علي نعمان المقطري / لا ميديا -

السناتور الديمقراطي بيرني ساندرس رغم يساريته وعقلانيته الظاهرة الآن بالنسبة لترامب، فهو ما يزال يعتقد أن الجنون الأمريكي حالة فردية تتعلق بأشخاص معينين من الناس، وليس نتاجاً محتماً لطبيعة التاريخ الأمريكي وطبيعته الإمبريالية الاستعمارية المتوحشة والمتغولة والعنصرية والفاشية المغطاة بالشعارات الليبرالية والحريات الفردية الصورية. وهنا أزمة تحليل العناصر الإصلاحية الأمريكية، بمن فيها أكثرها يسارية التي تعتقد أنه يمكن إصلاح النظام بتغيير بعض أفراده الحمقى والمجانين، والإتيان بأشخاص إصلاحيين حسني النية، وتنتهي المشكلة، وبالتالي فهو ينطلق من المنهج نفسه الذي يستقي منه ترامب أفكاره، وإن تناقض ظاهريا معه، فهو الوجه الآخر من العملة.
النظام المتغول الاحتكاري، وفي كل مرة يبدأ فيها الناس بالتساؤل عن جدوى النظام ومشروعيته وجوهره، يلجأ إلى استباق التطورات السلبية المحتملة، لإجهاض أية تحركات تناقضه جذريا آتية من جهة اليسار الاجتماعي السياسي، عبر تقديم عناصر يسارية المظهر للفوز بمنصب الرئاسة، كما حصل مع بيل كلنتون وكيندي وأوباما، والآن ساندرز. وسواء فهم ذلك المرشح أم لم يفهم فإن النتيجة واحدة، وهي تقديم ممثل سياسي يروج لأهداف إيجابية غامضة تبعث الأمل من جديد في تحقيق الحلم الأمريكي، كما يسمونه، وهو ما كان بيل كلينتون يردده في خطاباته قبل وبعد عهده وخلال تحضيره لترشيح أوباما كخليفة له، مستندا إلى الخلفية الاجتماعية والسياسية والثقافية والعرقية لأوباما.
هل هناك فرق بين اليسار واليمين الأمريكيين بالنسبة للشعوب المقهورة من السياسات الأمريكية المتوحشة، ومنها شعوبنا العربية، خاصة الشعب الفلسطيني، وبالنسبة لـ"إسرائيل" أيضا؟!
الحقيقة، ومن خلال تجاربنا التاريخية، إن موقف اليسار أو اليمين الأمريكي من العدوان الصهيوني واحد من حيث الجوهر، وإن اخلتف الشكل والصورة والخطاب اللساني، حيث يكون اليمين أكثر فجاجة ووقاحة في التعبير عن تأييد الصهيونية والعدوان، بينما يكون اليساري أكثر حصافة في الكلام والتعبير، ومن ثم يكون تأثيره السلبي أكثر نفاذا حتى وهو يناقض اليمين في موقفه الصوري. ولا ننسى أن أخطر المعاهدات التي استهدفت العرب كانت عبر الرؤساء الديمقراطيين، خاصة كارتر وبيل كلنتون وأوباما، وهم ديمقراطيون محسوبون على اليسار. وقبل عقود شُنت العديد من الحروب العدوانية على الشعوب الأخرى من قبل قيادات ديمقراطية، مثل الحرب على كوبا في عهد كيندي، والحرب على فيتنام في عهد جونسون، والحرب على إيران في عهد كارتر.
وكان الرئيس الكوبي الشجاع فيديل كاسترو قد علق في إحدى مقابلاته الصحفية على محاولات نيكسون الخروج من حرب فيتنام قائلا: "إن معسكر اليسار الأمريكي (الديمقراطيين) هو من يشن الحروب، وإن معسكر اليمين الأمريكي (الجمهوريين) هو من يطفئها بعد أن يخسرها". وفي هذا التعليق الكثير من الحكم والدلالات الهامة لاستبطان طبيعة السياسة الأمريكية المخادعة والمتلونة.

خلفية السعار الأمريكي الرجعي
الجنون الاستراتيجي السياسي ليس حالات فردية نادرة، وإنما العقلانية هي الاستثناء والنادر والشاذ في أمريكا ومؤسساتها وثقافتها. ولا شك أن لهذه الظاهرة أساساً كامناً في تاريخها وتكوينها وبنيتها.
إن أصل هذا السعار الأمريكي يظهر مع تفاقم أزمات وتناقضات الإقطاع والرأسمالية الغربية الطفيلية، فهو سعار يمثل مزيجاً مشتركاً رأسمالياً طفيلياً إقطاعياً إمبراطورياً، يتصاعد توحشا عند مرحلة تغول الطبقات الرأسمالية الإقطاعية وتوحشها كرد فعل على الثورات والانتفاضات الشعبية الجديدة في أوروبا، التي جاءت بمبادئ حقوق الإنسان والمواطن والحريات والحقوق العامة وفجرتها الثورة الفرنسية وما أعقبها من أصداء وحركات التنوير الثورية التقدمية وأدت إلى تصدع المجتمعات القديمة الاستبدادية.
لقد انتزعت أمريكا استقلالها بعد حرب شعبية تحررية بقيادة الرأسمالية الأمريكية الطفيلية الغابية التي حكمت البلاد بأساليب تبدو في الظاهر ليبرالية ودستورية وقانونية، ولكنها في حقيقتها وجوهرها كانت مظاهر لا أكثر، لإخفاء التغول الرأسمالي المسيطر على المال والثروة والأرض والعباد. فقد كانت طبقة العبيد والعاملين قسرا في المزارع والمصانع هي التي تنتج الأرباح بينما لا يصل إليها منه شيء، بل إن دستورها قد حرم العبيد والهنود الحمر والسكان الأصليين والفقراء من أية حقوق سياسية أو انتخابية أو قانونية. وإلى عصر الرئيس إبراهام لينكولن في نهاية القرن التاسع عشر ظلت العبودية هي الشكل الرئيسي للاستغلال والإنتاج الزراعي، ولم تنتهِ إلا بعد حرب أهلية ضروس ولسنوات بين شمال البلاد وجنوبها.
إن روح الطبقية والعنصرية والفاشية والاستعمارية تصاحب الطبيعة الأمريكية في كل الظروف والمواقف والمتغيرات، فهي طبيعة أصلية فيها، لا يمكن إلغاؤها أو إزالتها طالما استمر النظام الاستعماري نفسه، وهي طبيعة نمت مع نمو الشخصية الأمريكية على أرض العالم الجديد منذ احتلاله مع بداية عصر النهضة الأوروبية. أما كون الأوروبي الحالي لا يأنف مثل تلك النزعات الإمبريالية المتوحشة في الأمريكي، فذلك لأنها تمثل الوجه الآخر لشخصيته هو، أي الأوروبي، لأن الأمريكي المتوحش ما هو إلا أوروبي يرتدي الجينز. إنه فريق الإبادة الأوروبية، البريطانية والإسبانية، المرسل إلى المستعمرات ليؤدي الدور الرسالي الأوروبي "المحترم"، والفارق يكمن فقط في أن الأوروبيين قد ابتعدوا قليلاً عن ماضيهم البشع ذاك، بينما ظل الأمريكي عاجزا عن مفارقته ولا يمكنه ذلك، فهو تاريخه المباشر الممتد والباقي الذي يحدد جوهره وشخصيته وخصوصيته.

البيئة النفسية والعقلية والروحية للأمريكي القائد
لو راجعنا أهم الأفكار والقيم التي نشأت وترعرعت في الوسط الأمريكي الثقافي والفكري والسياسي والديني والأخلاقي والفلسفي خلال القرون الثلاثة الأساسية للتكون الأمريكي، فسنجد أنها تدور حول شرعنة وتسويغ الاستعمار والاستيطان والاستعباد والإبادة للعناصر غير الصالحة من السكان الأصليين الهمجيين بنظر البيض الغزاة، في ظل إلحاد سياسي واقتصادي ومادي كامل ومتعجرف واستعلائي وسطحي تافه سوقي المفهوم أساسه إشاعة عدم المسؤولية وإماتة الضمير والأخلاق، فكل ما يفيد ويخلق الأرباح والفائدة مقبول ومعقول ومنطقي ومبرر، وكل ما هو عملي قابل للتطبيق السلعي ويولد الفائدة المادية المباشرة هو أساس للمعايير، ومن هنا ظهرت البراجماتية التي نقلت أساسها من الفلسفة الأوروبية المتطرفة.

الحانة.. البيت الأمريكي المقدس
جميع الأمريكيين على اختلاف أجيالهم خلال القرون الأربعة الماضية نشؤوا على قيم الحانة وثقافة الحانة وحياة الحانة، وزادت أهميتها النفسية الاجتماعية في أمريكا نتيجة لطبيعة الحياة التي كان يحياها الأمريكي المغامر القادم للبحث عن الثروة أو الحلم الأمريكي كما يجمله الأمريكيون المثقفون من الطبقه العليا الحديثة، أو الأمل الأمريكي كما يقول أوباما وكلنتون. قيم الحانة تشبه قيم الخيمة عند السكان البدو، وتشبه قيم الغابة عند سكان الغابات، وتشبه قيم الديوانيات في الحضر العربي البدوي؛ ولكن في الشكل فقط، أما في الجوهر فتختلف كل الاختلاف.
وبحكم الطابع الاستعماري للأبيض الأمريكي بعد قهر الإسبان، فقد تشكلت مشاعره وبنيته الثقافية والنفسية من ذلك الواقع الذي انطلق منه ودار حول محوره في حياته اليومية هناك وهي ما زالت صحراء وغابات وفيافي فطرية الطابع منذ أن اعتبر دوره ورسالته المقدسة هي إفناء البشر وإبادتهم والحلول محلهم، ومن بقي يكونون له عبيدا في مزارعه ومناجمه ومعامله. وكان الأمريكي لا يحتاج إلى أخلاقيات وقيم روحية تحد من اندفاع رسالته التي تنتظرها بشوق كبريات الشركات الاحتكارية والبيوت المالية الاستثمارية في أوروبا التي تقف خلف تلك النهضة وتحتكرها.
ويظهر في العديد من الوسائل المعرفية أن الأمريكي كان حرا وهو يرحل إلى العالم الجديد، ولكن العالم الجديد كان قد غدا مملوكا بأكمله للبيوت الفاتحة الأولى، فالعالم الجديد كان من الأساس تحت السيطرة الإمبراطورية المتعددة، كان مستعمرا من إسبانيا وبريطانيا ودول أوروبية أخرى، ولم يكن فيه شبر واحد خالٍ للحرية الأمريكية المتخيلة التي كانت مجرد وهم وغطاء لاستنهاض العدوانية الأوروبية الموجهة ضد الشعوب المقهورة المطلوب إفناؤها والحلول محلها، فقد آلت المناطق الشمالية من العالم الجديد إلى مستعمرات بريطانية، والمناطق الجنوبية ظلت ملكا للتاج الإسباني حتى انهار التاج الإمبراطوري الإسباني لصالح النفوذ البريطاني والفرنسي.
كان الأمريكي الفظ المتوحش هو أداة تنفيذ المشيئة الإلهية (الإمبريالية المتوحشة) في شمال العالم الجديد، كما كان الإسباني المتوحش هو منفذها في جنوب العالم الجديد، وخلف كل منهما ومعهما كامل أوروبا "التقدمية المستىنيرة والناهضة حاملة مبادئ حقوق الإنسان"، هكذا تم إفناء 150 مليون هندي أحمر حر وشريف يتميز بمنتهى التحضر الإنساني والتعاون الاجتماعي والأخلاقي والرجولة والشرف والشجاعة والقوة، تم إفناؤهم بمختلف أساليب القتل، بما فيها الأسلحة الجرثومية.
كان الأمريكي الأوروبي يحتاج إلى أفكار وعقائد تبرر أفعاله وتقلل من وحشيتها في نظره أمام نفسه وأمام الآخر، وهو الدور الذي أوكلت مهمة هندسته وتنفيذه للشركات المسيطرة المعنية بالتجارة والاستعمار والتثقيف الذي يخدمها، ولذلك استبعدت من الصدارة في البداية الدين، وتم التهوين من أهميته والتبشير بالإلحاد لصالح المادية الفجة، مادية ميكانيكية بريطانية الهوى، والإنجاز كانت تتوافق مع العصر الرأسمالي الميكانيكي الصاعد، عصر الذهب، المعبود الجديد، وعلى هامشها أقيمت الفلسفات المادية والتبريرية والبراجماتية المصاحبة لتطورها، وعلى أساسها أقيمت المفاهيم الفكرية التي تخدم الأغراض العليا لها. وكانت الرأسمالية البريطانية تنتج الجديد من القيم الرأسمالية وعلاقاتها ونتائجها. وفي الوقت ذاته تنتج الفلسفة المصاحبة لهذه العلاقات الإمبريالية الجديدة، وتضع ما يناسبها من قيم تخدم الأغراض والغايات والأهداف. ومن بريطانيا نفسها رأينا مجالسها ومعاهدها العلمية الثقافية تنتج ما يناسبها من أفكار وفلسفات وعقائد، وتصدرها إلى أوروبا وأمريكا وفرنسا وألمانيا وغيرها، فقد كانت تلعب دور القيادة الأوروبية خلال القرن التاسع عشر وما قبله.