكاتب القنوات الفضائية الدولية أغلقت في العاصمة اليمنية صنعاء تباعاً منذ اندلاع أحداث 2011م وصولاً إلى بدء العدوان السعودي الأمريكي على اليمن في مارس 2015م.. وإذ يحتمي مراسلو القنوات كالجزيرة - العربية - سكاي نيوز، بكنف الجماعات المسلحة التابعة للتحالف ويزاولون عملهم بلصوصية في العتمة ومن مناطق سيطرة تلك الجماعات، فإن (روسيا اليوم) هي القناة الوحيدة التي تنشط رسمياً وفي الضوء ومن قلب العاصمة صنعاء، على الرغم من انحيازها السافر لصف عصابات التحالف.
يبدأ مراسلها تقريره بالحديث عن استعدادات (التحالف العربي) لعملية (تحرير صنعاء) من (الانقلابيين)، ويتحدث عن الضربات )الموفقة لطائرات التحالف)، وينتقي مداخلين ذوي مواقف متقاربة وشبيهة بما يمكن تسميته (موقف القناة) ثم يختم تقريره من وسط شارعٍ عام في صنعاء.
وللقناة مراسل في (عدن) وآخر في (تعز) ينقلان الأحداث من زاوية نظر تحالف العدوان، ويواكبان نشاط مرتزقته على الأرض بوصفهم (مقاومة)..
لا يتعلق الأمر قطعاً بانتماء المراسل، فاستمرار عمل القناة بصنعاء وعدن على السواء، يقلل من أثر انتماء المراسل على توجه القناة الذي يجعل من عملها في عدن ممكناً لأنه يتماهى مع )موقف التحالف)، كما يجعل من عملها في صنعاء ممكناً لأنه يراهن على حاجة القوى الثورية لمهادنة القيادة الروسية وتلافي خسارة حليف محتمل إذا ما أقدمت على إغلاق مكتب القناة (شبه الحكومية) التابعة له والمعبرة عنه بصورة مباشرة وغير مباشرة.
في ظل هذه المقاربة الروسية السياسية الإعلامية النفعية للأحداث في اليمن، يغدو من اليسير على مراسليها تسريب قناعاتهم وانحيازاتهم تحت ستار تسامح القناة البالغ مع تلك القناعات، إلا أن أثر المراسل في موقف مركز القناة يغدو مستبعداً وهامشياً، إذا ما استبعدنا (تسامح القناة).
في العادة فإن وسائل الإعلام الأجنبية تلجأ لابتعاث موفدين من المركز لتغطية الأحداث أثناء النزاعات المسلحة والحروب، إذ أن مراسليها المحليين يغدون - بالضرورة - طرفاً في النزاع.. عدا ذلك فإن القنوات تعتمد صياغة معلومات مراسليها مركزياً، بوصفهم مصادر مجهَّلة في أحداث مماثلة.
لا تبدو (روسيا اليوم) مضطرة إلى أن تفعل ذلك في اليمن لتضمن استمرار عملها وتوفر الحماية لمراسليها.
وعوضاً عن أن يتلطى المراسلون لتسريب قناعاتهم بالقناة، فإن العكس هو ما يحدث، فالقناة هي التي تتلطى بالمراسلين لتمرير قناعاتها تاركةً إياهم عرضةً للاتهام وخطر ردات الفعل الاجتماعية عليهم.
إن المشاهد العادي لا يرى كواليس القناة ومطبخ خطابها الإعلامي...
وفقط يرى مراسلها الذي يتجول أمام ناظريه فيصفق له أو يقذفه بالحجارة.. وفي الحالين فإنه يبقى المتهم الوحيد في مرمى الرأي العام البسيط لا سيما في زمن العدوان والمجازر الجماعية.