علي نعمان المقطري / #لا_ميديا -

ليس أمام أمريكا سوى الانتحار أو الانفجار أو الاندحار في ظل ترامب وأمثاله، لأنها في جوهرها كذلك وفي صلب تكوينها الإمبراطوري الإمبريالي الجائر ما يقودها إلى الانتحار في نهاية مطاف أطوار تطورها ونهوضها ودخولها في طور تراجعها وشيخوختها وهرمها. فسلوكها الإجرامي القاهر للشعوب المستضعفة عبر العالم يخالف الفطرة الإنسانية وطبيعتها وأطوارها المتغيرة، وهي بقبضتها الحديدية الاستغلالية لا تعرف الرحمة ولا الشفقة، وهي كذلك دوما. ولذلك فإنها حين تضعف لا تستطيع البقاء في محيط يكثر حولها فيه أعداء شرقا وغربا وجنوبا وشمالا، وكلهم يشحذون سكاكينهم انتظارا لسقوط الوحش الهرم المجروح، حيث تحاصره السكاكين من كل جانب وجهة. فلا سبيل لأن يبقى بسلام في عالم أنهكه وجعله عالم دماء ونار وحديد وأشلاء ودولار ونهب واستغلال وظلم وفساد وقهر. وها هو الآن يشرب من نفس الكأس التي أسقاها المساكين والضعفاء والمقهورين في غابر الأيام.

فالإمبرطورية نظام للقهر بطبيعته، فلا توجد إمبرطورية رحيمة في العالم، بما فيها تلك التي أُلبست أثواب الدين وعباءات القديسين زورا. فلم يعرف التاريخ إمبراطورا رحيما أو طيبا أو تقيا ورعا، بما فيها الإمبراطوريات المسلمة والحكام المسلمون الملوكيون عربا وديلما وأتراكا وأكرادا وبربرة. لا فرق بينهم أمويين وعباسيين ومماليك، ما داموا أباطرة وملوكاً باطشين. فالإمبراطورية دولة فوق الدول، ومملكة فوق الممالك والإمارات والسلطنات التابعة لها. وعندما أراد الخليفة عمر بن عبد العزيز أن يتخفف من مظالم أهله (بني أمية) واعترف بأن بني أمية اغتصبوا الأمر من أهله، من عترة محمد النبي الخاتم، وأراد إعادة الأمر لعامة المسلمين ليختاروا بأنفسهم من يريدونه خليفة، ثار عليه بنو أمية وهم أهله وقتلوه مسموما.
والتاريخ يقول لنا صراحة من واقع أحداثه ووقائعه ما يجعلنا على بصيرة وبينة من الأمر، فلا نرمي الأحكام جزافا ولا نتعسف الأحداث. ونحن الآن في وارد أن نثبت طبيعة الإمبراطورية الإمبريالية الأمريكية التي تواجهنا في الميدان منذ ثلثي قرن تقريبا، كأفتى الإمبراطوريات الاستعمارية ووريثة الإمبرطوريات السابقة البريطانية والفرنسية والألمانية والعثمانية والروسية واليابانية والمجرية، بكل ما كانت تسيطر عليه تلك الإمبراطوريات الغاربة. وكلها تم إخراجها من التاريخ عبر ميادين الحروب أولاً، فلم تكن تلك الإمبراطوريات تعرف سوى منطق القوة والهيمنة والسيطرة، لا منطق العقل والقانون والحق.
وكما أخرجت أمريكا إمبراطوريات كانت قائمة سابقاً من التاريخ، فقد جاء أوانها وفقا للقانون نفسه وبالطريقة نفسها، أي عبر الهزائم في الميادين والتراجع في الاقتصاد واستنزاف القوى والقدرات واندحارها عن مناطق السيطرة السابقة أمام قوى جديدة، شعوبا ودولا وإمبراطوريات، وهذه هي دورة حياة الإمبراطوريات والدول والقوى، فلا شيء يبقى على حاله. 
التدافع مستمر والصراع متواصل والقوى تتغير وتتحرك من طرف إلى آخر بحسب الموارد والقوى والمزايا والثروات التي يختزنها، وللإمبراطورية قانون عام يسري على الجميع، فليس كل دولة يمكنها إعلان كونها إمبراطورية ولو رغبت، وإنما يجب أن تتسيد وتفرض إرادتها على الآخرين قهرا ومراضاة وإغراء ومشاركة ومناورة وخداعاً بحيث تجمع عليها بقية الكتل الغالبة في العالم الإمبريالي المسيطر التي تسلم إليها قيادة الغرب الذي يمثل الطرف المهيمن عالميا.
وعندما ورثت أمريكا دور القيادة الاستعمارية بين الدول الكبرى الاستعمارية الغاربة التي فقدت طاقاتها، وقدرتها على مواصلة السيطرة بمفردها وبقيادتها ماليا وعسكريا وسياسيا، فقد تولت أمريكا الدور القيادي للإمبريالية العالمية من خلال قوتها المالية والعسكرية والبشرية والاقتصادية والعلمية الضخمة، فقد كانت قوة ضخمة تعادل بقواها وحدها قوى العالم الرأسمالي مجتمعا اقتصاديا وماليا وعسكريا ودخلا قوميا وصناعيا واحتياط الذهب الأضخم في العالم، وأكبر ورشة صناعية عالمية للصناعة والزراعة والاكتشافات العلمية الحديثة. وبالإجمال كانت تسيطر على أكثر من نصف اقتصاد العالم، وقد اشترت المزيد من مجالات الثروة والنفوذ بالكثير من الأموال والقروض.

الإمبراطورية عبء على العالم وعلى ذاتها
الإمبراطورية، كسلوك سياسي، هي تنظيم حرب وسيطرة وإخضاع. وعندما تسقط الإمبرطورية المنافسة (العدو الرئيسي) يصبح بقاء الإمبراطورية نافلا.
ألم تسقط إمبراطورية الإسكندر المقدوني الكبير بعد أن أسقطت الإمبراطورية الساسانية أمامه؟ ألم تسقط الإمبراطورية المصرية القديمة بعد أن أسقطت إمبراطوريات الحيثيين والهكسوس أو الملوك الرعاة؟ ألم تسقط إمبراطورية البريطانيين بعد إسقاط الإمبراطورية العثمانية التركية على أيديهم؟ ألم تسقط إمبراطورية الفرنسيين بعد إسقاط إمبراطورية الإسبان؟ 
إن في طبيعة الإمبراطوريات قانوناً داخلياً يحكم بقاءها وفناءها، وهو أنها قوة خلقت لتوجيهها ضد اعداء الخارج، وبالتالي فإنها بعد الانتهاء من أعداء الخارج تتجه بمفاعيلها نحو قوى الداخل، أي نحو ذاتها، فإذا بتلك القوى الداخلية تتجمع ضد بقائها واستمرارها وتسعى إلى تفكيك محاورها وتقطيع مصادر حياتها واستمرارها، فلا يعود لها مبرر للاستمرار وفقا للتنظيم القهري القديم. ولكن الإمبراطورية تقوم أصلاً على محورية التنظيم القهري الدولي، ولذلك يكون إسقاطها ألوية خارجية داخلية معا، ولو لم يتم تفاهمات حول ذلك بشكل واعٍ وهذا وجه الموضوع، وهناك وجه آخر له، إذ تسقط الإمبراطوريات عندما تنهزم أمام أعدائها أو تندحر أو تتراجع، وإسقاطها يكون من داخلها بعد اندحارها أمام الأعداء في الخارج.
ألم تسقط الإمبراطورية الروسية العظيمة بثورة من داخلها بعد هزيمتها أمام اليابان في العام 1905 وأمام الألمان في الحرب العالمية الأولى؟ ألم تسقط الإمبراطورية الألمانية الأولى من داخلها بثورة جمهورية شعبية بعد اندحارها أمام الحلفاء في الحرب العالمية الأولى؟ ألم تسقط إمبراطورية نابليون الثالث بعد اندحاره أمام الألمان بثورة شعبية جمهورية من الداخل الفرنسي وإعلان كومونة باريس؟
فالهزيمة التي تؤدي إلى انحلال إمبراطورية من أعداء الخارج كثيرا ما تؤدي إلى انفراط عقد التحالفات بين القوى المكونة للإمبراطورية السابقة، وكثيرا ما تقود إلى انقلابات داخلية داخل سلطة النظام السابق نفسه في محاولات لإعادة إنتاج النظام القديم بصور جديدة مقبولة، لتلافي إنفاد حكم قانون التاريخ، ولكن النتائج تكون مغايرة لما أراد جميع الفرقاء في أغلب الأحوال حين تدخل على خط الصراع قوى جديدة نافذة قادرة على ترجيح كفة حركة النزاعات بما تضيفه إلى موازينها.

إمبراطوريات شائخة متوحشة
جميع تلك الإمبراطوريات لم تختف من مسرح التاريخ إلا إثر انتحارها في الميادين العسكرية الحربية بشكل رئيسي وهزائمها وخسارتها للحروب التي أثارتها أو شاركت فيها، وهذا قانون تاريخي يعبر عن الآلية الموضوعية لانزياح الإمبراطوريات واندحارها عن مسرح التاريخ والحياة في سياق التدافع بين قواها الفتية الشابة والشائخة. فكل إمبراطورية تضخمت وكبرت وشاخت تواجه تحديات إمبراطوريات أفتى وأكثر شباباً وأحدث وأقوى في ميدان التدافع والمنافسة، إمبراطوريات ما تزال ناهضة قوية جديدة وقادرة على الصمود وتحمل الأكلاف وأثمان الطموحات، وما يزال لديها الكثير من القوى والاحتياطات الكامنة، بينما الشائخة تكون قد أصبحت في وضع تفقد فيه بريقها وتستنزف احتياطاتها بدون تعويضات، ولا يكون أمامها إلا محاولات يائسة مجنونة ومقامرة لتلافي حكم التاريخ القاسي، والتي هي بأفعالها وسلوكها وسياساتها المتعجرفة والمتغطرسة والمجنونة تسهل وتسرع فعل القانون التاريخي وتعجل بحكمه.
وما أكثر الأفعال المجنونة التي تمارسها أمريكا في منطقتنا والعالم، وما أكثر جرائمها وحماقاتها وسفالتها ووقاحتها، وهي وقاحة تنبع من الشعور الزائف بالقوة القديمة التي كانت لها في غابر الأيام حين لم يكن هناك من يحاسبها على أفعالها الإجرامية، فهي تغتال الزعماء علنا، وتنقلب على الحكومات التي لا تروقها ببساطة بأمر من وزير خارجيتها أو موظف في مخابراتها، وكأنهم مجرد نفايات في فنائها الخلفي وترسل أساطيلها لإسقاط الحكومات التي لا تخضع لإرادتها، وقد قامت بذلك في أكثر من 100 دولة خلال القرن الماضي، وما تزال، فالسلوك الإمبراطوري لعنة عليها لا يفارقها أبداً ما حيت، ولم تبلغ مبلغها جميع الإمبراطوريات التي سبقتها طوال التاريخ البشري كله.
هل سمعتم عن إمبراطورية قتلت أكثر من 100 مليون إنسان من الهنود الحمر لتحل محلهم في قارتهم وبلادهم وتنهب خيراتهم دون أي مسوغ سوى الجشع للمزيد من الثروات والخيرات وبأحط الأساليب وأبشع الطرق، وتدعي أنها تنقل السلام بجيوشها ومخابراتها وعصاباتها وإعلامها، وأنها جيش الخير والشفقة والرحمة وحقوق الإنسان؟!
لقد قتلت من الفيتناميين وحدهم أكثر من 10 ملايين إنسان لكي تحكمهم بالقوة، وقتلت من الكمبوديين اللاوسيين والكوريين والصينيين أكثر من هذا العدد لكي تحكمهم بالقوة والإرهاب، وكانت مستعدة أن تقذفهم بالقنابل النووية لولا التوازن السوفيتي والصيني. وهي اليوم مستعدة لو وجدت الفرصة أن تقذف أي شعب من شعوبنا بالقنابل النووية والذرية، كما قتلت من العراقيين أكثر من 3 ملايين إنسان وطفل وقتلت في سوريا عبر وكلائها وضباطها وجنودها أكثر من مليون إنسان سوري لكي تمكن «إسرائيل» من الحكم، وإحاطتها بحكام من فقاساتها الصهيونية الوهابية من «النصرة» و»القاعدة» و»داعش» والتكفيريين.
ألم تستعبد ملايين الأفارقة في مزارعها الرأسمالية طوال قرون النهضة الأوروبية التنويرية؟ ألم تضرب اليابانيين بالقنابل الذرية في جزرهم وعقر دارهم مرتكبة أكبر الجرائم الوحشية في التاريخ؟
هذه هي بشائر الخير والسلام التي يتحفنا بها ترامب على طريق من سبقوه من الرؤساء الأمريكيين الرعاة المهووسين بالعنف والكراهية والاستعلاء.

إمبراطورية الشيطان
يقول ترامب في أحد تصريحاته إن جيشه أتى إلى المنطقة لكي ينشر السلام والخير، وهو جيش خير ووئام وحب وأزهار، بل إن وقاحته وسفاهته وصلت حد رفض طلب الحكومة العراقية الشرعية بمغادرة البلاد بعد ارتكابه جريمة اغتيال سليماني والمهندس في وضح النهار، حيث قال إنه لن يغادر العراق لأنه سمع من بعض عملائه أنهم يحذرونه من مغادرة العراق لأنهم لن تقوم لهم قائمة في غيابه.
فالشرعية في نظره لا تمثلها الإرادة الشعبية المعبر عنها عبر مجلس النواب المنتخب، وإنما هي شرعية عملائه وحدهم من الأقلية الصغيرة التي لا تحسب في ميزان القوى، وماداموا لا يريدون منها الخروج من العراق فستبقى بالقوة، لكن الأكثر وقاحة قولها إن هناك من الكرد ومن السلفيين من لا يريدون منها مغادرة العراق، هذه هي حجتها الآن.
وهو ما تقوله في اليمن من أن عبدربه استدعاها وطلب منها أن تبيد شعبه لكي يحكمه نيابة عنها، وذات المبرر في لبنان وسوريا.
إن ترامب ليس بابا نويل الذي يدس الهدايا في جيوب الأطفال في أعياد الميلاد، فهو لا يحتل البلاد ليعطيها لعملائه ليحكموها كما يتخيل البعض، وإنما هو يحصل منهم على صكوك بيع مزورة لما لا يملكونه مقابل الأموال والهدايا والعطايا التي يقدمها لهم، غير أن العملاء لا يحكمون أبدا وإنما يمتطون ويركبون كالأنعام ليبلغ الغازي مأمنه وأهدافه على أكتافهم وظهورهم التي يتم تسمينها طوال الوقت لكي تكون من القوة فلا يخيب الرجاء فيهم وهو يعلم وهم يعلمون ما عليهم فعله.
22 ـ 1 ـ 2020م