طوفان الأقصى وجردة حساب أولى
 

أحمد رفعت يوسف

دمشق - أحمد رفعت يوسف / لا ميديا -
مع إقرار أول هدنة في العدوان على الشعب الفلسطيني في غزة، بعد 48 يوماً من القتال الشرس، لا بد من وقفة موضوعية، نسأل فيها ماذا تحقق في جانبي القتال، وماذا حدث من إخفاقات، وإلى أين تسير الأمور بعد الهدنة، وما هي التوقعات؟
بالتأكيد إن القراءة الموضوعية، لا يمكن أن تقتصر على حساب الربح والخسائر المباشرة، في العتاد والأرواح، هنا أو هناك، بسبب طبيعة الصراع، التي تأخذ الطابع الوجودي، الأبعد من مجرد حرب بين طرفين، على أهداف محددة، ولا بد من قراءة أبعد لمعرفة حسابات الحدث.
فالمقاومة الفلسطينية، التي فاجأت العدو يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول، أحدثت زلزالا عنيفاً، تجاوزت الحدود العسكرية والسياسية والاقتصادية، لتطال عمق الوعي في المجتمع الصهيوني، مما وضع قادته السياسيين والعسكريين أمام مآزق حقيقية ليس من السهل الخروج منها، إن لم يكن من المستحيل هذا الخروج، بعد الصدمة التي حفرت عميقاً، في وعي المجتمع الصهيوني الهش، وهو ما ستظهر تداعياته تباعاً.
كما أذلت المقاومة الجيش الصهيوني، الذي جرى الترويج له على مدى أكثر من سبعة عقود، بأنه الجيش الذي لا يقهر، وحطمت عقيدته، التي تقوم على مبدأين هما الحرب السريعة، والقتال في أرض العدو، ليجد نفسه لأول مرة، في حرب طويلة ومفتوحة، وفي عقر داره.
أما النتيجة الأهم، فهي أنها حطمت أهم ركنين قام عليهما الكيان الصهيوني، وهما الأمن المطلق، والرفاهية الاجتماعية والاقتصادية للمستوطنين، ليرى هذا المجتمع نفسه، بين مهجر من الشمال والجنوب، ومختبئ في الملاجئ، في معظم مدن ومناطق الداخل، مع توقف شبه تام للاقتصاد، وتكاليف باهظة، بلغت بحسب تقارير صهيونية مليار شيكل يوميا، عدا النتائج غير المباشرة، بهروب الاستثمارات، والتي تعني بشكل آخر، وصول المجتمع الصهيوني، إلى النقطة التي حاول كل قادته، منذ نشوئه تلافي الوصول إليها، وهي حالة "اليأس وفقدان الأمل" والتي تعني حدوث هجرة معاكسة، تنهي هذا الكيان من داخله.
ومن الجانب الصهيوني، فقد سارع قادة العدو الصهيوني، السياسيون والعسكريون، إلى الإعلان عن أهدافهم من العدوان، بإيجاد حل لكابوس غزة، واستئصال المقاومة منها، بكل أبعادها السياسية والعسكرية وتحرير الأسرى.
ونعتقد أن نظرة موضوعية، تؤكد فشل الكيان الصهيوني، في تحقيق أي من هذه الأهداف حتى الآن، حيث لم ير أحد استسلام المقاومة، ولم نر أيا من قادتها سواء شهيدا أو أسيرا، مع أن هذا الأمر وارد في مثل هذه الحروب، كما فشل العدو في تحرير أي من أسراه، من خلال القتال، ولم يحدث ذلك إلا بتحقيق الهدنة المؤقتة، التي لبت شروط المقاومة، أكثر من الشروط الصهيونية.
لكن هذا لا يلغي الصورة الأخرى، وهي نجاح العدو الصهيوني، في إيقاع أعداد كبيرة من الشهداء المدنيين، معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ، مع إحداث التدمير الواسع والممنهج في القطاع، وفي منشآته المدنية والسكنية، وبنيته التحتية والخدمية، وخاصة المشافي والمؤسسات الصحية والكهرباء والاتصالات، بهدف تحقيق أهدافه ومخططاته المعلنة والمتوقعة، بتهجير سكان القطاع، وإحداث نكبة جديدة، حيث بدا واضحاً أن العدو الصهيوني، ومن معه من قوى إقليمية ودولية، يعملون للخلاص من كابوس غزة، بكل أبعاده المقاومة والسياسية والاجتماعية.
ونعتقد أنه من الخطأ الجسيم، تجاهل هذه الأهداف والمخططات، أو القول بصعوبة تحقيقها، بدون مقاومتها وإفشالها مهما كان الثمن، خاصة مع عدو شرس، ومحمي من قوى إقليمية ودولية فاعلة، تؤمن له الحماية السياسية والعسكرية، والتغطية في المؤسسات الأممية والدولية، وللإفلات من الحساب والمحاكمة، ومع الحديث عن فتح دول أوروبية وغير أوروبية، أبوابها لهجرة الفلسطينيين إليها، بهدف استيعابهم في هذه الدول.
وأبعد من الساحة الفلسطينية، فقد أحدث طوفان الأقصى، أهدافاً كبيرة جداً، ستترك آثارها على الخريطة الجيوسياسية، التي تتشكل للمنطقة لعل أبرزها:
دخول الضفة الغربية نطاق القتال، وإن بشكل أقل من المطلوب، بسبب سيطرة قوى السلطة الفلسطينية، والمرتبطة باتفاقيات أمنية مع العدو الصهيوني.
فتح الباب أمام دخول ساحات جديدة في القتال، وخاصة من جنوب لبنان، رغم حرص الصهاينة والأمريكيين، على عدم توسيع نطاق القتال، وهو ما مكن المقاومة اللبنانية، من رفع وتيرة هجماتها، على قوات العدو، والمستوطنات القريبة من الحدود، مما أسهم في تشتيت قوى العدو، وتحقيق إصابات كبيرة في جنوده، وفي المنشآت العسكرية واللوجستية، وهروب المستوطنين من عشرات المستوطنات.
بروز قوى إقليمية فاعلة، فرضت نفسها على توازنات القوى والقوة والنفوذ في المنطقة، وفي مقدمتها اليمن "المقاوم" الذي قام بتوجيه ضربات إلى الكيان الصهيوني، كان أهمها وأكثرها فاعلية، السيطرة على السفينة المملوكة لرجل أعمال صهيوني، والتي أخذت أبعاداً جيوسياسية، أبعد بكثير من مجرد السيطرة على سفينة، وأكثر بعدا من الساحة اليمنية، لتصل إلى المجال الإقليمي والدولي.
تحطيم صورة العدو، في أوساط الرأي العام العالمي.
كما وضعت على التنفيذ، الهدف الاستراتيجي لقوى المقاومة، بإخراج الأمريكيين من سورية والعراق، وتاليا من كامل منطقة غرب آسيا، حيث يتم توجيه ضربات يومية، لقواعد ومنشآت الاحتلال الأمريكي في البلدين، ويتم إيقاع خسائر كبيرة، يتكتم عليها الأمريكيون، ولوحظ أن رد الفعل الأمريكي، كان أقل بكثير من قوة هذه الضربات، في مؤشر على إدراكهم هدف المقاومة، وهشاشة تمركزهم في الدولتين، وإمكانية تحقيق هزيمة استراتيجية جديدة لهم.
ويبقى السؤال اليوم، ماذا بعد انتهاء أيام الهدنة؟ هل سيستأنف القتال؟ أم أن القوى المؤثرة والفاعلة، ستعمل على أن تكون هدنة دائمة؟ وكيف سيكون توزع خريطة السيطرة في القطاع؟ وهل ستبقى القوات الإسرائيلية أم ستنسحب.. أم أن القتال سيستأنف، وبضراوة أكثر، مع بقاء الأمور مفتوحة على كل الاحتمالات؟
بالتأكيد لن يكون القرار في ذلك سهلاً، على قادة العدو، لأن وقف القتال عند هذه النقطة، يعني القبول بالهزيمة، وتداعياتها على الكيان، الذي ينتظره زلزال آخر، من داخله هذه المرة، لأن كل الأطراف تنتظر توقف القتال، لبدء معركة محاسبة شرسة، لمعرفة كيف نجحت المقاومة في تحقيق هذا الخرق الكبير، يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وتحديد المسؤولية عما جرى، ولماذا جرى، خاصة مع غياب أي إنجاز حقيقي، للأهداف التي وضعها قادة العدو، وفي مقدمتهم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الذي يدرك أن عملية إعدامه السياسي، وذهابه إلى السجن، بانتظاره مع لحظة توقف القتال.
كما أن استئناف القتال، سيزيد من وتيرة الهجرة المعاكسة للمستوطنين، وزيادة في تآكل مكانة وصورة الكيان الصهيوني في العالم، والقضاء بشكل شبه نهائي، على استمرار نهج التطبيع، ومحاولة فرض الكيان الصهيوني، ككيان طبيعي في نسيج المنطقة.
وتبقى المسألة مرهونة في قدرة الأطراف المؤثرة، على فرض وقف القتال، والقبول بهذا الحد من الخسائر، خاصة مع وجود قناعة حقيقية، في تل أبيب وواشنطن، بصعوبة تحقيق أهداف العدوان، وخطورة الذهاب أبعد من ذلك، لكن كل هذا، لا يلغي ميل الرؤوس الحامية، في الكيان الصهيوني، والإدارة الأمريكية، للاستمرار في القتال، لمحاولة تحقيق الأهداف الموضوعة، مهما كان الثمن، مما يبقي الأوضاع مفتوحة على كل الاحتمالات.

أترك تعليقاً

التعليقات