أحمد رفعت يوسف

دمشق / أحمد رفعت يوسف / لا ميديا -
عندما طُرحت فكرة وحدة الساحات، في التصدي للمشروع الأمريكي الصهيوني العدواني في المنطقة، لم يكن ذلك من فراغ، وليست وليدة حلم رومانسي، وإنما كانت فكرة مبنية على الوحدة الجيوسياسية للمنطقة، وترابط المصالح والأهداف، لأطراف ودول حلف المقاومة.
وتكتسب هذه الوحدة أهميتها من كون المنطقة التي تضم بلاد الشام والرافدين والجزيرة العربية، على مدى التاريخ، نقطة التوازن الاستراتيجي في العالم، والمؤشر إلى صعود وانهيار الدول العظمى والامبراطوريات، وعقدة الوصل والتواصل بين الأطراف المؤثرة في العالم، وخطوط التجارة العالمية.
وضمن هذه المنطقة، كانت بلاد الشام واليمن، عبر التاريخ، هي القلب النابض والملهم والمحرك لحيويتها وتطورها، ومنبع حضارتها ونهضتها، ولذلك كانت المنطقتان الهدف الاستراتيجي لكل الدول العظمى والامبراطوريات، الساعية للهيمنة والسيطرة.
وفي التاريخ الحديث، كانت سورية واليمن هدفاً للقوى الاستعمارية وأدواتها، وكان هذا يتطلب منع استقلالهما، أو ترك شعوبها تعيش بهدوء، لأن هذا يتناقض مع مصالح القوى الاستعمارية، فتم زرع كيانين لتنفيذ هذه المهمة، فكان الكيان الصهيوني في بلاد الشام، ومملكة آل سعود في الجزيرة العربية، وكان امتلاك النفط، ومصدر التمويل والثروة، عامل حماية واستمرار لهذين الكيانين.
ففي بلاد الشام، حيث قلب الصراع، كانت المعادلة تقوم على مبدأ "إما أن تموت سورية لتحيا إسرائيل، وإما أن تموت إسرائيل وتحيا سورية". وفي الجزيرة العربية، حيث العمق الحيوي والاستراتيجي، كانت المعادلة "إما اليمن وإما السعودية". وكل ما يجري في كامل المنطقة من صراعات ليس سوى تفاصيل لهذه المعادلة، ولصالح من سيكون الغلبة فيها؟!
ومع هذا العرض التاريخي والجيوسياسي، يتضح مدى الترابط بين ما يجري على الساحتين السورية واليمنية اليوم، في إطار الصراع الدائر على الساخن والبارد، لتوليد المنظومة الإقليمية والدولية الجديدة، وتحديد موازين القوى والقوة، للدول الإقليمية والعظمى والامبراطوريات، التي ستسير السياسات والاقتصاديات في المنطقة والعالم، لقرن مقبل من الزمن.
وفي استعراض لما يجري اليوم، نرى أن سورية التي بدأ العدوان عليها في آذار/ مارس 2011، مع توقعات انهيارها خلال ثلاثة اشهر، مرت بأصعب اختبارات مشروع الشرق الأوسط الجديد، الاستعماري الأمريكي الصهيوني الغربي، باعتبارها جوهرة العقد لهذا المشروع، وعليها يتوقف نجاحه أو سقوطه، وهو ما أكدته وقائع الأحداث، لأنه لو سقطت سورية، لكانت أصبحت المنطقة ممهدة لتتساقط بقية ساحاتها وامتداداتها العالمية، كأحجار الدومينو، فكان أن انقطع تماما الخط الرئيسي لمحور المقاومة: "طهران - بغداد - دمشق - بيروت"، وحوصرت المقاومة اللبنانية والفلسطينية، وانقطعت خطوط الدعم عنها، وكان أن حوصرت إيران وروسيا، وانهار مشروع الحزام والطريق الصيني.
وبالمقابل، كان مشروع الشرق الأوسط الجديد قد وجد طريقه للتنفيذ، وضَمِنَ مقومات تجديد هيمنة وسيطرة الغرب الرأسمالي الاستعماري، واستمد أوكسجين بقائه، ودخلت معه المنطقة والعالم، في مرحلة ظلامية لقرن آخر من الزمن.
لكن ومع صمود سورية، وتمكنها من البقاء عصية على السقوط، فقد حدثت من ميدانها الانعطافة التاريخية الكبرى، في التوازنات الإقليمية والدولية، فتمت فرملة مشروع الشرق الأوسط الجديد، وامتلك محور المقاومة عناصر البقاء والقوة، ومراكمة الانتصارات.
مع الفشل في سورية، حاولت قوى العدوان الاستعمارية، تجريب العمل من ساحة أخرى، فكان العدوان على اليمن، في آذار/ مارس عام 2015، مع توقعات بانهيارها خلال أسابيع؛ لكن ما جرى لم يكون سوى وهم آخر، مشابه لأوهامهم في سورية، حيث صمد اليمن (المقاوم) وسقطت مرة أخرى، أحلام وأوهام تحالف العدوان الأمريكي الصهيوني الغربي الأعرابي، في تنفيذ مخططاته ومشاريعه الاستعمارية، وخرج اليمن بما يمتلكه من عناصر قوة، وموقع استراتيجي فريد، من هذا العدوان أكثر قوة ومنعة، وهو ما منح قوى ودول المقاومة، عناصر قوة جديدة، وراكم سلسة انتصاراته. 
تداعيات هذه التحولات الاستراتيجية التاريخية والعميقة، في مسار الأحداث وموازين القوى والقوة الإقليمية والعالمية، تستكمل اليوم في الساحة الفلسطينية، بعدما امتلكت المقاومة فيها عناصر القوة، وعوامل الصمود، في وجه العدوان الصهيوني الأمريكي، ونرى تداعيات هذا التحول الجيوسياسي التاريخي الكبير، حتى في ساحات الصراع والاشتباك خارج المنطقة، حيث الفشل الأمريكي الصهيوني الغربي في الجبهة الأوكرانية ضد روسيا، وفي انتعاش مشروع الحزام والطريق الصيني، وبالمقابل بدأ أفول العصر الأمريكي، ومنظومته الاستعمارية، وانهيار مشروع الهند أوروبا.
وفي العودة إلى الترابط الوثيق بين ما يجري في ساحة الصراع في المنطقة، وترابط الساحتين السورية واليمنية، تعيش سورية اليوم وضعاً هو الأصعب بين دول وأطراف الحلف، بسبب كثرة الأعداء في قلب ساحتها، حيث الكيان الصهيوني يحتل الجولان، والعدو الأمريكي مع عملائه، يسيطرون على مساحة واسعة من أراضيها، في التنف والمناطق الشمالية الشرقية، التي تقع فيها معظم مواردها وثروتها، وخاصة النفط والغاز والقمح، والعدو التركي مع العصابات الإرهابية التي يديرها، يسيطر على ادلب وبعض مناطق الشمال، كما أن العصابات الإرهابية، وفي مقدمتها داعش والنصرة، لا تزال موجودة، وتمتلك القدرة على التحرك والعمل، بفضل الدعم المادي والعسكري واللوجستي الأمريكي التركي وبعض العربي.
لكن رغم صعوبة وضع سورية، فقد بقيت تمارس دورها المركزي وكعمود فقري لمحور المقاومة، فحافظت على خطوط الدعم للمقاومة في لبنان وفلسطين المحتلة، وتعالت على الجراح المؤلمة التي سببتها حركة حماس (الإخوانية) التي انحازت لصالح الحلف العدواني، وأثخنت الجراح السورية، وبقيت سورية تفرق بين الجناح الإخواني (مشعل وهنية) الذي تم تحييده بشكل كبير بسبب خطيئته الاستراتيجية، لصالح جناح حماس المقاومة (السنوار ومحمد ضيف والشهيد العاروري).
بعد عملية "طوفان الأقصى"، وما تلاها من عدوان صهيوني أمريكي وحشي على الشعب الفلسطيني، شكل دخول اليمن (المقاوم) بما يمتلكه من موقع استراتيجي، وبما راكمه من عوامل صمود وقوة، انعطافة حادة أخرى، في موازين الصراع لصالح حلف المقاومة.
تداعيات الموقف اليمني لم تكن فقط انتصاراً للشعب الفلسطيني ومقاومته، وإنما شكل عامل قوة لكل أطراف ودول حلف المقاومة، وسينعكس مباشرة على الساحة السورية، في أكثر من اتجاه، ففتح الساحة اليمنية بهذا الشكل يريح الساحة السورية، عبر إشغال الأمريكيين والصهاينة، وتشتيت قواهم. كما سيزيد عمليات فصائل المقاومة ضد الأهداف والقواعد الأمريكية في سورية وفي العراق.
كما ستؤدي إلى مزيد من الانخراط المباشر لإيران في ساحة الصراع، وسيزيد أيضاً دخول الأطراف الدولية، التي تشكل السند الاستراتيجي لسورية، وتحديداً الروسية والصينية، في ساحة الصراع، عبر دعم الموقف السوري، بسبب حاجتهما الاستراتيجية لهذا الدعم.
مع هذه التحولات الجيوسياسية غير المسبوقة، نستطيع تأكيد أن التطورات المتسارعة في المنطقة، والتي تسير لصالح حلف المقاومة، ستؤدي في النتيجة إلى ترسيخ المعادلة الصحيحة في موازين القوى والقوة في المنطقة، وستكون نتيجتها تأسيس أمن قومي عربي جديد، منطلق هذه المرة من منظور حلف المقاومة، وأساسه سورية في بلاد الشام، بدلاً من الكيان الصهيوني، واليمن في الجزيرة العربية، بدلاً من كيان آل سعود، وبهذين الجناحين، ستنهض الأمة من جديد، وما نحتاجه للوصول إلى هذه المرحلة ليس سوى الوقت الذي تستغرقه هذه الجولة من الصراع، لأن النتيجة باتت محسومة تماماً.

أترك تعليقاً

التعليقات