علي نعمان المقطري / لا ميديا -

منذ الاحتلال البريطاني للجنوب وعدن لم تتوقف الانتفاضات الشعبية فيها ضد الاحتلال وعملائه من السلاطين والمشايخ الإقطاعيين، فقد كانت قيادة المجتمع القبلي السائد بأيدي النخب العليا من القبائل الكبرى التي كانت قد شاركت الإنجليز في الملكية والسيطرة على الأراضي العامة للقبائل التي حولتها السلطات البريطانية إلى ملكية خاصة لصالح كبار الإقطاعيين والمشايخ والسلاطين المتعاونين معها لتحولهم إلى رأسماليين قبليين طفيليين في ظل حمايتها في وجه القبائل، ولذلك تعاون السلاطين والمشايخ الكبار وأصحاب المصالح مع البريطانيين في قمع كل حركة شعبية وتخريبها بشتى الأساليب، ولذلك كان مصيرها جميعا الفشل والإخفاق،
 فقد حافظت على الجهل والخرافات والحزازات القبلية والثارات وإشاعة العنف والاحتراب لأتفه الأسباب، ثم أطلقت على الشعب القبلي الغارق بالجهالة والتعصب أطلقت عليه جيشها من السلفيين والإخوان والوهابيين الذين مكنتهم من المساجد والتربية والتوجيه العام لأفكار التعصب والطائفية والمذهبية، في محاولة لإعاقة التفاهمات الوطنية التي كانت تنمو ببطء في المجتمع، لكن قيام ثورة 23 يوليو 1952 في مصر قلب التوازنات وهز جميع المعادلات القديمة في المنطقة، وبدأت الحركة الوطنية القومية تأخذ بعداً جديداً واضحاً، حيث عادت المنطقة تشهد موجات جديدة من الانتفاضات القبلية المناهضة للاحتلال، وتبلورت تدريجياً إرادة التحرر والانعتاق، وتراكمت المحاولات خلال العقد الأخير الذي كان زاخراً بالصراعات والمعارك. وكانت النخب الوطنية القليلة العدد المتمركزة في الجنوب وفي عدن وحضرموت ولحج كلها تتجه بعيونها شاخصة نحو قيادة الجمهورية العربية المتحدة في القاهرة كزعيمة لا تنازع للمسيرة العربية التحررية، وهكذا توفرت القيادة القومية المطلوبة للتحرر العربي.

حركة القوميين العرب
حتى نهاية الخمسينيات وبتأثير الإعلام القومي الحماسي في الجمهورية العربية المتحدة كانت الضالع قد انفجرت بانتفاضات شعبية قبلية عفوية بدعم من شمال اليمن مثل بقية العديد من القبائل الجنوبية، ولكن البريطانيين كانوا قد تغلبوا عليها، بحكم ضعف أسلحتها وتفرقها وعدم توحيدها في انتفاضة موحدة، واضطرت القيادات بعد ملاحقات عديدة إلى مغادرة المنطقة إلى الشمال ومنه إلى المهجر الخليجي بحثا عن العمل والاستعداد لجولات قادمة وإقامة بنية حركة وطنية منظمة. وكان علي عنتر وصالح مصلح وآخرون من الرعيل الأول من الوطنيين المناضلين قد انتقلوا إلى الشمال وإلى المهجر، وهناك في الكويت تعرفوا على فكر القومية العربية الاشتراكية بواسطة العمال والمثقفين والمعلمين الفلسطينيين المهاجرين هناك، وتلقوا الكثير عبر مجلة "الحرية" البيروتية التي كانت لسان حال القوميين العرب والثورة الفلسطينية، وعبر مجلة "الطليعة" الكويتية التي تعبر عن القوميين العرب في الجزيرة والخليج وتناهض الاستعمار والصهيونية والرجعية وتؤيد المشروع القومي التحرري الناصري بقيادة عبد الناصر.
كان فرع حركة القوميين العرب في الكويت قد استقبل الوطنيين العرب اليمنيين القادمين ونظمهم في صفوف الحركة القومية وربطهم بقيادة حركة القومية التحررية بالقاهرة، وأنشؤوا عدداً من الخلايا القومية من العمال اليمنيين المغتربين هناك، وقد امتد نشاط التنظيم إلى مناطق واسعة، وكانوا يعدون للعودة لمواصلة الكفاح الوطني التحرري الذي بدؤوه في السابق عفويا دون استعداد سياسي أو فكري أو عسكري، لأنهم لم يكن يقف خلفهم أي إسناد أو دعم سياسي كافٍ، ولم تكن لهم تصورات لطبيعة الصراعات الجارية في المنطقة والعالم وترابطاتها، ولم يفهموا أسباب فشلهم وفشل جميع الانتفاضات القبلية السابقة. كانوا بحاجة إلى قيادة استراتيجية سياسية وعسكرية وفكرية توحد جميع القوى المناضلة المستعدة للكفاح المسلح ضد المستعمر. كان الشعب قد مل من طول الحديث عن النضال السياسي السلمي لإقناع الاحتلال وقواته بالرحيل عبر المفاوضات وحدها.
ومما يدل على نضوج أسباب الوضع الانتفاضي الثوري في اليمن والجنوب هو توافر عوامل ثورية عديدة راحت تنضج وتكشف عن ذاتها في الواقع، أهمها كان: إعلان قيام حركة قومية يمنية هدفها الثورة ضد الاحتلال والاستبداد في الجنوب واليمن تتبناها مصر عبد الناصر تحمل اسم حركة القوميين العرب اليمنيين مرتبطة بالحركة القومية العربية الأم في القاهرة.
وفي العام 1958 نشأت حركة القوميين العرب في اليمن كحركة وطنية قومية ثورية تتولى تحريض وتنظيم وتوجيه وقيادة الشعب اليمني للثورة المسلحة ضد الاستعمار والطغيان، على أساس البرنامج التحرري القومي الذي نشرته قيادة حركة القوميين العرب في اليمن، الذي دعت فيه الأحرار إلى قيام جبهة قومية يمنية توحد المناضلين ضد الاستعمار والاستبداد والإقطاع والرجعية، وتقتصر تركيبتها على المؤمنين بالقومية العربية والوحدة العربية والوطنية والكفاح المسلح الثوري الشعبي ضد الاستعمار والرجعية والخونة والمستوزرين والعملاء.

التنظيم الثوري والوعي العقائدي

وبدأت تنظيمات القوميين العرب في اليمن والجنوب بدعم ناصري التحضير للثورة الشعبية المسلحة القادمة في الجنوب، وكانت بحاجة إلى قاعدة انطلاق داعمة من الشمال، أي لا بد من تحرير الشمال ليتحول إلى قاعدة ثورية ضد الاستعمار في الجنوب. وانغمس فرع القوميين العرب في الشمال اليمني في التحضيرات السرية للثورة بالتعاون مع تنظيمات الضباط الأحرار الشباب والقطاعات الوطنية القومية بين العمال والشباب والتجار والمثقفين.
وفي 26 سبتمبر 1962 تفجرت ثورة الشمال في صنعاء بقيادة الضباط الأحرار القوميين بدعم ناصري من القاهرة.
وعلى الفور نظم التنظيم القومي في الضالع وفي الجنوب بشكل شامل حركة دعم وإسناد للثورة في صنعاء وتعبئة وإرسال آلاف الرجال المتطوعين إلى صفوف الجيش الوطني الجمهوري.
كان تيار الفكر الوطني القومي الجديد جديدا حارا ومؤثرا وحماسيا يلهب مشاعر الوطنيين اليمنيين والجنوبيين في كل مكان من الضالع إلى عدن إلى تعز وصنعاء.
وشعر الأحرار في الجنوب والضالع ولحج وغيرها أن الثورة في صنعاء هي ثورتهم التي انتظروها طويلا لتكون قاعدة لتحرير الجنوب من الاستعمار والطغيان، ولذلك سرعان ما تجاوبت أراضي ومناطق اليمن والجنوب مع النداء الموحد الكبير، وهو حماية الثورة وتوطيدها في مواجهة المؤامرات والتدخلات الاستعمارية والرجعية السعودية والامبريالية، وسرعان ما تدفق آلاف الرجال الأحرار صوب صنعاء وتعز من كل مكان، ووصلت عشرات الآلاف إلى ميادين ومعسكرات الجيش الوطني الجمهوري من كل المحافظات الجنوبية والشمالية.
لكن ما ميز محافظة الضالع بشكل مختلف عن بقية المناطق الجنوبية واليمنية أنها وصلت إلى صنعاء للتطوع بتشكيل قبلي عسكري متكامل منتظم له قيادته ومجموعاته العشائرية والشعبية، وقد استقت قيادته نوعا من الوعي السياسي الوطني والقومي الثوري والترابط والتضامن والالتفاف حول قيادته ممثلة بالشهيد البطل الشيخ غالب بن راجح لبوزة، الذي استقطب مئات الرجال من قبيلته وأهله للقتال من أجل الجمهورية والثورة التحررية والوحدة.
وبهذه النواة الصلبة المحاربة والشجاعة والواعية توفر لأول مرة نواة الجيش الثوري الذي يستعد لمنازلة الاستعمار وعملائه، ولم ينجز هذ العمل مصادفة، وإنما سبقته جهود طويلة من التنظيم والتوعية بذلتها خلايا القوميين العرب داخل المنطقة، وعلى رأسها الشيخ الشاب لبوزة وزملاؤه من الحراكيين، الذين بذلوا جهودهم منذ وقت مبكر سبقت الأحداث وواكبتها بأفضل شكل وكأنها تطابقت تطابقاً عجيباً مع أحداثها ومتطلباتها والضرورات التاريخية والجغرافية السياسية والاستراتيجية للمنطقة التي يجب أن تصبح قاعدة انطلاق الثورة وساحة معاركها الكبرى ضد الاحتلال.