علي نعمان المقطري / لا ميديا -

كل استراتيجية حربية لها عدة مستويات: عليا عامة، ووسطى عسكرية وفنية، وأدنى ميدانية وتكتيكية وعملياتية.
وتتسم الاستراتيجيات الإمبريالية في المستوى الاستراتيجي الأعلى بالثبات النسبي، لكنها في مستوياتها الأدنى الميدانية لا بد أن تتسم بالتنوع والتطور والتغيير حسب مقتضيات الصراعات الجارية ومتغيراتها المستمرة سلبا وإيجابا.
ووفق المنظور الاستراتيجي العام، لم تتغير سياسة الإمبريالية الأمريكية وعملائها ووكلائها في المنطقة. وهذا هو الجزء الثابت نسبيا في الاستراتيجية الأمريكية. وهي قد أشبعت بحثا في السابق، وهناك وضوح عام حولها، لأنها لا تشمل التفاصيل والمتغيرات، بل المبادئ والاتجاهات العامة.

تركيزنا هنا ينصب على البعد المتغير والمتحرك والتكتيكي والاستراتيجي، فالجديد والمهم بالنسبة لمعركتنا مع العدوان ووكلائه الآن هو ما يتعلق بالأساليب التكتيكية الهجومية الجديدة الموجهة ضدنا وتستهدف قيادتنا الاستراتيجية والميدانية ومراكز الاتصالات والمعلومات ومراكز السيطرة والقيادة، وهي الأساليب التي تتبناها وتعتمدها الإمبريالية الأمريكية في مواجهة نهوض محور المقاومة (إيران وسوريا واليمن)، ومحاولة إعاقة تطور برامجها الاستراتيجية والتكتيكية بطرق وأشكال مختلفة تندرج ضمن مفهوم «الحرب الخفية الجديدة»، أو التخريب الاستراتيجي السري، فهو نشاط تريد أمريكا منه إنهاء وتصفية وتدمير كل محور المقاومة (ماديا ومعنويا) خوفا على «إسرائيل» التي أنشئت لتكون القوة الإقليمية المسيطرة لحماية برامج ومشاريع الإمبريالية الأمريكية والغربية، فالقوة الإيرانية الراهنة تشكل التهديد الرئيسي للهيمنة «الإسرائيلية» ـ الأمريكية في الإقليم والمنطقة، ولذلك فإن الهدف الأكبر للإمبريالية الراهنة هو تدمير القوى الأشد خطرا عليها وعلى وكيلتيها الإقليمتين («إسرائيل» والسعودية)، اللتين تؤديان خدمة استراتيجية مشتركة واحدة للإمبريالية الأمريكية والغربية.
ويشتد قلق الإمبريالية الأمريكية في الظروف الراهنة أكثر من أي وقت مضى نتيجة تسارع وتطور الأحداث الجارية في المنطقة، خاصة منذ صعود ترامب إلى الرئاسة الأمريكية، والذي بادر بإلغاء الاتفاق النووي الإيراني، ترجمة لالتزامه ببرنامجه الانتخابي أمام اللوبي الصهيوني واحتكارات السلاح والبترول والبنوك، وقاد سياسة استفزاز وإيذاء واستهداف مصالح وحقوق معظم دول العالم الثالث.
وفي المرحلة الحالية فإن المؤشرات تدل بوضوح على تصاعد قوى المقاومة القومية والوطنية وتقدمها على مسار الصراع والكفاح من أجل الحرية والاستقلال والعدالة، ويتسع نفوذها إلى قارات أخرى كانت إلى عهد قريب حدائق خلفية للإمبريالية الأمريكية.
وقد اعترفت مؤخرا صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية في مقال لها بالنوايا العدوانية الأمريكية إزاء دول وقوى محور المقاومة، والتي تنظر إليها كقوة واحدة ميدانية واستراتيجية وذات أهداف وجودية مشتركة يكمن خطرها في استهداف وجود «إسرائيل» وحرمان الغرب من قواعد سيطرته وهيمنته الاستعمارية السابقة وطرد النفوذ والوجود الإمبريالي الأمريكي الغربي من غرب آسيا والشرق الأوسط.
وكشفت الصحيفة، إلى جانب مصادر إعلامية أخرى، عن استراتيجية عسكرية هجومية جديدة تستهدف إيران وسوريا واليمن وكل دول محور المقاومة، وذلك بشن حروب أمريكية «إسرائيلية» خفية إلى جانب السياقات العدوانية الأخرى الجارية.
مقال ورد في الصحيفة يعكس رؤية قريبة من مراكز ودوائر المعلومات الاستراتيجية المعارضة لترامب وحكومته واستراتيجياته قبل الانتخابات الأمريكية القادمة التي بدأت نذرها من الآن، وقد شهدت العديد من دول المقاومة ومنظماتها الكثير من العمليات الخفية التي استهدفت مراكز ومواقع استراتيجية.
ولعل أبرز تلك العمليات العدوانية هي العمليات التخريبية التي واجهتها إيران خلال الأسابيع الماضية، وما تزال العمليات مستمرة في الخفاء ضد مواقع إيرانية استراتيجية حتى اليوم، ومنها ما تعرض له موقع نطنز الإيراني النووي قبل أسبوعين، حيث شهد تفجيراً بطريقة خفية لم يعلن أحد إلى الآن مسؤوليته عن الحادث، لكن الكثيرين يعرفون أن أجهزة الإمبريالية الدولية والإقليمية تقف خلف الحادث، وهناك العديد من الصحف «الإسرائيلية» والأمريكية اعترفت بأن حكوماتها وأجهزة مخابراتها تقف خلف استهداف إيران ومحور المقاومة. كما أن هناك مخاوف «إسرائيلية» أمريكية من سقوط ترامب، بحسب ما صرح به أحد القادة الأمنيين «الإسرائيليين» قبل أيام، إذ يقول إنهم يخشون من فقدان السند الرئيسي لهم في البيت الأبيض، ومجيء رئيس آخر يتبنى سياسة العودة إلى احترام الاتفاق النووي الإيراني، ولذلك يعتبرون هذه هي الفرصة الأخيرة التي لن تتكرر ويجب استغلالها.

المواجهة تشتد ضد الإمبريالية
في الوقت الراهن تشتد وتتسع المواجهة ضد الإمبريالية، ومرشحة للتصاعد أكثر، ولن تتوقف حتى تنظيف المنطقة العربية من الوجود الاحتلالي وتصفية نتائجه وآثاره وأذياله، خاصة في ظل تصاعد العمليات العسكرية المعادية للوجود العسكري الأمريكي، حيث تعرضت أرتال عسكرية أمريكية للنسف والاستهداف خلال الأسبوعين الماضيين، لإجبارها على الخروج من العراق.
والجديد في المواجهة هو ما تحظى به من دعم شعبي وسياسي وتوجه عام، فهناك قرار موحد للقوى الوطنية العراقية، بما فيها البرلمان العراقي الذي يغطي المقاومة الوطنية دستوريا في معركة التصدي للاحتلال الأمريكي.
ويأتي هذا التصعيد بعد العدوان البشع الذي شنته القوات الأمريكية على السيادة العراقية وعلى الشعب العراقي واغتيالها لقادة كبار في المقاومة الوطنية، مثل قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس.
ويترافق هذ التصعيد مع الاعتداءات العدوانية الأخيرة على مواقع ومنشآت نووية واستراتيجية إيرانية وعراقية وعربية، وهو ما يرسم سمة المواجهة الاستراتيجية خلال الفصل الحالي الساخن الذي قد يمتد من الآن حتى نوفمبر القادم.

الحواسم تقترب
المواجهات الحاسمة تقترب الآن، وتعم المنطقة كلها، وهي تتصاعد وتتسع وفقا لآليات الفعل ورد الفعل، ومحكومة بقواعد اشتباك بين محور المقاومة والإمبريالية الأمريكية ـ الصهيونية، قواعد تسمح بالضربات المتبادلة والموجعة التي ستكون محدودة، دون أن تتحول إلى حرب شاملة، لكن الولايات المتحدة وربيبتها ووكلاءها لا يمكنهم منع الانفجار الشامل إذا كان ذلك خيارا استراتيجيا للمقاومة وتوفرت له الفرص والظروف والشروط الملائمة، خاصة أن الوضع الاستراتيجي الأمريكي ـ الصهيوني يمر بأسوأ أيامه وأطواره، بينما محور المقاومة يمر بأبهج انتصاراته وصموده، ما قد يحمل الكثير من المفاجآت الممكنة، خاصة بعد الاتفاق بين سوريا وإيران، الذي يتضمن التعاون الاستراتيجي والتساند الصاروخي في مجال الدفاع الجوي ونقل الصواريخ الإيرانية الدقيقة من طراز (إس 300)، والتعاون في بقية المجالات العسكرية، وهو ما يقلب الطاولة في المنطقة، ويضمن نقل الأسلحة والتقنيات التصنيعية إلى سوريا ومحور المقاومة وتصنيعها محليا، وقد سبق لـ»حزب الله» اللبناني أن أشار إلى امتلاكه الصواريخ الدقيقة وتقنياتها.

أمريكا فقدت عقلها وضميرها بنظر الصين
وعلى المستوى الاستراتيجي الدولي، فإن ترامب يواصل استفزاز وإهانة العديد من دول العالم الكبرى ودفعها إلى جبهة المواجهة والعداء، الأمر الذي يمهد لقيام حلف عالمي مضاد للهيمنة الأمريكية، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، من بحر الصين الجنوبي إلى الكاريبي إلى جنوب القارة الأمريكية، بل وإلى عمق الإمبريالية الأمريكية وفي عقر دارها، ما يعني أن حقبة جديدة من التاريخ العالمي تنمو أمام أعيننا عنوانها الأساسي هو انهيارات الإمبراطوريات الغربية وصعود الشرق من جديد.

ساحة الصراع الكبرى الآن
وفي الحالة الوطنية فقد تطورت ترسانة الصواريخ اليمنية إلى مستويات رفيعة في غضون سنوات قليلة ووصلت إلى مجالات دقيقة، أصبحت معها تشكل تهديدا للوجود الإمبريالي والصهيوني وذيوله الرجعية العميلة.
وفي الوقت الذي تراجعت فيه حدة الحرب نسبيا في سوريا والعراق ولبنان وإيران بفعل الانتصارات التي حققتها قوى المقاومة هناك، فإن المعارك الوطنية في اليمن تشتد وتتحول إلى الساحة الأكبر للمواجهات مع الإمبريالية الاستعمارية الأمريكية والصهيونية، وعلى ضوء نتائجها سوف تتحدد ملامح المنطقة وعلاقاتها القادمة.
ومن ثم فإننا نتوقع حملة استهدافات كبيرة تطال الوضع الأمني والاقتصادي والسياسي وتطال القيادات الوطنية للدولة بهدف عرقلة وتأخير تقدم أبطال الجيش واللجان الشعبية، خاصة وأنهم يواصلون تقدمهم صوب مأرب، وهو الهدف المحوري الآن وأهم ساحات الصراع، ولذلك فالعدوان سيستخدم كل ما بجعبته من أسلحة جديدة، وخاصة الخفية منها. أما الوسائل الكلاسيكية فقد جربها واختبرها شعبنا وما يزال يواجهها بشجاعة رغم الفارق الهائل في ميزان القوى.
العدوان يطور الآن أساليب جديدة من العدوان الخفي، وما رأيناه في إيران والعراق ولبنان وسوريا هو نماذج لما ينتظرنا هنا في وطننا وساحاتها الواسعة، من أساليب جديدة ستكون الحرب الخفية الجديدة المطورة في مقدمتها، وهذا ما كان قد اعتمده أوباما خلال أيام حكمه وبقي معتمدا في عهد خليفته المجنون الأحمق ترامب، وهو ما يفسر إجماع القوى العسكرية والسياسية الأمريكية من الحزبين عليه، بعد أن كابدت القوى الأمريكية الكثير من الضربات والهزائم والانكسارات في المنطقة والعالم.

وسائل الحرب الخفية
الحرب الخفية تعني أن الوسائل المستخدمة في تنفيذ عملياتها هي وسائل خفية من حيث هويتها، فهي تضرب الأهداف المعنية بصواريخ أو مسيرات تنطلق من أماكن ونقاط وقواعد منتشرة عبر العالم، بحيث لا يمكن رصدها وتحديد اتجاهاتها ومنطلقاتها، وبالتالي يمكن أن ترمى التهمة على أي طرف آخر أو تصمت.
وبالإشارة إلى ما نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية فإنها تعترف علنا بوجود استراتيجية أمريكية جديدة موجهة ضد إيران ودول محور المقاومة تعمل عليها إدارة ترامب، وقد جاءت هذه الاعترافات متزامنة مع الأحداث التخريبية الكبرى التي تعرضت لها إيران ولبنان والعراق واليمن وفلسطين وغيرها، وتتضمن إقراراً غير مباشر بالجرائم والأحداث، بل والتباهي بها لإثارة الهلع والخوف في المنطقة كما تتصور أجهزتها في سياق الحرب النفسية الجديدة.