علي نعمان المقطري / لا ميديا -

من يقود التاريخ؟ وكيف انتقلت القيادة والسلطة والدولة بين الجماعات الاجتماعية الكبرى في المجتمع اليمني؟
ستظل مسألة انتقال السلطة والقيادة المجتمعية من جماعة اجتماعية إلى أخرى هي المسألة المركزية الأكثر تعقيدا في تاريخ المجتمع اليمني عبر حقب الانتقال الكبرى من مرحلة إلى أخرى ومن طور إلى طور أعلى من تاريخه، وتعبر عن ذاتها بالنزاع أو الخلاف حول القيادة والريادة والسلطة أو الملك أو الحكم والسيادة العليا بين الجماعات اليمنية الكبرى ذات الأساس القبلي والاقتصادي الطبيعي القديم والأصيل الذي تأسس عليها المجتمع اليمني منذ بواكير الحضارة الأولى في العالم قبل أكثر من 10 آلاف عام قبل الميلاد، ومازالت تتناسل في تجلياتها عبر العصور والأحقاب كقاعدة عامة تلجأ إليها كل الجماعات القبلية الكبرى في تأكيد مشروعية ريادتها للحكم في المجتمع أو في مطالبتها بالسيادة أو في التمسك بها أو في تأكيد أحقيتها ومشروعيتها.
وفي هذه المسألة يكمن جوهر تاريخ التحولات الكبرى على مستوى التاريخ الاجتماعي، تحولات الدول والممالك والحكومات والسلطات سواء بين أطراف الجماعات المتعددة أو بين الجماعة المسيطرة الواحدة ذاتها أو بين أطراف البيت الواحد الحاكم، وتختفي ضمن هذا الجوهر القواعد المنطقية والموضوعية التي تتحكم بنتاج التطورات والأحداث الكبرى وتحدد مآلاتها ودوافعها ومنطلقاتها في خطوطها العامة التي تسمح لنا وللأجيال التالية من المهتمين والباحثين والمؤرخين أن يكونوا صورا تقريبية مقاربة للواقع الموغل في القدم على ضوء الشواهد الباقية في آثاره وتراثه، وتشكل مفتاحاً أساسياً لفهم تاريخ بلادنا ومجتمعاتنا في الماضي والحاضر في وقت واحد.
إن عدم فهم الحاضر بشكل عميق يعود في بعض أسبابه إلى عدم الإلمام السليم المتكامل بالماضي رغم توفر المواد التاريخية المسجلة في أساسياتها، لأن التاريخ لا ينقطع بشكل مطلق على صعيد المجتمعات والأمم الحية، وإن تعرج واغتم وصعب فهمه لبعض الوقت، إلا أنه في النهاية لا بد أن يكشف عن جوهره عبر صفحات الزمن والطبيعة والعمران البشري، فالتاريخ يشكل وحدة متكاملة لا تنقطع دوائرها وحلقاتها، بل تتواصل مفرزة مفاعيلها ونتائجها ولو بعد حين، مادام الإنسان باقياً يواصل مسيرته، فهو صورة لحركته، والتاريخ قد يموت أصحابه وذواته وفاعلوه، أو يتغيرون، ومع ذلك لا تموت آثارهم ونتاجاتهم ومغارسهم وما أنبتوه من ثمار وأشجار وحياة وعوامل جديدة لصراعات وتوافقات جديدة لم تكن في الحسبان في السابق، ومنها ما تمتد آثاره طويلاً لتستمر أجيالاً وأقواماً وقروناً وأزماناً، ومنها ماتزول آثاره ونتائجه وتعقم بذوره ويموت غرسه ويفنى ويهلك، كلما واجه المجتمع تحديات مشابهة لتحديات الماضي أو مقاربة لها، كلما زادت حاجته إلى معرفة الماضي واستقراء خبراته في معالجة تلك المعضلات والمشكلات التي أقضت مضاجعه وأقلقت سكينته العامة.
إن المجتمعات لا ترتقي ولا تتطور بشكل مفيد ومجدٍ بشكل عشوائي، وإنما من خلال عقلنة حركته الحاضرة التي لا تتم إلا بمعرفة عميقة لخبراته الماضية وتجاربه ومضاره ومنافعه وتحولاته سلباً وإيجاباً، وأمامنا مصدران أساسيان؛ أولهما الشواهد والآثار الموجودة في بلادنا، والآخر ما حمله المهاجرون من أبنائنا إلى مهاجرهم الجديدة من آثار وشواهد وحضارات وثقافات ومعارف هي جزء من تاريخنا تركت بصماتها على تلك البلدان والأقطار المحيطة بنا الآن، وكانت امتدادا لنا ولحضارتنا تاريخيا وجزءاً أصيلاً منه. لا يمكن فهم تاريخنا اعتمادا على القسم الداخلي من الآثار والشواهد الباقية، بل من خلال معرفة الشواهد والآثار الأخرى الموجودة خارجه، ذلك أن حضارتنا قد تعرضت لتمزق مؤقت في تاريخها القديم بين حقبتين كبيرتين، الأولى هي الحقبة التي تمتد من فجر الحضارة الزراعية النهرية الأولى من قبل 10 آلاف عام تقريباً، وخلالها قامت الدولة الأولى ممثلة بالحكم العادي السامي الذي استمر بضعة آلاف من السنين، وحتى التحول إلى قيام الدولة القحطانية القديمة بعد صراع طويل حول السيطرة والسيادة من حوالي 5 آلاف عام بين الجماعتين الساميتين الكبيرتين المكونتين للمجتمع اليمني.
وكانت أوعية الحضارة الزراعية الأقدم هي أوعية جغرافيا الأنهار الكبيرة التي كانت تجري في الجزيرة العربية السامية من أطرفها وجوانبها ناشرة على ضفافها آيات من الخصوبة والجنان والحياة والعمار البشري الواسع في عصور كانت بقية الأقاليم حول الجزيرة السامية العربية أقل ملاءمة للحياة والتطور الحضاري والاستقرار والتمدن.
اعتمدت الحضارة اليمنية القديمة على الأنهار الكبيرة وما تقدمه من نتائج واحتمالات وخيرات وخصب ومدن وقرى واستقرار وعمار وحواضر وثروات وتجارة وأموال وتفاعلات إنسانية عميقة وخلاقة ومبدعة.
وعندما تعرضت لجائحة طبيعية كبرى هي جزء من دورات التاريخ الطبيعي التي أشار إليها التاريخ والقرآن في الكثير من آياته، حيث تعرضت الأنهار للجفاف والتصحر وقلة الأمطار وغور المياه في قلب الصحارى الواسعة التي كانت سهولا زراعية تشير إليها الآن كل الشواهد العلمية الحديثة.
تلك الجائحة التي لا حيلة لدفعها مباشرة حين قيامها مثل الطوفان العظيم الذي أكدته الدراسات الطبيعية أيضاً، الذي تعرضت له الجزيرة العربية في زمن غابر، والتصحرات التي شهدتها مناطقها، أدت إلى هجرة ضخمة للسامية القديمة الحضارية إلى مصر والشام العراق وغيرها، ونقلت معها حضارات مكتملة ناضجة، وأصلتها هناك في المهاجر الجديدة التي لم تتعرض لما تعرضت له تركيبة جزيرتنا العربية.

مراكز الحضارة اليمنية المدينية القديمة
كانت البحوث القديمة قد كشفت عن عدد من المراكز المدنية الحضارية في شرق وجنوب وغرب وشمال اليمن والجزيرة العربية، وهي الدائرة التي تمتد اليوم من مناطق عمان والمهرة وحضرموت والأحقاف والربع الخالي ومأرب والجوف ونجران وصنعاء وهضبة ذمار وإب وتعز ولحج، وهي الواقعة بين جبال السروات في الغرب والجنوب والشرق، حيث كانت مصادر منابع المياه المتجمعة من الأمطار الدائمة على الهضاب الجبلية والمرتفعات الجنوبية والغربية والشرقية والشمالية من الجزيرة العربية، حيث تصب تلك الأمطار المتدفقة على السهول الواسعة المطلة عليها تلك المرتفعات الماطرة من الشرق والغرب التي تشقها الأنهار المتكونة خلال ملايين السنين وتتغذى من تلك السيول والأمطار التي تصب في مجاريها.
ويعود تاريخ وجود الإنسان في هذه الأرض إلى بضعة ملايين من السنين، حسب ما وصلت إليه بحوث ومستحاثات علمية تاريخية دولية، وهو ما يشير إلى الإنسان اليمني القديم ما قبل الحضارة الذي وجدت آثاره في الجزيرة العربية، وتعود شواهده وأدواته البدائية التي خلفها إلى أكثر من مليون عام، وأكثر المناطق التي قدمت تلك المحفوظات القديمة من آثار وشواهد قديمة على نشاط الإنسان هي نفس المناطق التي شهدت بواكير الحضارة الإنسانية اليمنية السامية.
ومعروف اليوم أن السلالات البشرية الأساسية التي توزعت في جهات عديدة من الكرة الأرضية والمعمورة قبل 50 ألف عام، قد جاءت من آسيا وجنوبها الغربي على وجه التحديد،  وهذا ما أكده عالم التاريخ البريطاني الكبير توينبي وغيره من علماء التاريخ، مما يشير إلى أن الجزيرة العربية هي مصدرها الأصلي، وأن تمايزا بين السلالات والأعراق ذات الأصل المشترك قد تبلور نتيجة لعوامل وتباينات طبيعية وبشرية خاصة بكل جماعة أو سلالة بشرية اكتسبتها خلال تطورها الخاص حين كانت ماتزال تعيش أنماطا بدائية للعيش قبل اكتشافها الزراعة والحضارة والتمدن والاستقرار، فقد كانت محكومة بظروف توفر أسباب العيش القائم على الغابات المثمرة والصيد.
كانت الغابات المثمرة وكهوفها المؤقتة هي عالم الإنسان اليمني السامي القديم، لأنه دائم التنقل والترحال بحثا عن غابات جديدة أكثر فتوة وغنى وخصوبة، وضعف قدرة الإنسان القديم وتخلف أدواته التي لم تتجاوز العصا الخشبية والهراوة والحجر المصقول الحاد والعظام الحادة المشدودة إلى العصا، فلم يكن قد عرف المعادن والاستخراج والصهر والصقل والفنون، وربما كانت النار أعظم اكتشافاته حتى ذلك الوقت، وقبلها كانت اللغة والتفكير والوعي البدائي الغرائزي قد ميزته ومكنته من التقوقع والتحوصل حول خصوصيات جماعاته التي اكتسبت تجارب وخبرات خاصة بها، ولعبت التباينات الجغرافية النسبية لمعازله الجماعية التي سماها علماء التاريخ مرحلة البربرية الإنسانية السابقة للحضارة.
في تلك المرحلة البربرية التي سبقت الحضارة المدينية والاستقرار، كانت الجزيرة العربية قد فاضت بالجماعات البشرية التي تكاثرت وتناسلت طوال آلاف السنين، وأعادت إنتاج ذاتها الحيوية وسلالاتها وأجناسها وأعراقها التي حافظت على استقلالها الخاص، وتبلورت السلالات في تلك الحقبة، ثم أجبرتها التطورات الطبيعية والبشرية في الجزيرة وتوفر شروط ملائمة للعيش خارجها إلى الهجرة، حيث قامت هجرات كبرى للسلالات والأعراق نحو الشرق والوسط والغرب حيث تتوفر الأنهار والغابات والخضرة الطبيعية والماشية والحيوانات الوفيرة للتدجين والتربية والتغذي، وقد ظلت تلك الجماعات السلالية في مرحلة البربرية والتوحش والغابية، إلا أنها ظلت على اتصالات وروابط بمهاجرها الأقدم، ما مكنها من متابعة تطورات البشر في الأصقاع الأخرى الأساسية التي تحتاج إليها، لأن علاقات إنسانية عامة ظلت قائمة بين الجماعات السلالية وأصولها الأولى، واستمرت موجات الهجرة تتواصل دون انقطاع من الأجزاء الآسيوية الجنوبية والوسطى نحو الغرب والشمال، ولا شك أن تقلبات المناخ كان لها علاقة ارتباط وتسبب، فالمناطق التي تدفقت منها الهجرات الكبيرة إلى الغرب الأوروبي والشمال الأوروبي هي مناطق تسمى اليوم وسط آسيا وشرقها، وهي مناطق زحفت عليها كثبان الصحراء وجفت فيها أنهار سابقة وشحت أمطارها فصارت سهولاً صحراوية شاسعة قاحلة تسف في أرجائها الرياح والرمال طوال العام.