فرانك ميرمير - ترجمة: شهدي جمال -

عاصمة الشيوعيين العرب
إن العلاقات التي نسجها المناضلون اليمنيون والفلسطينيون داخل حركة القوميين العرب إبان الستينيات من القرن العشرين وأثناء معارك الدفاع عن جمهورية في الشمال، ومن أجل استقلال الجنوب، استمرت بعد تحقيق هذين الهدفين، وحُلّت حركة القوميين العرب عام 1970، وكان جورج حبش رئيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ونايف حواتمة رئيس الجبهة الشعبية الديموقراطية لتحرير فلسطين، من مسؤولي حركة القوميين العرب التي قاتلت البريطانيين والسلاطين ما بين 1963 و1967، وكان مناضلو هذا التنظيم عماده الأساسي. 
في عام 1967 سافر الفلسطينيان جورج حبش وهاني الهندي مع اللبناني محسن إبراهيم إلى مدينة تعز، سعياً للتوسط بين تياري الجبهة القومية، وكان التيار الأول يؤيّد الاندماج مع جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل، وهو تنظيم مناوئ دعمه النظام الناصري، في حين كان التيار الثاني يقاومه. ومن بين جميع الحركات المنبثقة عن حركة القوميين العرب، وعن جبهة تحرير عمان والخليج العربي داخل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وحدها الجبهة القومية نجحت في استلام السلطة.
خلال 20 سنة، أي ما بين 1970 و1990، أصبحت عدن عاصمة الشيوعية العربية وقاعدة خلفية للفلسطينيين. وإذ يقع اليمن الجنوبي في أطراف العالم العربي، فقد تحوّل إلى حَرَم "تقدمي" لأنه كان يحظى بحماية سوفيتية، وهي عنصر استقرار لنظام تتهدده الصراعات القبلية، والذي تعرّض لضربة قاضية أثناء النزاع العنيف بين تياري الحزب الاشتراكي اليمني عام 1986.
صحيح أنه كان على هامش العالم، ولكنه احتل مركز الصدارة في العالم الشيوعي العربي، إذ كان بمثابة معقل وقاعدة لوجستية له في آن.
لقد استقبل اليمن الجنوبي الشيوعيين العراقيين الذين فرّوا من قمع نظام صدام حسين، والشيوعيين اللبنانيين ومنظمة العمل الشيوعي في لبنان، الذين قدموا إليه للتدريب أثناء الحرب اللبنانية (1975 - 1990). ولعب عدد من المسؤولين اللبنانيين والفلسطينيين، وبينهم جورج حبش ونايف حواتمة وكريم مروّة ونديم عبد الصمد ومحسن إبراهيم وفواز طرابلسي، دوراً مهماً في تأسيس الحزب الاشتراكي اليمني عام (1975)، المنحدر من الجبهة القومية والاتحاد الديموقراطي للشعب وحزب الطليعة الشعبي (البعث سابقا). وكانت العلاقات بين الحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي في لبنان مع القادة اليمنيين الجنوبيين وطيدة جداً. وكان المسدس الشخصي لجورج حاوي، الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني، هدية من علي ناصر محمد رئيس اليمن الجنوبي. واستخدمت هذا المسدس (من ماركة ماكاروف) المقاوِمة سهى بشارة في عملية الاغتيال التي أقدمت عليها ضد رئيس المليشيا المتحالفة مع "إسرائيل" في جنوب لبنان، أنطوان لحد. وحاول جورج حاوي مع كثيرين التوسط بين الخصمين المتنازعين على رئاسة الحزب الاشتراكي اليمني، عبد الفتاح إسماعيل وعلي ناصر محمد. فسافر من دمشق إلى عدن عام 1985 ليقنع علي ناصر محمد بألا يعدم عبد الفتاح إسماعيل، وبأن يرسله إلى موسكو؛ على الرغم من المعارضة الأولية للسفير الروسي الذي كان يدافع عن أحقية هذا الأخير في السلطة. والتمس تيارا الحزب الاشتراكي اليمني من قادة الحزب الشيوعي اللبناني والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (جورج حبش) والجبهة الشعبية الديموقراطية لتحرير فلسطين (نايف حواتمة) التوسط بينهما للحؤول دون اللجوء إلى العنف، لا بل طار جورج حاوي إلى موسكو ليقنع عبد الفتاح إسماعيل دون جدوى بالعودة إلى عدن وبأن يصبح فاعلاً في النزاع الوشيك. وقاد مهمة الإمكانية الأخيرة مع نديم عبد الصمد، فتوجه إلى عدن محاولاً إقناع قادة الحزب الاشتراكي اليمني بإرجاء اجتماع المكتب السياسي المقرر في 13 كانون الثاني 1986. وباءت جهوده بالفشل لأنها لم تتمكن من إخماد ثورة العنف التي أدمت العاصمة لمدة 10 أيام تقريباً، مما أنذر ببداية النهاية لجمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية، وسرّع في عملية التوحيد مع اليمن الشمالي.
كان نظام اليمن الجنوبي يكلف عدداً من المهندسين المعماريين المناضلين الشيوعيين اللبنانيين بإنجاز بعض المشاريع، ومنها بناء "روك أوتيل" في حي التواهي (عدن) وتصميم مخطط مديني للمكّلا أو تشييد جامعة عدن. وفي "روك أوتيل" الذي أصبح الآن فندق 26 سبتمبر، كان يجتمع حاملو المسدسات ومنظرو الثورة العالمية. وجاء بعضهم ليعطوا الرفاق اليمنيين دروساً في الاشتراكية العلمية، وقدم غيرهم لإعداد العمليات "الثورية" الوشيكة. ووُضعت البرامج الجامعية بمساعدة الزعيم والمثقف الشيوعي اللبناني حسين مروّة، وساهم المربون اللبنانيون في وضع البرامج المدرسية. ولكن عدن لم تكن معبداً عصياً على الانتهاك؛ ففي حزيران 1976 اغتيل شيوعي كردي عراقي، كان أستاذاً في جامعة عدن، وأقدم على قتله في وضح النهار قطاع طرق متنكرون بثياب دبلوماسيين تابعين للنظام البعثي، فأوقفتهم الشرطة في سفارتهم، فانتقم النظام العراقي بتوقيف طلاب اليمن الجنوبي وطردهم من العراق.
وساهم عام 1982 عدد من الشعراء الشيوعيين العراقيين، ومنهم سعدي يوسف، في تأسيس دار نشر "الهمداني". وقبل ذلك بسنة، تمنّى سعدي يوسف لو يقام تمثال للشاعر رامبو في عدن يحجّ إليه الشعراء "سنوياً ويضعون تحت قدميه قرابينهم من الخمور والورود". وفي السنة نفسها، حاول سعدي يوسف، بصحبة مواطنه العراقي شوقي عبد الأمير والشاعر الفرنسي غولفيك، إقناع رئيس اليمن الجنوبي علي ناصر محمد بإطلاق اسم رامبو على شارع في حي التواهي، بعد بحث غير مثمر عن منزله في عدن. وبدلاً من ذلك، قبل الرئيس باستبدال اسم شاطئ غولد مور وتحويله إلى شاطئ أرتور رامبو، وبقي هذا القرار نظرياً وصار نسياً منسياً الآن. وكان مطعم "نشوان" تملكه الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكان الطبّاخون والخدم فيه لبنانيين؛ وكان يتردد إليه عدد من المناضلين اليساريين القادمين من جنوب لبنان. أما حصة الحزب الشيوعي العراقي فتمثلت في إدارة ملهى ليلي في عدن.
وكان اليمن الجنوبي قد أصبح "معقلاً ثورياً"؛ وفي سنوات قيامه الأولى، كانت تتهدده الجمهورية العربية اليمنية وحلفاؤها في شبه الجزيرة العربية الذين يمثلون "المعسكر الرجعي" المتحالف مع الولايات المتحدة. فدافع نظام عدن عن نفسه بتسليح حركات المعارضة المناوئة للسلطات القائمة، لاسيما لدى جيرانه المباشرين، أي الجمهورية العربية اليمنية في الشمال، وسلطنة عمان في الشرق. وكانت قاعدة الجبهة الوطنية الديموقراطية التي اعتمدت الكفاح المسلح في الشمال موجودة في عدن. وكان مناضلوها مرتبطين عضوياً بالحزب الاشتراكي اليمني، بشكل سري في البداية، لأن هذه الجبهة حافظت لمدة طويلة على رواية تقول إنها مؤلفة من تنظيمات مختلفة.
وكان اليمن الجنوبي يستقبل المناضلين القادمين من شبه الجزيرة العربية برمتها لينضمّوا إلى مليشيا "ظفار" التي كان لها في البداية هدف قومي متمثل أساساً بجبهة تحرير ظفار التي أخذت فيما بعد طابعاً أيديولوجياً وطموحاً جغرافياً متنامياً بتبنيها الماركسية وبتوسعها الطموح إلى شبه الجزيرة العربية بكاملها. وبالتالي غيرت اسمها بعد التحول الثوري لعام 1968، ليصبح "الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي المحتل". ومع أن حرب العصابات انتهت عام 1975، كانت ملصقات مناضلات ظفار هؤلاء ذوات البناطيل الكاكية القصيرة والشعر المجعد تزيّن غرف المناضلين الغربيين في الثمانينيات من القرن العشرين. ونجد هذه الصورة على غلاف الترجمة الفرنسية لرواية المصري صنع الله إبراهيم، الذي من خلال شخصية وردة، وهو الاسم الذي أطلق على عنوان الرواية، أراد الكاتب أن يُشيد بأولئك النساء المناضلات وبحرب العصابات في ظفار.

مفترق طرق أمام الثورة العالمية
منذ 1970، جعل الصعود المحتمل لحركات المقاومة الفلسطينية، والشطط الشديد الذي حل بأقصى اليسار الأوروبي الذي تبنّى القضية المناوئة للصهيونية، جعل من عدن محطة ومفترق طرق لعدد من هذه التنظيمات. إن علاقات مجموعة "المجال الخارجي" لوديع حداد، الذي استقلّ عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بالمناضلين الألمان المنحدرين من فصيل الجيش الأحمر ومن حركة 2 حزيران ومن الخلايا الثورية، وأيضاً بالجيش الأحمر الياباني، وبمنظمة "إيتا" الباسكية، وبمجموعات دانمركية وإيطالية، أتاحت الفرصة لجميع هذه التنظيمات أن تحط الرحال في المعبد الجنوبي اليمني، حيث كان وديع حداد يعمل تقريباً على هواه. وانزعجت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من علاقاته المميزة مع نظام عدن، واعتبرتها انتقاصاً لامتيازاتها وللنفوذ الذي يمكن أن تمارسه على "المجال الخارجي" وعلى رفاق الحزب الاشتراكي اليمني. ففُصل وديع حداد رسمياً من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في شباط 1976.
بدأ وديع حداد نشاطاته في عدن في بداية عام 1970، وخُصصت له فيللا في حي خورمكسر. وكانت هذه المدينة مركزية بالنسبة لفعاليات مجموعته ولمركز التدريب الذي أقيم فيها. ومع أن معسكر جعار عُرف باسم معسكر عدن، إلا أنه كان المعسكر الأهم. ويقع في منطقة أبين، ويبعد حوالي 70 كلم شرق عدن. وأصبح هذا المكان الصغير منذ التسعينيات من القرن العشرين أحد معاقل الجهاديين في اليمن، وبخاصة مع جيش عدن/أبين الذي شن العديد من العمليات وقام بخطف السيّاح. ويصعب التصور أن هذا المعسكر كان ما بين 1971 و1990 مركز التأهيل العسكري والأيديولوجي لمجموعة وديع حداد الذي اشتهر عالمياً بخطف الطائرات وأخذ وزراء خارجية منظمة الأوبيك رهائن في فيينا عام 1975، وتدرّب في هذا المعسكر كل من الفينزويلي إيليش راميريز سانشيز الملقب بكارلوس، وفوساكو شيجنونو رئيسة الجيش الأحمر الياباني، وهاغوب هاغوبيان (واسمه الحقيقي بدروس أوهانيسيان) مؤسس منظمة الجيش السري الأرمني، وعدد من الألمان التابعين لفصيل الجيش الأحمر، وحركة 2 حزيران، وعدد من الخلايا الثورية؛ ناهيك عن المقاتلين الفلسطينيين واللبنانيين، والأريتريين وبعض الإيطاليين (باستثناء الألوية الحمراء) والإيرانيين والأتراك والباسكيين والهولنديين والنيكارغويين والسلفادوريين...