علي نعمان المقطري / لا ميديا -

أسلوب فرم لحم العدو: اشتهر هذا الأسلوب الحربي في حرب أكتوبر العربية ضد إسرائيل عام 73م، بهدف تحييد قوة طيران العدو وتفوق مدرعاته ودباباته وتقنياته.
موجــز فـي استراتيجيـات الحـرب الوطنية التحررية
وقد ابتدع الأسلوب المذكور عملاق العسكرية العربية الفريق سعد الشاذلي قائد الجيش المصري العابر لقناة السويس، ويقوم هذا الأسلوب الحربي على أن تسارع قوات المشاة للصاروخية المضادة للدروع بالمبادرة إلى احتلال المواقع المرتفعة والرملية في نطاق المظلة الجوية الدفاعية وحفر الخنادق والتحصن خلفها ثم استدراج العدو انتظاراً لهجوم الدبابات المعادية مباشرة على مواقعهم ثم تدميرها كلما اقتربت من مواقعهم بالمدافع والصواريخ والقذائف المضادة للدروع دون أن نضطر إلى الخروج إلى الميدان المكشوف، بل تكون هي في حالة مكشوفة عند التقدم، أما الطيران المعادي فيكون قد حيد عن المشاركة لحماية الدبابات بسبب الصواريخ المضادة للطيران الثابتة والمحمولة المخفية والمحمية جيداً.
ويدخل هذا الأسلوب القتالي ضمن مفهوم الهجوم بالدفاع الاستراتيجي، أي أن الهجوم التحريري يجري من مواقع دفاعية حصينة، ومن خلال تدمير قوات الخصم المدرع وهو في حالة التقدم والاستدراج المكشوف أمام تحصن صاحب الأرض واستعداده للمعركة الهجومية الدفاعية.
وقد أثبت هذا الأسلوب فعاعليته الكبيرة خلال المعارك شرق القناة، كما أثبت فاعليته في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأيضاً في الحروب الوطنية الشعبية حين يكون التوازن في العتاد العسكري مختلاً بين القوتين من ناحية الطيران والمدرعات والتقنيات وغيرها من القوى التي تكون في صالح الغازي.
وفي يوم واحد تم تدمير بضع مئات من الدبابات الإسرائيلية، وفي اليوم الثالث كانت سيناء بكاملها قد أُفرغت من الدبابات المعادية، حيث بلغت أعداد الدبابات المدمرة للعدو في الأيام الأولى أكثر من ألف دبابة قتال، فلم يبق للعدو في سيناء إلا 30 دبابة فقط اضطرت للانسحاب إلى المواقع المرتفعة على الحدود، وأصبح الطريق مفتوحاً أمام تقدم سريع للجيش إلى الممرات المصرية الجبلية، وكانت قوات العدو ماتزال مدمرة ولم يتمكن من تعويضها، قبل أن تعيد تعبئتها وتعويض قواتها ودباباتها المدمرة عبر الجسور الجوية الأمريكية المنتظمة.

اختلاف التكتيكات بين الجبهتين السورية والمصرية ونتائجها
أما على الجبهة السورية فقد أخطأت الحسابات بناء على تضليل الخائن السادات لها بقصد خياني للمساومة عليها مع الأمريكيين والإسرائيليين من خلف ظهرهم، وهي مثال بنتائجها لمدى الانهيار الذي يسببه تحالف غير نزيه مع حليف خائن.
كان اختلاف العقيدة العسكرية واضحاً في رؤية الجانب السوري للعدو، وعلى أساسها أقام تكتيكاته واستراتيجيته الحربية، والخلل الأساسي هنا يكمن في تجاهل حقيقة تفوق العدو في المجال الجوي وفي الدبابات عدداً ونوعاً وفي الدعم الأمريكي المباشر والهائل، وفي اعتبار أنه يمكن كسب المعركة ضد العدو بالمفاجأة الهجومية وحدها والتقدم العميق المستمر دون توقف بعد اختراق جبال الجولان والهبوط نحو سهول فلسطين الشرقية دون الأخذ في الاعتبار تكتيكات العدو الممكنة وخياراته خلال المعارك الأولى وما بعدها.
في الجانب السوري لم يستفيدوا من إمكانات الدفاع والمعركة الدفاعية الضرورية عند الحاجة بعد السيطرة على مرتفعات الجولان المسيطرة على مساحات واسعة شرق فلسطين المحتلة، فلم يملؤوا الفراغات التي خلفها العدو في مواقع المرتفعات التي تم دحره عنها بقوات دفاعية تتمسك بالمواقع التي تمت السيطرة عليها منعاً لاحتمالات استعادتها من قبل العدو لاحقاً، فبعد أن حقق الجيش السوري المفاجأة ودحر العدو من مواقعه عن الجولان بكامله، راح يلاحق العدو المنسحب داخل سهول المنطقة الغربية للجولان، وبعيداً عن المظلة الصاروخية الرئيسية، وهنا في الخلف أقام العدو كمائن الدبابات دفاعياً في مواقع مرتفعة قليلاً حيث انتظر تقدم الدبابات السورية المتوغلة بكثافة، ووجه إليها ضربات صاروخية ومدفعية من مواقعه الدفاعية المتحصنة التي اتخذها، وهو بهذا سرعان ما استفاد من التكتيك الفعال الذي طبقه الجيش المصري شرق القناة.
وخسرت سوريا أغلب دباباتها القتالية في هذه المواجهات بعيداً عن قواعدها بعد أن كانت مسيطرة على المعركة وتراجعت قبل أن تعاني الحصار وقطع طريق إمداداتها إلى الهضبة منها بعد تحوله إلى الهجمات المضادة، بعد أن انكسرت الآلة المدرعة السورية في السهل الفلسطيني تعرضت لهجوم مضاد مدرع كبير راح يطارد القوات السورية المنسحبة ويحاول الالتفاف عليها من مجنباتها اليمنى وقطعها من جهة البقاع الغربي ولم يتوقف تراجعها إلا خلف الخط الدفاعي القريب من دمشق على بعد 20 كيلومتراً، بينما كانت محاور الوسط تتواصل فيها المعارك حول القنيطرة، ولولا وصول الدعم العراقي والعربي الكبير إلى جبهة سوريا خلال الأيام الأولى للحرب، لكان من الصعب إيقاف زخم الهجوم الإسرائيلي المضاد الذي أراد الوصول إلى دمشق.
وكانت أهم الدروس التي كشفتها مسارات المعركة هي:
1 ـ الجانب العربي لا يمكنه ممارسة أساليب الحرب الكلاسيكية وحدها في مواجهة عدو متطور الإمكانات والقدرات تقف خلفه الإمبريالية الغربية بأكملها مع الرجعية العربية التي تموله وتمونه وتحرضه وتدله.
2 ـ إن الدور الذي لعبته وأظهرته القوات الخاصة والكوماندوز والمشاة الصاروخية والعصابات الشعبية المسلحة في مقاومة ومواجهة القوات الغازية المتقدمة المنتشرة دفاعياً خلف أراضيها ومواقعها الحاكمة، والتي تصبح خلف خطوط أي عدو متقدم يخترق المناطق المحررة أو يحاول الالتفاف عليها، قادرة على إنزال الهزائم المذلة بقواته الثقيلة التسليح على الأرض، أي استحضار دور المقاومة الثورية، فلم يكن هنا أي دور حربي مباشر للقوات الفلسطينية المسلحة في المعركة الدائرة في الجبهة السورية، مما ترك فراغاً خطيراً على مؤخرات الجيش الزاحف، وسهل عمليات الالتفاف عليه.
3 ـ إن الاستراتيجية المناسبة والفعالة لمواجهة العدو الأكبر قوة هي الجمع بين أساليب الحرب الشعبية الثورية والنظامية، أي بين الحرب السرية والعلنية، حرب العصابات وحرب الوحدات المنظمة، بين الحركية والدفاعية بمرونة، كما تمكنت قوات حزب لله في جنوب لبنان من هزم العدو الإسرائيلي مرتين.
4 ـ كانت وحدات القوات الخاصة قد قدمت أفضل النماذج في الصمود والنجاح في مواجهة العدو الثقيل المتجحفل، وكانت الملجأ الأمين الأخير عند الشدائد، ففي الإسماعيلية في مواجهة 6 ألوية إسرائيلية مدرعة وكوماندوز وميكانيكية وطيران تمكنت 5 كتائب صاعقة ومظلات مصرية من دحر القوات الإسرائيلية المعتدية التي أرادت احتلال الإسماعيلية والزحف نحو القاهرة غرباً، وفي حصار السبعين يوماً للعاصمة صنعاء من قبل العدو (السعودية) وعملائها لم يكن في العاصمة صنعاء من القوات سوى القوات الخاصة من الصاعقة والمظلات والمشاة وفي حدود 3000 مقاتل فقط، وقد تمكنت القيادة الثورية آنذاك من هزم ودحر جيوش المرتزقة التي تجاوزت المائة ألف مرتزق وآلاف الخبراء الأجانب بقيادة الجنرال الفرنسي بوب دينار وغيره.
وفي معارك غزو بيروت عام 82م تمكن الفلسطينيون واللبنانيون المقاومون من دحر إسرائيل ووقف هجومها الكبير بقوات فدائية خفيفة التسليح لا تزيد عن 10.000 مقاتل.
لماذا ظل العرب يخسرون الهجوم والدفاع ويخسرون الحروب مع العدو الصهيوني، بينما تتم هزيمته من قبل «مليشيا» شعبية ثورية صغيرة لا تمتلك دبابة أو طائرة واحدة؟ أين السر الكامن في الحالتين؟
ليس هناك أسرار في الواقع، بل هناك عقليات بيروقراطية طفيلية تفهم حقيقة واقعها، لكنها لا تريد أن تخسر مواقعها وامتيازاتها ومصالحها الخاصة، فتبقي على الأساليب القديمة التي لا تجني منها سوى الهزائم لشعوبها وجيوشها وضياع أراضيها، وهي ليست جادة في حربها ضد الإسرائيلي والأمريكي والإمبريالي، لأنها مرتبطة بمصالحها التجارية والاقتصادية بشركاته ومؤسساته المالية، وفي هذه البيئات تولد الخيانات للذات بالجملة، ولم يكن السادات خائناً فرداً، بل كان هناك آلاف الخونة حوله وقبله وبعده يولدون من فطريات المصالح المتشابكة مع الغرب الصهيوني.
  
دروس في الهزائم العربية
أهم الدروس الاسترايجية التي ظلت تتجنبها العقليات البيروقراطية ولا تقترب منها أبداً، بما فيها القومية واليسارية والعروبية، فهي لا ترى في الحرب العربية إلا مقارعة العدو بنفس المواد والأسلحة والمعدات والأساليب، أي تقليد العدو واتباع دربه وسننه، واعتباره المعلم والملهم والمرجع الرئيسي والوحيد لمدرسة فن الحرب، وكانت هذه المدرسة هي التي سيطرت على العقلية العربية القومية طوال 4 عقود، وكان أعظم انتصار عسكري استراتيجي حققته هذه العقلية والقيادة هو انتصار 56م في مواجهة العدوان الثلاثي الدولي في مدن قناة السويس، ولم يكن انتصار العقلية البيروقراطية، بل كان مناقضاً لها في الصميم، وإن تمكنت من تأميمه لصالحها لاحقاً، فقد تم تدمير القوات والمعدات الحربية من الجو والبحر بفضل الطيران الحربي المتفوق والقاذفات البريطانية العملاقة من طراز «كامبيرا»، وانهارت أعصاب القيادة العامة الحربية وطالبت القيادة الوطنية بالاستسلام للسفارة البريطانية في القاهرة، لكن صلابة الموقف الوطني الشعبي ووعي القائد البطل ونزوله إلى الشارع والمساجد والقرى والحواري الشعبية ومراكز التعليم والمرافق والحقول في الصعيد وبور سعيد وبور فؤاد وبور توفيق والإسكندرية والقاهرة والإسماعيلية، وهزائم العقليات البيروقراطية العسكرية ووقوفها جامدة مذهولة مشلولة أمام العدوان بعد أن ذاقت الضربات الأولى من طيرانه وبحريته.
وحدها المبادرة الشعبية إلى القتال ومقاومة العدو النازل من الجو ومن البحر في أوسع عمليات إنزال جوي وبحري بعد الحرب الكبرى، عشرات الآلاف من جنود القوات الخاصة والمظلية الفرنسية والإنجليزية تقذفهم بالمظلات وبالزوارق إلى البر المصري لإعادة احتلال مدن القناة مجدداً لخنق الثورة العربية القومية التحررية في كل ركن عربي مقهور من عدن حتى الجزائر وفلسطين.
وكان القائد من معارفه التي تلقاها خلال دراسته ثم تدريسه الاستراتيجية العسكرية في أكاديمية أركان الحرب، ومن خبرته ومعاناته الأولى في حرب فلسطين، فقد كانت التجربة العملية الوحيدة التي طبقوا فيها شيئاً من علومهم النظرية، وكانت فكرة حروب الشعب الثورية تطرق الأسماع في كل أرجاء العالم خلال الخمسينيات، وكانت خبرة ملاحم الصينيين والفيتناميين والعرب الجزائريين ضد المستعمرين وبأسلحتهم الخفيفة وأساليب حرب الشعب التي يطبقونها وتحقق لهم الغلبة، قد فرضت نفسها كخيار أخير ووحيد أمامهم، ولذلك اتخذوا قراراً بتوزيع السلاح على الشعب في مناطق التماس، وأرسلوا إلى تلك المناطق ضباطاً وجنوداً مختبرين ليقدموا المساعدة والخبرة والتدريب للشعب وفرقه المقاتلة التي تعبأت فوراً دون انتظار التعاليم من فوق بمجرد أن لامستها نيران العدو وقذائفه.
ومما يشهد لها بالدور الكبير في قيادة الحرب الشعبية كانت فرق القوات الخاصة الصاعقة والمظلات والمغاوير والعمليات ومشاة البحرية و«المليشيات» الشعبية هي أفضل القوى في معارك القناة ومقاومة العدوان الثلاثي على مصر، وسرعان ما انتكس العدوان وقواته التي تعرضت للضربات في كل مكان في المدن والأحياء والحقول والميادين والساحات، فالشعب المصري كله هب للدفاع عن الوطن والعرض والأرض، وكانت النعمة التي أنعم بها الله على الشعب المصري هي تدمير القيادات البيروقراطية وخسارتها المبادرة والهيبة والسطوة والقرار من بداية الهجوم، وخروجها من الدائرة المقررة للمعركة ومساراتها بعد انتقالها إلى المبادرة الشعبية وتحولها في أحسن الأحوال إلى مركز لوجستي للإمداد والتموين والإعلام والحرب المعنوية والنفسية والسياسية.