أحمد رفعت يوسف

دمشـق أحمد رفعت يوسف / لا ميديا -
ما يجري في فلسطين المحتلة اليوم، ليس مجرد معركة عادية، وإنما صراع عميق وشرس، تتداخل فيه كل التشابكات، وميادين الاشتباك والصراع، بين المنظومة الغربية الرأسمالية المتراجعة، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والمنظومة الشرقية الصاعدة، برؤوسها الصين وروسيا وإيران.
لهذه الأسباب، سيكون من الصعب، على قرارات الأمم المتحدة، والوساطات الجارية، وقف الصراع، الذي سيبقى مستمراً، ولن يتوقف إلا في حالتين:
الأولى: حصول تطور دراماتيكي، يؤدي إلى إقرار طرف بخسارته المعركة، بما يترتب عليه من نتائج زلزالية.
الثانية: إقرار أطراف الصراع، بالوقائع الجيوسياسية الجديدة، في كل أماكن الاشتباك الإقليمية والعالمية، والقبول بـ"يالطا جديدة" لتنظيم الانتقال، إلى العالم المتعدد الأقطاب.
العقدة في هذا الصراع، تكمن عند المنظومة الأمريكية الصهيونية وملحقاتها، من دول وكيانات وأنظمة، فهي من جهة، تستشرس للحفاظ على هيمنتها، على السياسات والاقتصادات العالمية، وترفض الاعتراف بالوقائع الجيوسياسية الجديدة، ومن جهة ثانية، تبدو عاجزة عن كسب المعارك، في كل نقاط الاشتباك، وأولاها في فلسطين المحتلة، وجبهات الإسناد، وهذا ما يدخلها في حالة استعصاء، وأفق مسدود.
فقبول الوقف الكامل للقتال في فلسطين المحتلة، سيعني الإقرار بهزيمة الكيان الصهيوني، ودخوله مرحلة من التيه السياسي والعسكري، والتفكك من الداخل، ويضع الوجود الأمريكي في منطقة غرب آسيا على المحك، وهي التي عرفت على مدى التاريخ، بأنها المنطقة التي تحدد مسار صعود وانهيار الإمبراطوريات، والدول العظمى، يقابله وقوف الفلسطينيين، حتى على أنقاض وأطلال بيوتهم، وهم يرفعون الأعلام وشارات النصر، وهو المشهد الذي سنراه في كل دول المنطقة، مع ما يعني ذلك من أبعاد جيوسياسية دراماتيكية، تطال المنطقة والعالم.
وفي محاولة للخروج من هذه المآزق، تحاول الولايات المتحدة الأمريكية، والكيان الصهيوني، المناورة وتهدئة الأوضاع، حتى إنجاز الانتخابات الأمريكية، تارة عبر مجلس الأمن الدولي، وتارة عبر الوساطات والضغوط، مع الأمل بانتظار معجزة ميدانية، وكسب الوقت، لمعالجة الاستعصاءات الفلسطينية و"الإسرائيلية"، وامتداداتها.
ففي الجانب الفلسطيني، تستهدف الولايات المتحدة الأمريكية، الضغط على المقاومة، للموافقة على قرار مجلس الأمن رقم (2735) وما تطرح عليها الوساطات، بانتظار إعطاء فرصة لالتقاط الأنفاس والبحث الهادئ، عن طريقة للتعامل مع المقاومة وقياداتها، وتحديداً الميدانية منها، ونرى بوضوح كيف تترافق هذه المحاولات مع ضغوط وتهديدات قطرية مصرية، لقيادة حماس، بالطرد والملاحقة، إذا لم توافق على قرار مجلس الأمن وما يطرح عليها من اقتراحات تتم صياغتها، بكلمات عامة وفضفاضة، بما يسمح للمقاومة، بالقول إنها تحقق أهدافها، لكن المشكلة ستكون في التفاصيل والتفسيرات، وهي المهمة التي يبرع فيها الكيان الصهيوني والأمريكيون.
وفي الجانب "الإسرائيلي"، تستهدف إدارة بايدن دفع الأمور لإجراء انتخابات جديدة، تأتي بغانتس (رجل أمريكا) رئيسا للحكومة، وترك نتنياهو، يعارك لتحديد مصيره الشخصي، وهو المهدد بالسجن، وقد يكون الهدف تحميله، مع عدد من القادة السياسيين والعسكريين، مسؤولية طوفان الأقصى، والفشل في تحقيق أهداف العدوان، وهذا يعطي البراءة لبايدن وإدارته، أمام الرأي العام الأمريكي والعالمي، من مسؤوليته عن المشاركة في العدوان، ومحاولة وقف تدهور شعبيته، وما استقالة غانتس من مجلس الحرب قبل قرار مجلس الأمن، إلا تأكيد على هذا التوجه.
نتنياهو الذي يدرك بالتأكيد، كل هذه التوجهات، لن يستسلم بهذه السهولة، لأن موافقته ستعني سقوط حكومته فوراً، وبالتالي نراه يعطي موافقات مواربة، ويحاول بما تبقى له من "حكومة عرجاء" المناورة على أمل تحقيق إنجازات ميدانية نوعية تنقذه، مثل الوصول إلى المزيد من الأسرى، أو محاولة قتل أو أسر قادة المقاومة.
ومع أن كل هذه الجهود والوساطات، سقفها الأعلى، محاولة تحقيق تهدئة مؤقتة، على الجبهة الفلسطينية، لكن المهمة الأكبر والأصعب، ستكون في كيفية التعامل مع جبهات الإسناد، وبقية أطراف محور المقاومة، والتي باتت تشكل مشكلة أمريكية و"إسرائيلية" ولأدواتهم، لا تقل صعوبة وتعقيداً عن الجبهة الفلسطينية.
ففي الجبهة اللبنانية، سيكون من الصعب على الكيان "الإسرائيلي"، والإدارة الأمريكية، ترك الأوضاع على ما هي عليه، خاصة بعد الإنجازات الميدانية الهائلة، التي راكمتها المقاومة اللبنانية، وبالتالي سنرى محاولات ضغوط هائلة عليها، مقرونة بتهديدات، واستعراض قوة أمريكية و"إسرائيلية"، لمحاولة فرض وقائع على الأرض، تبعدها عن خط المواجهة مع فلسطين المحتلة، ومن غير المستبعد تحريك العملاء في لبنان، وعناصر من التنظيمات السورية المسلحة، المتواجدة في لبنان، لافتعال إشكالات ومعارك جانبية، لإرباك المقاومة، وليس مستبعداً أيضاً، أن يحاول نتنياهو، تسخين هذه الجبهة، بهدف جر إدارة بايدن مرغمة، إلى المواجهة المباشرة مع المقاومة اللبنانية، مع توهماته بأن هذا الإجراء قد يكون منقذاً له، وبالتالي إفشال الجهود الأمريكية لإسقاطه، لكن ما يمكن تأكيده، أن قيادة المقاومة مدركة كل هذه الأمور، وتعرف كيف ستواجهها.
وعلى الجبهة السورية، التي تشكل جبهة إسناد لوجستي، وعمقا استراتيجيا سياسيا وميدانيا، لكل أطراف محور المقاومة، بما يمكّنها من الاستمرار في المعركة، وتحقيق الأهداف، والتخطيط لما هو آت، قد تحاول الولايات المتحدة الأمريكية مباشرة، وعبر بعض الأنظمة العربية، الاستمرار في تقديم الإغراءات للقيادة السورية، للبقاء خارج القتال المباشر، ومحاولة إبعادها أكثر، عن محور المقاومة، وقد يكون من حسن حظ القيادة السورية، أنها تمتلك هذه المرة، الأدوات وعامل الوقت للمناورة، لكن حديث الرئيس الأسد الأخير، أمام مؤتمر حزب البعث، الذي قال فيه، بأن القضية الفلسطينية والمقاومة، خطوط حمراء، حدد موقع ومكانة سورية في هذا الصراع، بشكل واضح.
وفي العراق، سيؤدي وقف القتال، إلى فتح الباب أمام المطالبات بإخراج المحتل الأمريكي، وهو الشرط الأساسي، الذي وضعته فصائل المقاومة، للحكومة العراقية، والإدارة الأمريكية، لبحثه كشرط لوقف استهدافها القواعد والمواقع الأمريكية، في العراق وسورية، بعد الضربة التي وجهتها للموقع الأمريكي في الأردن، والرد الأمريكي.
وفي الميدان اليمني، بات من الواضح أن مراكمة اليمن (المقاوم) لإنجازاته المبهرة، في المواجهة البحرية مع الأمريكيين والبريطانيين، وفي الحصار البحري للكيان الصهيوني، بات يشكل مشكلة حقيقة وعويصة لهم، مضافاً إليها، أنها تفتح بشكل مباشر، مصير عملاء وأدوات أمريكا في المنطقة، وتحديدا النظامين السعودي والإماراتي، لتأتي الضربة اليمنية الاستباقية، بالإعلان عن القبض على شبكة واسعة من العملاء والجواسيس، الذين يعملون لصالح المخابرات الأمريكية، والموساد "الإسرائيلي"، لتشكل ضربة مؤلمة للإدارة الأمريكية والحكومة "الإسرائيلية"، في جهودهما لمعالجة الأوضاع، خاصة وأن مثل هذه الشبكات، يكون لها امتدادات وتداعيات خارجية، لا تقل خطورة عن الداخلية، وهذا يشكل خطرا إضافيا، فتحته الجبهة اليمنية.
هذه الوقائع الميدانية والسياسة، تؤكد أن قرار مجلس الأمن الدولي وجهود الوساطات، لن تتمكن من وقف العدوان الصهيوني الأمريكي، على الشعب الفلسطيني، وأقصى ما يمكن أن تقدمه، هو مجرد محاولة لتهدئة الجبهة الفلسطينية، ولكنها ستبقى محكومة بأمد حدوده القصوى الانتخابات الأمريكية، وهذا سيبقي المنطقة مفتوحة على كل الاحتمالات.

الوضع في فلسطين المحتلة والمنطقة اليوم، ليس من جولات المعارك التقليدية، التي كانت تجري مع العدو الصهيوني، والمحكومة بأهداف ونتائج محددة، وإنما هي نهايات لمرحلة طويلة، من الصراع العربي الصهيوني، وامتداداته الإقليمية والعالمية، وما سبق أن تخلل هذا الصراع، من رسم لخرائط وحدود الدول والكيانات والأنظمة، وجولات القتال والحروب التي شهدتها المنطقة، بناء على مقتضيات هذا الصراع.
هي معركة سيتحدد فيها فائزون وخاسرون ونتائج، ستعصف بالخراط والتوازنات الجيوسياسية الموجودة حاليا، وسترتسم خرائط وتوازنات جديدة، للمنطقة والعالم، تتراجع وتتشظى فيها إمبراطوريات، ودول عظمى، وكيانات وأنظمة وتنظيمات، وتصعد أخرى.
ما يعطي هذا العمق، لما يجري في فلسطين المحتلة والمنطقة اليوم، هو أن الصراع العربي الصهيوني، لم يكن يوماً مجرد صراع حدود، بين هذا الكيان وأي دولة أخرى في المنطقة، وإنما هو صراع له أبعاده الإقليمية والعالمية، ارتسمت معالمه وخرائطه الجيوسياسية، بناء على نتائج الحربين العالميتين الأولى والثانية، وشكل فيه الكيان الصهيوني، رأس حربة للعالم الرأسمالي الغربي، والذي أنتج المرحلة الاستعمارية، وسياسات وأفكار التسلط والهيمنة، على إرادات الدول والشعوب الأخرى، وسرقة ثرواتها، والتي أدت إلى سيطرة هذه المنظومة، على السياسات والاقتصاديات العالمية، واستفردت بها منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، في 26 كانون الأول/ ديسمبر 1991، بما يعرف بمرحلة القطب الواحد، بقيادته الأمريكية، لكنها اليوم تواجه مشاكل حقيقية، تهدد بزوال هذه الهيمنة، ولذلك نراها تقاتل بكل شراسة وتوحش، للحفاظ عليها.
حاولت القوى الاستعمارية الغربية، بالقوة العسكرية الأمريكية، ودماغها البريطاني، وإدارتها الصهيونية، تحطيم كل القوى التي يمكن أن تقف في وجه هيمنتها على العالم، والتي تقف في طليعتها اليوم، الصين وروسيا، ودول وتنظيمات محور المقاومة، تارة بالقوى الناعمة، والثورات الملونة، وتارة بقوى وأنظمة الفساد، الموالية للغرب، أمثال الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين، أو بالقيادات التي تسمى إصلاحية، والتي تتخذها بوابة للانقضاض على الدول والمجتمعات العصية، في الوقت المناسب، أمثال الرئيس الصيني السابق هو جينتاو وتارة بالحروب والغزو، كما حدث في أفغانستان والعراق، وأخرى بالاغتيالات، كما في حالة رفيق الحريري.
القوى الحية في الدول والتنظيمات، الرافضة لهذه الهيمنة، كانت تدرك خطورة مشاريع ومخططات هذه المنظومة، على دولها ومجتمعاتها، لكنها كانت لاتزال ضعيفة، وفي مرحلة الدفاع السلبي، ومع ذلك فقد تحركت، فكان إخراج يلتسين من السلطة في روسيا، في 31 كانون الأول/ ديسمبر 1999، وتسليم زمام الأمور للرئيس بوتين، ثم تحرير الجنوب اللبناني في العام 2000 بما يعنيه من انكسار للمشروع الصهيوني، أكثر مما هو تحرير للأرض، واستمر الصعود الصامت للصين، والواثق لإيران.
ترافق ذلك مع صعود اليمين الأمريكي المحافظ، وأفكار مُنظّريهْ، في صراع الحضارات لصموئيل هنتنغتون، ونهاية التاريخ لفوكوياما، والتي نَظَّرتْ لسيادة القيم الرأسمالية، وأفكار الليبرالية الجديدة المتوحشة، ولاعتبار القرن الحادي والعشرين، قرناً أمريكياً، وكان قرار اللوبي الصهيوني، والدولة العميقة، في الولايات المتحدة الأمريكية، تسليم زمام الأمور لهذه العصابة، ممثلة بإدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن، التي بدأت عملها، على وقع أحداث الحادي عشر من أيلول، في نيويورك وواشنطن، والتي جعلت الولايات المتحدة الأمريكية، وقوتها العسكرية، كالثور الهائج، الذي يريد إخضاع العالم، بالقوة العسكرية والتوحش، فكان غزو أفغانستان 2001، ثم العراق 2003، ثم قتل رفيق الحريري، في شباط/ فبراير عام 2005، والعدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006، والذي اعتبرته وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس، مخاضا صعبا لولادة «الشرق الأوسط الجديد» والهدف ضرب قوى المقاومة، وفي قلبها سورية، وإعادة تشكيل المنطقة وتقسيمها إلى إمارات وكيانات، عرقية وطائفية متناحرة، تدور في الفلك «الإسرائيلي»، وإسقاط إيران، ومحاصرة الصين وروسيا.
شهدت المخططات الغربية ارتكاسات كبيرة، لم تكن تتوقعها، ومنعتها من تحقيق أهدافها، أولها فشل العدوان «الإسرائيلي» على لبنان عام 2006، ثم نجاة سورية من مصيدة الحريري، ثم فشل العدوان «الإسرائيلي» على غزة، أواخر عام 2009، وصعود وتنامي المقاومة العراقية، وهو ما أبقى تلقائيا، الطريق مفتوحا، أمام مثلث بكين موسكو طهران، لاستمرار بناء قوته، السياسية والاقتصادية والعسكرية.
بالتأكيد من غير المتوقع أن تستسلم القوى الاستعمارية الغربية الصهيونية، لهذه الارتكاسات، ولا بد من أساليب ومخططات جديدة، لتنفيذ «مشروع الشرق الأوسط الجديد» فكان «الربيع العربي» الذي كان يستهدف تسليم المنطقة لعصابات الإسلام الصهيوني (الوهابي الإخواني) وتم توكيل الأمر لنظام أردوغان الإخواني، الذي انتعشت عنده أحلام العثمانية الجديدة.
تساقطت الأنظمة في تونس ومصر وليبيا، لكن الهدف الرئيسي، كان جوهرة المنطقة ومفتاحها «سورية» والذي كان يعني إسقاطها، السيطرة على كامل منطقة غرب آسيا، وتحقيق كل الأهداف والمشاريع، الأمريكية الغربية الصهيونية.
توقع تحالف العدوان، أن دمشق ستسقط، في فترة ما بين شهرين وثلاثة أشهر، لكنها بقيت صامدة وعصية على السقوط، وهذا ما شكل ارتكاسة كبرى، لمشروع الشرق الأوسط الجديد، بنسخته الجديدة، وأول انعطافة حادة، في مسار التوازنات الإقليمية والدولية، باتجاه بدء انتهاء مرحلة القطب الأمريكي الواحد، والانتقال إلى العالم متعدد الأقطاب، بقيادة موسكو بكين طهران، وتم تكريس هذا المسار، مع دخول المقاومة اللبنانية، وفصائل المقاومة الأخرى وإيران، إلى جانب الدولة السورية، ثم الدخول الروسي، الذي حقق حلم موسكو بالوصول إلى المياه الدافئة، وفتح المجال أمام عودتها كقوة عظمى، وفي بكين، تم انتخاب الرئيس شي جين بينغ، في 14 آذار/ مارس 2013، خلفاً للرئيس (الإصلاحي) هو جينتاو، الذي تم إخراجه بشكل مهين، من مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني، في 22 تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2022، بعد التجديد للرئيس شي جين بينغ، لولاية ثالثة، كرسالة إلى الولايات المتحدة، ودول الغرب، بأن الصين دخلت مرحلة جديدة، نحو زعامة العالم.
الانعطافة الثانية، في مسار التحولات العالمية، من مرحلة القطب الواحد، إلى العالم المتعدد الأقطاب، جاءت مع فشل العدوان على اليمن، وانتقال اليمن (المقاوم) ليصبح طرفاً رئيسيا من أطراف حلف المقاومة، بما يشكله من موقع استراتيجي، يسيطر على الممرات المائية، وخطوط إنتاج ونقل الطاقة، وسلاسل التوريد، والتجارة العالمية.
الانعطافة الثالثة، في هذا المسار، كانت مع العملية العسكرية الروسية، في أوكرانيا، وفشل الرهان الأمريكي الأوروبي، على خسارة روسيا الحرب، التي نقلت الصراع لأول مرة، منذ الحرب العالمية الثانية، إلى داخل القارة الأوروبية.
وسط هذه التشابكات والتعقيدات، كانت قوى الاستعمار، الأمريكي الصهيوني الغربي، تعد العدة لمرحلة جديدة من الصراع، تعمل فيها على توجه ضربة قاصمة لقوى وتنظيمات المقاومة، وتقديم كل أنواع الدعم لأوكرانيا، في مواجهة روسيا، وصولاً إلى الدخول المباشر في مواجهتها، ونقل المواجهة مع الصين، إلى مرحلة أكثر سخونة، لتأتي عملية طوفان الأقصى، وتداعياتها، لتفاجئ الجميع، وتغير كل شيء، لأنها جاءت نتاجاً وتتويجاً لكل تفاصيل هذا المسار، من الصراعات والمواجهات، وامتداداتها الإقليمية والدولية، لكن أبرز ما أكدته، أنها أعادت الصراع إلى أساسه، وهو المواجهة مع المشروع الأمريكي الصهيوني، لتجديد السيطرة والهيمنة على المنطقة والعالم، ولهذه الأسباب، ستكون لطوفان الأقصى، نتائج زلزالية، ستغير وبعمق، الخرائط الجيوسياسية للمنطقة والعالم، وستسقط معها إمبراطوريات، ودول عظمى، وأنظمة وتنظيمات، وستصعد أخرى.

أكدت التحولات الجيوسياسية، الإقليمية والدولية، في الميادين السورية واليمنية والأوكرانية، وبعد «طوفان الأقصى»، أن توازنات القوى والقوة، الإقليمية والدولية، اتخذت مساراً لا رجعة عنه، للانتقال من عالم القطب الواحد، برأسه الأمريكي، إلى العالم المتعدد الأقطاب، برؤوسه بكين موسكو طهران، وأن منطقة غرب آسيا، وفي قلبها بلاد الشام، عادت لتأخذ دورها، الذي عرفت فيه على مدى التاريخ، بأنها المنطقة التي تحدد مسار صعود وانهيار الإمبراطوريات، والدول العظمى.
هذا المسار أكد أن الكيان الصهيوني، بما يشكل الأساس، والرأس المتقدم، للمشروع الاستعماري الغربي، أصبح أمام خطر وجودي حقيقي، يجعله يدخل المرحلة التي حذر منها القادة المؤسسون للكيان، وهي «اليأس وفقدان الأمل» والتي تعني الانهيار والتفكك، ومن يتابع الإعلام الصهيوني، وآراء النخب السياسية والعسكرية «الإسرائيلية»، يرى أنهم أكثر من يتحدث عن هذا المصير، خاصة وأن طبيعة المجتمع الصهيوني، تساعد على التفكك السريع للكيان، مع حمل معظم المستوطنين، لجنسيات مزدوجة، ولديهم أماكن إقامة في دول أخرى، وهذا يسهل عليهم الذوبان في مجتمعات هذه الدول، بدون حدوث أزمة لجوء، ومن يتابع حركة شراء المستوطنين «الإسرائيليين»، للبيوت والشقق، خارج فلسطين المحتلة، وخاصة في رومانيا وبلغاريا، يدرك هذه الحقيقة.
وباعتبار أن تفكك وانهيار الكيان «الإسرائيلي»، سيرافقه إخراج أمريكا من منطقة غرب آسيا، وهو ما يعني النهاية الحقيقية لهيمنة المنظومة الاستعمارية الغربية، مع ما يعني ذلك من الإطاحة بكل ما تم رسمه في المنطقة، بناء على مصالح هذه المنظومة، بدءا من المؤتمر الصهيوني العالمي الثالث الذي عقد في مدينة بازل السويسرية في آب/ أغسطس 1899، و«سايكس بيكو» عام 1916، وتمزيقه لمنطقة بلاد الشام، إلى «وعد بلفور» عام 1917، إلى قيام الكيان الصهيوني عام 1948، والكيانات التي أقيمت لحمايته، مرورا بعدوان حزيران/ يونيو عام 1967، وحرب تشرين الأول/ أكتوبر عام 1973، ومرورا بما شهدته المنطقة، من حروب، ومعارك بين الحروب، واتفاقيات استسلام وتطبيع، وصولاً إلى طوفان الأقصى، وهذا سيجعل من انهيار الكيان الصهيوني، البؤرة الزلزالية التي ستنتج دوائر، وزلازل ارتدادية، تطيح بكامل الخرائط الجيوسياسية، في منطقة غرب آسيا، وامتداداتها في كل الاتجاهات، من بحر الصين، إلى أوكرانيا، وكامل القارة الأوروبية.
مع هذه التطورات، يصبح من السهل، معرفة الكثير من تفاصيل الخريطة الجيوسياسية التي ستنشأ عن انهيار الكيان الصهيوني، والانسحاب الأمريكي من غرب آسيا، وانتصار روسيا في أوكرانيا، والعجز الأمريكي عن خوض معركتها مع الصين، وسيكون من أبرز مشاهدها:
• انهيار الكيانات الوظيفية، في لبنان والأردن والسلطة الفلسطينية، والتي أقيمت لحماية الكيان الصهيوني، وإضعاف سورية، الدولة المركزية في بلاد الشام، والنقيض للكيان الصهيوني، وهذا يجعل من سورية، الدولة المهيأة لملء هذا الفراغ، خاصة إذا ما تمكنت من الخروج من أزماتها الحالية، لتعود كما هي، بحدودها التي تشمل كامل بلاد الشام.
• في شبه الجزيرة العربية، حيث نظام بني سعود، التوأم الثاني للكيان الصهيوني، ومعه الكيانات الهشة، التي أقيمت، للقيام بوظائف ترفع الحرج عن نظام بني سعود، فكانت البحرين مقراً للأسطول الخامس الأمريكي، وقطر مقرا لقاعدة العيديد، وهي الأكبر خارج الأراضي الأمريكية، والإمارات مقراً للشركات والبنوك الغربية والصهيونية، ومحطة لمنتجاتها، باتجاه الأسواق الآسيوية، والكويت التي لم تكن سوى فائض جغرافي، مقتطع من العراق، أما سلطنة عُمان، فتبدو محافظة على موقعها، بما تمتلكه من جذور، وإرث تاريخي، في المنطقة، أما اليمن، فهو البلد الذي أكد أنه الأكثر رسوخا وقوة في شبه الجزيرة العربية.
هذا يعني أن نظام بني سعود سينهار مع انهيار توأمه الكيان الصهيوني، وستنهار معه الكيانات الوظيفية، في قطر والبحرين والإمارات والكويت، لتبقى شبه الجزيرة العربية، مقتصرة على ثلاث دول، وهي اليمن بحدود أوسع من حدوده الحالية، مع استعادة أراضيها التي ضمتها السعودية، وسلطنة عُمان، ونجد والحجاز، ولكن بنظام غير نظام بني سعود، ستكون حدوده وشكله النهائي، مرتبطا بتطورات الميدان اليمني.
• نظام «كامب ديفيد» وحكم العميل السيسي سينهار بشكل تلقائي مع انهيار الكيان الصهيوني، وسينشأ نظام وطني يعيد لمصر دورها المفقود.
• تركيا التي هددت الأمن القومي للقوى الصاعدة، روسيا والصين، من خلال مشروع العثمانية الجديدة والعصابات الإرهابية التي جلبتها من هذه الدول، لاستخدامهم لاحقا فيها، بحسب مخطط «الشرق الأوسط الجديد»، وهددت بهم إيران أيضاً، كما أن الحيز الاستراتيجي، الموجود في المنطقة، لم يتسع عبر التاريخ، لإيران قوية، وتركيا قوية، وهذا يؤكد أن لهذه الدول حسابا مفتوحا مع تركيا، ستدفع ثمنه لاحقاً، مع رسم الخراط الجيوسياسية الجديدة للمنطقة، وهذا سيجعلها، إما مقسمة أو ضعيفة.
• أبعد من المنطقة، فأوكرانيا، كل المؤشرات تدل على أنها ذاهبة إلى التلاشي كدولة، وتقسيم أراضيها، بين روسيا وبولندا ورومانيا، وهذا سيفتح الباب واسعاً، أمام عودة صراعات الحدود الأوروبية، التي نشأت بشكل تعسفي، يتناسب مع مصالح الدول المنتصرة، في الحرب العالمية الثانية.
• بريطانيا وفرنسا، اللتان انتهتا كدول إمبراطورية، بعد حرب السويس عام 1956، ستنتهيان كدول عظمى، بعد «طوفان الأقصى»، وتتراجعان إلى مجرد دول أوروبية، على غرار إسبانيا وبولونيا، ووحدها ألمانيا ستنجو من هذا الزلزال الجيوسياسي، وستتمكن من الحفاظ على دور ومكانة لها، في المنظومة المتعددة الأقطاب، التي تتشكل.
• كما سنشهد صعود دول عظمى جديدة بديلة، تقع كلها خارج المنظومة الأمريكية الأوروبية، مثل إيران، والبرازيل، والهند، وجنوب أفريقيا، ومصر.
• انتهاء الهيمنة الأمريكية الغربية، على الأمم المتحدة والمؤسسات الأممية، وتشكيل تنظيم أممي بديل عنها.
• أما الصين، فتبدو الأكثر ربحا من هذه التطورات، حيث تتراجع قدرة الولايات المتحدة الأمريكية، على خوض الحرب التي تهدد بها الصين، خاصة بعد الإذلال الذي تعرضت له بحريتها، على يد اليمنيين، وهذا سيجعلها تربح انتصارا استراتيجيا على الولايات المتحدة الأمريكية بدون أن تطلق طلقة واحدة، وسيكون من السهل عليها، في الوقت الذي تراه مناسبا، ضم تايوان، والسيطرة على شركات الشرائح الإلكترونية، التي تنتجها تايوان، والتي تقدم 90 بالمائة، من حاجة العالم من هذه الشرائح، التي تدخل في كل الصناعات العسكرية والمدنية الحديثة، وهو ما يرعب واشنطن، وكانت السبب في كل هذا الجنون الأمريكي، من الصين.
• أما الولايات المتحدة الأمريكية، فكل مراكز الأبحاث، والنخب السياسية والعسكرية الأمريكية والأوروبية، تؤكد أنها ذاهبة إلى التفكك، على طريقة الإمبراطورية الرومانية، أي بدون أن تبقى دولة منها وريثة لها، بالطريقة التي ورثت فيها روسيا، الاتحاد السوفييتي.
هذا يؤكد أن ما نراه اليوم هو من الأحداث المفصلية التي تحدث مرة كل 400 إلى 500 سنة، والتي تغير وجه العالم، وآخرها كان سقوط الأندلس والقسطنطينية، وظهور المرحلة الاستعمارية الغربية، وصعود الإمبراطورية العثمانية.
وعلى الطريق لهذه التحولات، سنكون شهودا، على مدى أكثر من عقد من الزمن، على دراما جيوسياسية مثيرة، وستكون فيها محطات تحبس الأنفاس، وسيكتب العالم أن معركة «طوفان الأقصى» وتداعياتها، أرَّخَتْ لعالم جديد، وسيكون هناك ما قبل «طوفان الأقصى»، وما بعده.

أترك تعليقاً

التعليقات