جواد عبد الوهاب / لا ميديا -

انتفاضة المحرم (1400هـ ـ نوفمبر 1979م)، في المنطقة الشرقية من الجزيرة العربية، حدث لا يمكن أن يكون عفوياً وظاهرة حماس مؤقتة، وتجمعاً عاطفياً وقع في العشرة الأولى من شهر محرم وانتهي في حينه، بل هي تراكمات ونتيجة لمجموعة عوامل كانت تحيط بالمجتمع. ولا يجب النظر إلى هذا الحدث على أنه حدث طارئ انتهى بقمعه من قبل قوات الأمن، بل لا بد من النظر عند محاولة فهمه وتحليله إلى كافة العوامل السياسية، والاجتماعية التي كانت سائدة آنذاك في الجزيرة العربية والمنطقة الشرقية منها على وجه الخصوص.
إن انتفاضة المحرم الجماهيرية، كانت نتيجة لتفاعل الجماهير المضطهدة والمظلومة مع عدة أسباب داخلية كانت تراكمت في نفوس الجماهير على مدى عقود، إلى أن نضجت ظروف انفجار هذا التفاعل على شكل انتفاضة جماهيرية عارمة.
لقد كان الواقع الذي تفجرت فيه انتفاضة المحرم المجيدة لا يختلف كثيرا عن واقع الدول غير الديمقراطية التي حدثت فيها ثورات وهبات جماهيرية، وأي دولة تفتقد إلى النظام الديمقراطي العادل. ولقد تمثل ذلك في انعدام الحرية وغياب الإرادة الشعبية في القرارات الحكومية، ومصادرة الإرادة الشعبية في التشريع، وفي وجود قضاء موجه، وسيطرة وتوظيف كامل للأجهزة الأمنية لمعاقبة المعارضين السياسيين أو حتى أولئك الذين يطالبون بحقوقهم العادلة والمشروعة.
وقد أفرز هذا الواقع، الذي مضى عليه عقود، استمرار الفساد المالي والإداري، وتأصل الدولة الأمنية، ومصادرة حقوق المواطنين الطبيعية التي كفلتها كافة المواثيق والعهود الدولية. كما تفاقمت سياسة التمييز، وشيدت الدولة على أساس التمييز القبلي والطائفي والمذهبي، وتم تهميش المواطن في مختلف المناطق، وجرى العمل على تكميم أفواه المعارضين السياسيين، ومنعت فئات من المواطنين أغلبهم من المواطنين الشيعة من الالتحاق ببعض الوزارات أو تسلم مناصب عليا في الدولة، في تعبير جلي عن التمييز الصارخ الذي كانت ولا تزال تمارسه السلطات السعودية.
ونتيجة لغياب مبدأ محاسبة الحكومة فقد اتسم عمل الأخيرة بالقصور الشديد، ففشلت في تنويع مصادر الدخل والاستجابة لمتطلبات المواطن، فنشأت أزمات السكن والبطالة، وازدادت مساحة الذين يعيشون تحت مستوى خط الفقر، وتراجع المستوى التعليمي، وساد الفساد المالي والإداري جميع جوانب العمل الحكومي، مما انعكس سلبا على الخدمة الممنوحة للمواطن.
كما أنه وفي ظل هذه الحكومة غير المنتخبة فقد تحولت ملكية الأراضي والسواحل والشواطئ والبحار إلى ملكيات خاصة لكبار أفراد العائلة المالكة وكبار المتنفذين، مما أدى إلى استفحال مشكلة فقدان الأراضي لاستخدامها في المشاريع الإسكانية والبلدية والمشاريع التعليمية والصحية والصناعية وغيرها من متطلبات الدولة.
كانت الأمور تدار بعقلية البداوة والاستعلاء النفسي، فمنذ أن استولى عبدالعزيز بن سعود على السلطة بطريقة دموية في يناير (1902)، عمل على إخضاع الناس بالقوة لطموحاته وأهدافه التوسعية، بحيث كان يرى أن كل الأمور يجب أن تجري بمشيئته، وكان يؤمن بأن أهدافه في السيطرة والتوسع وإخضاع الناس لإرادته لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال السيف. فكان الفقر والبطالة والتمييز سمات النظام، ومن يعترض على هذه السياسات يكون مصيره إما غياهب السجون وإما القتل تحت طائلة القوانين البدوية التي وضعها النظام لتثبيت حكمه. وبالقمع والإرهاب شيد النظام السعودي، وجعله نظاما ملكياً، وراثياً، فردياً، مطلق الصلاحيات.
إن أحد عوامل تفجر الانتفاضة هو أن النظام السعودي ليس له رصيد من مقومات الدولة الحديثة، التي أساسها الحرية والعدل والمساواة، وتكافؤ الفرص، ومنح الناس فرصة المشاركة في الحكم عبر انتخابات يختارون من خلالها من ينوب عنهم في اتخاذ القرارات المصيرية وغيرها. كما أن النظام السعودي يمنع لحد اللحظة تشكيل الأحزاب والنقابات وجميع ما يتعلق بمؤسسات المجتمع المدني، ولا يجرؤ أي فرد على المطالبة بمثل هذه الأمور.
لقد انتفض شعبنا في المنطقة الشرقية لأنه وجد أن مقدرات دولته تتحكم فيها أسرة بني سعود، التي جعلت من البطش والإرهاب والقوة حكما بينها وبين الشعب، وهي تسيطر على جميع أجهزة ومؤسسات الدولة، والمناصب العليا فيها، فمن الملك وولي العهد ورئاسة مجلس الوزراء، ورئاسة الحرس الوطني، وأمراء المناطق ورؤساء المؤسسات الحكومية وصولاً للمؤسسات الرياضية، والشركات التجارية الكبرى، وغيرها، كل هذه الأجهزة بيد أفراد الأسرة، الذين ليس لديهم أدني كفاءة لتسنم مثل هذه الوظائف.
ان هذا الجو السياسي المتخلف الذي يخدش كرامة الإنسان ويفقده استقلاليته ويفرض على الشعب أوضاعا شاذة، تنعدم فيها الحرية بمختلف مضامينها، وبالخصوص حرية الكلمة والتعبير عن الرأي. فضلا على التبعية المطلقة للغرب، كان له الدور الأبرز في تفجر انتفاضة المحرم، التي قدم الشعب فيها عشرات الشهداء ومئات الجرحى آملاً في إسقاط الحكم الملكي المتجبر والمتسلط، وإقامة البديل الذي ينعم فيه الجميع بالعدل والحرية والمساواة.
وبالإضافة إلى كل ذلك، قام النظام بفرض حصارٍ فكريٍ وثقافيٍ رهيبٍ على الشعب، ومنع كل ما هو على غير نهج ورؤية النظام، وأقر مصدراً واحداً للفكر هو الفكر الوهابي، ومنع كل كلمة حرة صادقة، أو جريدة أو مجلة، أو حتى أشرطة الكاسيت المتداولة في ذلك الوقت والتي قد تحوي محاضرات تثقيفية وتوعوية، وزج بكل مَنْ يقتني أياً منها في غياهب السجون.
وفي موازاة ذلك أحكم النظام قبضته على الصحافة وسيطر سيطرة تامة على وزارة الإعلام، وسمح فقط للصحف والمجلات التي تدور في فلك النظام، ومنع حرية التعبير، وعملت أجهزته الأمنية على تكميم الأفواه ومعاقبة كل من يتجرأ على نقد السلطة أو أي مؤسسة من مؤسسات الدولة.
ومنع النظام إدخال الكتب الإسلامية، خاصة تلك التي تخص المذهب الشيعي، بما فيها كتب الأدعية والزيارات، وفرض رقابة صارمة، وقام باعتقال وتعذيب كل من وجد معه أياً من هذه الكتب، على الرغم من أن هذه الكتب والمجلات التي يعاقب حاملها في "السعودية" تباع في مكتبات جميع دول الخليج.
وكان المواطنون يرون بأم أعينهم أن النظام الذي يحرمهم من مصادر الفكر ينفق المليارات على الصحف والصحفيين الموالين له في الداخل والخارج، ويشتري بأموال الشعب الكتّاب والمؤرخين الذين يُسبحون ويُقدسون بحمد النظام في كل العالم.
قد لا يصدق أحد أن المنطقة الشرقية التي تفجرت فيها الانتفاضة والتي تعوم على بحر من البترول، هي من أكثر المناطق بؤساً وحرماناً. وقد لا يخطر في بال أحد أن في هذا الجزء من رابع أغنى دولة في العالم، يعيش شعب يستنفد كل فرد فيه جسمه وفكره حتى يحصل على لقمة الخبز، ويكدح ليل نهار ليؤمن له بيتاً يسكن فيه، بينما تلاحقه الديون المقسطة إلى اللحظات الأخيرة من عمره!!
إن شعبنا الذي انتفض في المنطقة الشرقية كان يعي جيدا أن الله سبحانه وتعالى قد خصّ هذه المنطقة بثروات هائلة كان من المفترض ان تُستثمر في حساب النهضة الاجتماعية والصناعية، وترقية الشعب المسلم الذي يعاني الفقر والعوز والحرمان وانعدام الخدمات الصحية والتعليمية وكل تمظهرات البنية التحتية فيما يخص الشوارع وشبكات المياه والكهرباء والاتصالات والصرف الصحي... الخ، ولكن هذه الثروة الكبيرة لم تحدث أي تغيير يذكر في عيشة هؤلاء الناس.
فالثروة بددها بنو سعود في تسديد فواتير اللهو والترف والمجون الذي تعيشه الأسرة المالكة وحواشيها، من بناء القصور وشراء الفيلات واليخوت الضخمة والطائرات الخاصة، وصرف الملايين على موائد القمار ورحلات اللهو والفساد إلى حفلات الدعارة والرقص والليالي الحمراء.
ان شعبنا كان يدرك ويسمع الكثير من القصص التي تتسرب من ردهات القصور الملكية، ويقرأ الكثير منها على صفحات المجلات والجرائد العالمية.
كان شعبنا ولا يزال يرى حكامه وهم يقومون بتبذير ثروات البلد وهدر المليارات على البذخ الشخصي الخرافي، ومغامرات الأمراء الحمقاء، والتصفية الجسدية للمعارضين أو اعتقالهم، وإبرام صفقات الأسلحة، وابتياع سكوت أقوياء العالم، وتمويل عمليات التجسس على الهواتف، والتواطؤ في شبكات الاتجار بالبشر، وكذلك انخراطهم في توظيف البترودولار لإفساد ديمقراطيات العالم هنا وهناك وشراء الذمم عن طريق الرشاوى والهبات والإكراميات والتمويلات غير المشروعة.
انتفض شعبنا لأنه كان يرى أن بلاده التي يُقدر الناتج القومي الإجمالي لها في ذلك الوقت بأكثر من ثلاثمائة مليار دولار غير قادرة على توفير متطلباته في الحياة الكريمة، خاصة أن مصدر الثروة "السعودية" الأساسي هو النفط، الذي يمثل 73% من الإيرادات الحكومية، والذي يستخرج من أراضي المنطقة الشرقية التي تفجرت فيها الانتفاضة والتي يعيش عليها أكثر الناس فقرا ويمارس بحقهم التمييز والاضطهاد.
وكانت نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر بلغت 12.5% من إجمالي سكان "السعودية". فيما كان النظام السعودي مشغول بتأسيس وتمويل منصات إعلامية تدافع عن النظام وتغطي على إخفاقاته في تقليل نسبة الفقراء، على الرغم من الثروات التي يتلاعب بها أفراد الأسرة المالكة ومن يلوذون بهم.
انتفض شعبنا في المنطقة الشرقية لأن سياسة التمييز ضدهم باتت سمة من سمات النظام القائم، حيث قامت بتضييق الخناق عليهم، فقلصت فرص العمل المتاحة لهم حتى كادت تتلاشى ما زاد من نسب البطالة بينهم، حتى أن شركات مثل أرامكو اتجهت إلى التعسف مع موظفيها من الشيعة بتخفيض رواتبهم وحجب فرص ترقيتهم وحرمانهم من المناصب الإدارية والقيادية العليا أو فصلهم نهائياً.
وساد شعور لدى المواطنين الشيعة أن السلطات السعودية تتعامل معهم باعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية، وتمثل ذلك في التمييز الطائفي ضدهم، وعدم مساواتهم ببقية المواطنين وعدم تمثيلهم في أي مناصب متعلقة بالحكم، وهم الذين يمثلون 15% من تعداد السكان، لكنهم لم يحوزوا في تاريخ "السعودية" أي حقائب وزارية. أما من الناحية الاقتصادية فقد شعر الشيعة بسرقة مواردهم، فرغم أن المنطقة الشرقية من أغنى مناطق "السعودية" بالنفط، إلا أن توزيع الموارد والثروات غير متكافئ، ما أدى لارتفاع معدلات الفقر والبطالة، واتساع الهوة في مستوى الدخل بين السنة والشيعة.
كل هؤلاء الذين شعروا بالظلم دخلوا في ركب الانتفاضة، واحتجوا، على أمل أنهم بما لديهم من حقوق ومطالب مشروعة فسيكونون قادرين على إرغام بني سعود على تنفيذها، لكن رصاص ومروحيات ودبابات وجرافات "خادم الحرمين" كانت بالمرصاد.
لقد عانى المواطنون الشيعة في "السعودية" من سياسات القمع والإقصاء وتقييد حرية التعبير والمعتقد، ومن سياسات التمييز التي تصل إلى حد الاضطهاد على أساس طائفي، لدرجة أن الإفصاح عن المعتقد الشيعي قد يُؤدي إلى الاحتجاز أو السجن. ويتضمن هذا التمييز الممارسة الدينية، والتربية، والمنظومة العدلية، فيما يعمد المسؤولون الحكوميون إلى إقصاء الشيعة من بعض الوظائف العامة والرفض العلني لمذهبهم.
انتفض شيعة "السعودية" لأنهم كانوا يعانون تمييزا طائفيا بغيضا يصل إلى حد سبابهم في الإعلام الرسمي، والاعتقال على أساس ديني، كما تفرض السلطات السعودية قيوداً على بناء دور العبادة الشيعية، وترفض منح التراخيص الخاصة بهذا الشأن. ووصل التمييز ضدهم إلى وصفهم في وسائل الإعلام الرسمية وعلى ألسنة بعض علماء الدين بـ"الرافضة والمجوس"، ويتلقون السباب لأتفه الأسباب، وعلى أساس طائفي.
لهذه الأسباب وغيرها فجر شعبنا انتفاضته المجيدة. ولو نظرنا بعين البصيرة إلى المنطقة الشرقية في ذلك الوقت ووجدنا فيها سلاما ودعة وأمانا، لربما لم يكن المواطنون ليثوروا... لكننا على العكس من ذلك، فحينما نوجه أنظارنا إلى المنطقة الشرقية لا نرى غير وحوش كاسرة نزع الله الرحمة من قلوبها، تتحكم في مصير أهلنا فتقتل وتعذب الشباب والأطفال والشيوخ والنساء، وتدنس المقدسات، وتهلك الحرث والنسل وتقصف الآمنين. فهل يجوز للمواطن أو أي إنسان آخر أن يسكت؟! هل تسمح لنا ضمائرنا أن نستعرض كل هذه المآسي ولا نفعل شيئا تجاه ذلك؟! وهل خلقنا الله لكي نعيش في غابات أم أننا بشر ومن حقنا وواجبنا أن نجاهد ونكافح وأن ندفع ضريبة الدم لكي نتخلص من الظلم والعدوان الذي يجري على شعبنا؟!
إن شعبنا البطل في المنطقة الشرقية انتفض لتغيير المعادلة بعد أن يئس من هذه السلطة، وقدم شبابنا أرواحهم لكي يمنعوا الإذلال، حيث حرم الله الذلة على المسلم و(هيهات منا الذلة).