هكذا وقعت وسائل إعلام العدوان في الفخ
الـدلالات المواربـة في خطــاب سيــد الثـورة التعبـوي الأخيـر
استراتيجيــة ابتغــاء القــوم

دون تبديد الوقت في تقييم جديَّة العدو من عدم جديته، وصدقية المجتمع الدولي من عدم صدقيته، في الجنوح لخيار الحل السلمي ودعم تسوية سياسية عادلة في اليمن، يطل سيد الثورة السيد عبدالملك الحوثي، ليجلو غبش المشهد، ويعيد تصويب بوصلة الرؤية إلى حيث يتعين أن تشير دائماً أوان الحرب وأوان السلم على السواء..
(إن الأرض ليست واحةً للسلام.. وإنما ساحة مليئة بتحديات وتدافع وأخطار، يقتضي خوضها امتلاك القوة كبدهية موضوعية، تتجلى في أن لكل أمةٍ جيشاً، وفي أن كل أمة تسعى لتكون الأقوى دفاعاً عن نفسها حيناً، وبهدف الاستحواذ والتوسع على حساب الآخرين أحياناً كثيرة..)..
تلك هي حقيقة الحياة على الأرض، والتي لا حظ فيها ولا وزن ولا وجود لمن ينكسون الرؤوس أمام عواصفها وأعاصيرها طلباً للسلامة، أو يحسنون الظنون بالجبابرة والمستكبرين فيها تهيُّباً لكلفة النهوض بواجب مقارعتهم وردعهم، فتكون العاقبة عليهم أوخم وأفدح وأبهظ أكلافاً من أولئك الذين اختاروا المجابهة وأعدوا لها عدتها ونهضوا طائعين بضريبتها، غير هيابين ولا مترددين.
ولولا كائنات التخوت والخدور والأرائك وشرائح منصات الفرجة بانتظار انفراج زهيد الثمن، لكان بالإمكان (إلحاق الهزيمة بالعدو مبكراً)، بينما الظفر والفرج والسلامة في مناكبة الأمواج ومغالبة التحديات، ولا أمثل من مركب الجهاد مركباً لبلوغ ضفة الحياة الكريمة الحرة المستقلة الوازنة فعلاً وفاعلية وندية ذات.
لقد ألحق العدو بنا ـ دون استثناء لهذه الفئة أو تلك ـ عظيم الأذى قتلاً وتشريداً وإهلاكاً لمقومات وأسباب ومداميك معيشتنا، غير أن (ما يريده العدو ـ وفق سيد الثورة ـ ليس إلحاق الأذى بنا مادياً واقتصادياً فحسب، وإنما السيطرة المباشرة القائمة على الحقد، وقهر وإذلال شعبنا واستباحته أرضاً وعرضاً وقراراً.. وقد برهن العدو عملياً على أنه لا حرمة بحسبانه لشيء في اليمن، بما في ذلك المسالمون والمحايدون..).. والذين لم يتبينوا بعد نوايا العدو هم ضحايا واهنة تطالها بشاعة العدوان ولا تنال شرف المجابهة وريع النهوض بواجب الجهاد.
وإذ يستنهض سيد الثورة الهمم بمنطق تتآزر فيه معطيات الواقع الموضوعي البيِّنة، ولسان قرآني مبين، لا يتيح لشوائب الوهابية الداعشية أن تلبس دلالة الجهاد على الأذهان كما هو حاصل اليوم، فالجهاد الذي أراده الله هو نقيض ما تسوِّقه دواعش الدوائر الاستعمارية من بشاعة وجرم وهتك للأعراض والحرمات وعدوان وخروج على نواميس الفطرة السوية والقيم الإنسانية، تحت يافطة (جهاد)..
إن الجهاد الذي أراده الله هو ـ على النقيض من ذلك بالكلية ـ وسيلة للدفاع عن المستضعفين وعتق رقاب المقهورين من ربقة عبودية المستكبرين والطغاة، وصولاً إلى ما هم جديرون به من حرية وآدمية كريمة، وهو بهذا المعنى يغدو سلاحاً أممياً لا غنى للشعوب المستضعفة عنه بامتداد خارطة العالم وعلى اختلاف أديانها ومعتقداتها..
إن سيد الثورة هنا لا يستحث الهمم المحلية حكراً إلى الجهاد دفاعاً عن رقعة جغرافية مستهدفة بعينها هي اليمن، بل يتجاوز هذا الأفق الانعزالي إلى الأفق الرحب للجهاد دفاعاً عن القيمة الإنسانية الجمعية للوجود البشري المستهدف زرافات ووحداناً بجنازير الدهس والامتهان الامبريالية المعولمة من (خليج بنما) إلى (خليج عدن) بلا استثناء، وبقدر ما يغدو الجهاد مسلكاً أممياً وثورة مستمرة، فإن الأخذ من شرفه ووفرة مردوده يغدو مشاعاً للقيمة المستحقة للفرد الآخذ به أو الجماعة بناظم صدقيتها في التوق لحياة كريمة ووعيها بالصراع وأهبتها للتضحية في سبيل لحظة حرية مديدة قوامها الشهادة أو النصر..
قليلون جداً أولئك القادة الذين بلوروا من كفاحهم الشعبي المحلي في مواجهة الغزاة والمحتلين، مفاهيم أممية ألهمت الشعوب قاطبة خياراتها التحررية، وألهبت جذوة أرواحها للكفاح بوعي وطهر مسلك ونبل ونصاعة غاية.
وفي هذا السياق من أممية النهج التحرري، كان المهاتما غاندي أحد أبرز القادة الذين برعوا في تجاوز أسيجة العزلة المحلية صوب الأفق الرحب لمعنى الكفاح، حين زاوج بصورة خلاقة بين (الجهاد) كقوة روحية قرآنية هائلة من جهة، وبين المفهوم الهندوسي لـ(الحقيقة) في نورانيتها من جهة أخرى، مشتقاً مصطلحه الشهير (قوة الحقيقة ـ الساتاجراها)، وإذ كانت القوة القاهرة للاحتلال البريطاني للهند متمثلة في تعبيد الشعب الهندي للسلع الإنجليزية بقوة احتكار الغرب للماكينة الصناعية وافتقار الهند للمعرفة والتقانة وانفساحها مرغمة تحت ضغط الحاجة كسوق للسلع الأجنبية، فقد رأى (غاندي) صائباً أن الكفاح الأنجع هو كفاح الصيام والمقاطعة، الذي أفضى بالفعل لانتزاع الاعتراف باستقلال الهند في نهاية المطاف.
وفيما يملي سياق المواجهة في اليمن في صورته الراهنة اشتباكاً مسلحاً، فإن سيد الثورة السيد عبدالملك الحوثي، لا يعلي كثيراً من القيمة التقنية للسلاح، في معرض حديثه عن الجهاد وفي مفهومه للقوة، بل يؤكد ـ خلافاً لذلك ـ أن المقارنة في مقام الجهاد ليست بين ما يحوز عليه العدو من عتاد كماً وكيفاً قياساً بما في أيدي المجاهدين، فقوة المجاهد هنا تكمن في مستوى استشرافه للأخطار المترتبة على التقاعس، ووعيه بطبيعة العدو، واستشعاره العميق بمؤازرة قوة الله الحق له وثبوت نصرته يقيناً للصابرين في مقام الجهاد، وبهذا لا يعود لفارق العتاد والعدد قيمة ناظمة لمآلات الاشتباك العسكري، وشتان بين مقاتل في سبيل كرامته وعرضه وأرضه وحريته امتثالاً لأمر خالقه، وبين معتدٍ يقتل ويفجر في عدوانه طمعاً في درجة عالية من الحظوة لدى (الإدارة الأمريكية الجديدة..) بما يرفع مكانته إلى منزلة (وكيل أول حصري) لمشروع الهيمنة والاستكبار العالمي، كحال المملكة السعودية التي ينوه سيد الثورة إلى كونها (عميلاً يدفع لسيده ثمناً عن عمالته ولا يبتغي منه أجراً عليها سوى قبول سيده به كعميل ورضاه عنه).
وكما لا يعود الفارق فارق عتاد عسكري في مقام الجهاد، فإن طبيعة العدو وذهنيته وأبعاد ومغازي تحركاته العسكرية على الأرض، لا تعود لغزاً عصياً على فهم المجاهدين الذين يغدو بوسعهم (استيعاب خطط العدو ومواجهتها بخيارات شتى، من خلال مفاجأته في حساباته ومعلوماته، وصولاً ـ ليس فقط إلى كسر زحوفاته عبر تكتيكات دفاعية ـ وإنما تنفيذ هجمات استراتيجية خلف خطوطه وفي عمقه، مصداقاً لقوله تعالى: (ولا تهنوا في ابتغاء القوم...)...).
إن قراءة خطاب سيد الثورة المتلفز الأخير بخصوصيته التعبوية، هي فخ وقعت في شراكه وسائل إعلام العدوان حين ذهبت تتسقط قرائن على (انهيار بنية ومعنويات الانقلابيين)، حد تعبيرها، من خلال تنويه سيد الثورة إلى النواقص وجوانب القصور في الأداء القتالي والتعبوي، غير أنها لم تفطن إلى أن الخطاب انطوى على قرائن تشير إلى تحول نوعي جرى الإعداد له جيداً، بما ينقل مسار الاشتباك العسكري القائم من تماس الدفاع الناجع إلى نجاعة الهجوم الفذ المفتوح على حسابات الميدان وريوع النشاط الاستخباري المذهل للجيش واللجان والأجهزة الأمنية اليمنية.
وبالربط بين عبارة الاستهلال في خطاب السيد (كان يمكن إلحاق الهزيمة بالعدو مبكراً)، التي تفيد بأن ذلك لا يزال ممكناً، كما وحثه الجيش واللجان على انتهاج استراتيجية (المبادأة والمبادرة في ابتغاء القوم)، يمكن الخروج باستنتاج له طعم اليقين، مفاده أن ما كان ممكناً للسعودية أن تتداركه من هيبة وسيادة في جنوبها، لم يعد بالإمكان تداركه، وأن جنوب اليمن لم يعد محمياً بقواعد الاشتباك التي التزمها الجيش واللجان إزاءه، لا سيما وقد نكثت قوى الحراك الموالي للعدوان بها..
وثمة أمر آخر يجدر على المجتمع الدولي أخذه على محمل الجد، سيتمخض عنه هذا التحول الوشيك في مسار الاشتباك:
شرايين الملاحة البحرية الدولية لن تكون بمنأى عن شظايا مواجهة لا مناص من خوضها أمام المقاتل اليمني الذي أثبت حتى اللحظة رزانة رده الناري وكفاءته، و.. الخيار متروك لمنصة الفرجة الأممية!