علي نعمان المقطري / لا ميديا -

تعتبر الثورة الشعبية اليمنية الجديدة، ثورة 21 أيلول 2014، ثورة يمنية كبرى وعظمى بحق، بل هي أكثر الثورات اليمنية عظمة واتساعاً وشمولاً وشعبية وتوحداً وجذرية وحزماً وحسماً ووطنية واستقلالاً وقوة وعزماً وتضحية وتحدياً وفتوة وظفراً، في الميادين وفي التصورات والأفكار والعقائد والبرامج والرؤى والأخلاقيات والروح والسلوك، وهدفها ومحورها الانتصار للإنسان الكادح، الشريف، المهموم، المقهور، المظلوم، المستلب الحقوق، المنهوب، المفترى عليه طـوال عقود من القهر والتبعية والهيمنة الأجنبية والاستبـداد والفساد والإقطـاع والارستقراطية القبلية والأوليجاركية الطفيلية المالية والبيروقراطية العسكرية والإدارية والسياسية والقضائية،
ومن مظالم الديكتاتوريات العسكرية والعائلية والقبلية والمالية والمناطقية والفئوية والطائفية التابعة للأجنبي التي توالت على اليمن منذ عقود، ووصلت ما انقطع من آمال وطنية تحررية إنسانية راودت اليمنيين منذ أمد طويل، وتحقيق المساواة في المواطنة والخضوع للقوانين والعدالة الاجتماعية والفردية وحقوق الإنسان والتعددية الحقة وتداول السلطة والمشاركة الشعبية الحقيقية وإزالة كل تمييز أو غبن أو احتكار سياسي أو تدخل أجنبي تحت أي ذريعة كانت، وهدفها الأساسي هو تحرير الإنسان اليمني ووطنه وكرامته وحريته وإرادته وثرواته ومقدراته وأراضيه وكافة حقوقه الجيوسياسية والجغرافية والمادية والمعنوية، واستعادة سيادته على أرضه وكامل ترابه الوطني والتاريخي، وتجاوز مخلفات وآثار العدوان الاستعماري الأجنبي العتيق والجديد المباشر والوكيلي، وتحريره من الظلم الأجنبي والداخلي على السواء، وإعادة التوازن والعدالة في معادلات العلاقات الدولية والإقليمية في الفضاء الوطني العربي الإسلامي وفقاً للقيم والقوانين والشرائع المعترف بها بين الأمم والدول والشعوب وبني الإنسانية.

مكانتها التاريخية بين الثورات
لقد شارفت ثورتنا على تجاوز مستويات الثورات العالمية العظمى في التاريخ الإنساني العالمي من نواحٍ عديدة، فقد انحصرت تلك الثورات الكبرى السابقة في أنها ظلت أسيرة قالبها التاريخي الضيق المحدود الذي عاد وتحول إلى قيد أمام حركتها، مما أسلمها في نهاية المطاف إلى السقوط أو الجمود وأوصلها إلى حائط مسدود.
فقد ظلت الثورة الفرنسية محصورة اجتماعياً في هدف إزالة العلاقات الإقطاعية لصالح علاقات رأسمالية، وبرجزة المجتمع الفرنسي ورسملته، أي نقل السلطة من الطبقة الارستقراطية الزراعية الريفية العقارية الفرنسية إلى الطبقة المالية الرأسمالية البرجوازية المدنية والتجارية، واستخدمت الشعب مجرد داحرة إرهابية لقمع الطبقات القديمة، دون أن تشركه في السلطة حقيقة، والنتيجة هي تلك الدول والأنظمة الاستعمارية التي رأيناها خلال القرن التاسع عشر.
وفي روسيا كانت الثورة الشعبية الكبرى قد طوقت بعد أن أصبح الهدف يضيق إلى حد انحصاره في مصالح طبقة واحدة لا تشكل أغلبية المجتمع وتجاهل مصالح الأغلبية الشعبية الفلاحية الزراعية، ولذلك وتدريجياً تخلت عنها الأغلبية تلك بعد أن لم تجد فيها مصالحها، ومن هنا أمكن للأجنبي التدخل لإسقاطها من الداخل والخارج. لكن ثورتنا 21 أيلول مازالت مفتوحة، ولم تنحصر أو تنغلق كالثورة الفرنسية والألمانية والروسية، فلم تحدد لنفسها سقفاً متواضعاً وأجلاً ينتهي بها بعد أمد قصير كالثورة الفرنسية والألمانية والروسية، بل مازالت ممتدة في الأفق ومشبعة بثورات عديدة متراكبة تحتاج عقوداً طويلة لإنجازها وتحقيق أهدافها.
وقد ظل الكثير من الأهداف والبرامج السياسية والاجتماعية والثقافية للثورات والانقلابات الوطنية والتحررية السابقة مجرد حبر على ورق في الصحف والمناسبات ليس إلا، والأهداف الستة لثورة 26 سبتمبر 1962 السابقة انتهى بها المطاف إلى السقوط بأيدي أعدائها وتحت سيطرة السفارات الأجنبية والوصاية الكاملة على البلاد وعلى سياستها.
أما ثورة 14 أكتوبر 1963 التحررية الاستقلالية الاجتماعية فقد انتهى بها المطاف إلى التذابح الدائم بين مكوناتها وأجنحتها، ولم تستطع تحقيق أي من برامجها الطموحة، ولم تسلم أخيراً من تسليم رأسها إلى جلاديها. كما لم تستطع حركة 13 يونيو 1974 التصحيحية أن تحقق الكثير من أهدافها وغاياتها الوطنية، لأنها جرت في ظل التصالح مع أعدائها والمتربصين بها وبرأس قيادتها، فما إن حاولت خلسة التزود بشعلة من ضياء الفجر انقضت عليها خيول التتار لتعمل فيها سيوفها وخناجرها حتى بددت ذلك الضياء، ليحل علينا وعلى الوطن ليل موحش طويل حالك السواد مضرج بالدماء مضمخ بالجثث والسجون والمعتقلات والقتل والاغتيالات والتعذيب والتغييب والتشريد والإفقار والبؤس والمزيد من الإغراق في بحار التبعية والاستلاب والتكفير والإرهاب والتعصب والفساد والنهب والحروب العدوانية ضد الشعب. تلك كانت الأنجم الزهر على وجنات حكومات وأنظمة العمري والإرياني والزنداني والغشمي وعفاش وهادي. 
أدت سيطرة القمع والاستبداد إلى خنق كل نبتة وطنية حاولت أن تتطلع إلى النور وهي مازالت في مهدها، استناداً إلى الخبرات والهيمنة الأجنبية المباشرة على كل أجهزة الدولة والقوة والسياسة والقرار والثروة والتوجيه الفكري والأيديولوجي. لكنها رغم ذلك لم تستطع خنق ثورتنا الجديدة ذلك أن الثورات السابقة التي خنقتها الرجعية التابعة بأبشع الأساليب قد أعادت إنتاج روحها بين شعبها ومجتمعاتها الوطنية بأساليب شتى متنوعة، مستندة إلى العودة إلى الذات التي اغتربت عنها في الماضي. وعلى ضوء تلك المعاناة ودروسها البليغة وحكمتها ودلالاتها نبعت الفلسفة الثورية الواقعية الجديدة. ومن دلالات عظمة هذه الثورة أنها أدركت بوعي ثاقب وناضج حصيلة التاريخ الوطني اليمني خلال القرون الماضية الحاسمة، واستخلصت ومازالت تستخلص دروسها وحكمتها وتضع يدها على مكامن الوجع اليمني بواقعية افتقرت إليها الثورات السابقة ورؤاها وقياداتها وحركاتها، فلم تكن تلك الثورات قد نضجت بعد واستوت على سوقها، فكان واحداً من أهم عوامل إخفاقاتها المأساوية على الرغم من الطاقات الهائلة التي كانت تحت تصرفها وتمتلكها في مراحل الصعود والنهوض التي نشأت فيها، لكن افتقارها إلى النضوج والحكمة دفعها إلى عدم التقدير الصحيح للمعادلات والتناقضات والقوى التي تتحكم بتطور العالم والإقليم ومآلاتها الموضوعية.
إن العديد مما طرحته من أهداف وطنية عظمى قد أنجزتها على صعيد الواقع التاريخي القائم، فلم تبقَ معلقة في عالم الأمنيات والأحلام حتى تضيع في زحمة المشكلات والتحديات التاريخية المتلاحقة، بل هي جعلتها جزءاً من المسيرة اليومية الكفاحية، رغم التحديات الكبرى التي تواجهها، فقد بلغت بها مصاف الثورات العظمى والكبرى بحق وعن جدارة.

المسار التاريخي
إن ثورتنا الشعبية 21 أيلول قد انبثقت من خلال النضال الشعبي الثوري الوطني الطويل الذي خاضته أجيال متعاقبة من الوطنيين من أبناء شعبنا الكادح المظلوم عبر تاريخ مجيد من التضحيات طيلة قرن من الزمان، وهي امتداد لما سبقها من نضالات وطنية لتشكل حركة وطنية ثورية عامة تتجدد باستمرار.
وخلال العهد الاستبدادي الأخير في مواجهة ديكتاتورية صالح، دمية المخابرات الأمريكية السعودية وعصاباته، ولسنوات طويلة وهي تخوض الكفاح التحرري في مواجهة الاستبداد العسكري الداخلي المدعوم من الإمبريالية الخارجية السعودية الأمريكية. 

الجذور الأصيلة والحديثة للثورة
تعود الجذور الأصيلة للثورة الشعبية الجديدة إلى حركة المقاومة الشعبية الوطنية التي تنامت في البيئة اليمنية المقهورة كامتداد متطور للحركة الوطنية اليمنية المقاومة للتسلط الأجنبي والاستبداد الإقطاعي والاستعمار طوال القرون الثلاثة الأخيرة منذ الاحتلال العثماني الأول والثاني والاحتلال البريطاني والتوسع الوهابي السعودي الأمريكي وسيطرتهما على الدول اليمنية والتحكم بالأنظمة والحكومات المتوالية.
أما جذورها الجديدة فتعود مباشرة إلى حروب المقاومة الشعبية الثورية الست (2004-2010) ضد الحروب العدوانية التي خاضتها سلطة الديكتاتورية العسكرية التابعة لنظام صالح وحلفائه، بقياده السيد الشهيد حسين بدر الدين الحوثي، طيب الله ثراه، وحركته الوليدة الثورية التي تبلورت سياسياً حول الشعار الوطني الثوري المعادي للإمبريالية الأمريكية والصهيونية وحلفائهما في المنطقة والدعوة الفكرية إلى إصلاح البلاد والعباد بالعودة إلى منهج الله القرآني الصحيح والتصدي لتحريفه وتزييفه من قبل الرجعية السعودية والوهابية والاستبداد الداخلي والخارجي والصهيونية العالمية، في مواجهة الاحتلال السعودي للأراضي اليمنية وتواطؤ السلطات الحاكمة وشيوخ القبائل التابعين وذوي النفوذ، والتصدي لبسط نفوذها السياسي والمالي على الدولة اليمنية من خلال تجنيد آلاف النافذين لخدمة اللجنة الأمنية السرية السعودية الخاصة التابعة لوزارة الدفاع السعودية التي تهيمن من خلالها على اليمن وشؤونه وتوجهات سياساته حتى صارت هي الدولة الحقيقية، وليس أولئك الجالسين في دار الرئاسة والحكومة الذين ليسوا إلا توابع لها ومنفذين لمشيئتها.

انكسار دولة التبعية والحرب العدوانية ضد الشعب
كانت حروب الاستئصال والإفناء والإبادة لأصحاب الشعار الوطني هي الرد العملي المباشر من سلطة الوصاية والتبعية الديكتاتورية على نشاط الحركة الوطنية الجديدة ذات النهج السلمي الفكري الدعوي الإسلامي النقي والصحيح التي رفعت شعار العداء للعدو الإمبريالي الصهيوني الذي يتحكم بمصير شعوب الأمة العربية الإسلامية ويحتل أراضيها ويسيطر على مقدراتها ومقدساتها ويشرد أهاليها ويسلط عليها أراذلها ليحكموها نيابة عنه ويمتصون ثرواتها بالتقاسم بينهم والأجنبي المتحكم والحامي لعروشهم.
وطوال ست سنوات شنت السلطة ست حروب وحشية، وجردت السلطة العسكرية كل قدرات الدولة العسكرية والمالية وقدرات السعودية خلفها والولايات المتحدة بخبراتها ووسائل دعمها الفنية واللوجستية وتدخلاتها. وأمام تلك الحروب الاستئصالية الإبادية لم يعد أمام الشعب اليمني من خيارات للعيش بسلام سوى امتشاق الحسام والدفاع عن وجوده والذود عن حياضه وكرامته وحريته ووقف استئصاله وإنقاذ أمته من الاستعباد والاستبداد ورفع سلاح الحق والعدل في وجه الطغيان والاستعباد. وخاض الشعب الحرب الوطنية العادلة في وجه الحرب العدوانية الغشوم. وقد تواصلت الحروب الشعبية ضد حروب الاستبداد العسكري الحاكم ودولته البيروقراطية لست سنوات متواصلة حتى انكسرت قواته وهزمت وتحطمت أمام قوة الشعب المقاومة لحملات الحرب والإفناء العدوانية.
تلك الحروب الثورية ضد الحرب الظالمة هي القسم الحربي من الثورة الشعبية الكبرى التي كانت تنمو وتتعاظم في مختلف المجالات وتخرج من الإقليم الضيق إلى الفضاء الواسع للوطن ومراكزه وتنفتح على مختلف الأشكال الكفاحية الوطنية استناداً إلى توازن القوى الجديد الذي لا بد أن تظهر مفاعيله ونتائجه مع الأيام.
تقدير الموقف الاستراتيجي الجديد ونتائجه هو ما فعله المحور الإمبريالي وقيادته الاستراتيجية الخارجية الإقليمية، التي توصلت إلى استنتاج أن عصر "صالح" كوكيل أول لها في الإقليم قد انتهى ولم يملك القدرة على تحقيق سوى المزيد من الإخفاقات والهزائم. فالثورة التي باتت حلم المستضعفين صارت تقترب من أهدافها خطوة خطوة، والأغلبية الشعبية تلتف حولها وتمنحها مشروعية ثورية وشعبية جديدة وتنتزعها من النظام القديم بكل قواه في السلطة أو المعارضة. كما أن طبقة المنتفعين بالنظام القائم قد أضحت مهددة بفقدان كل شيء، ولذلك تجاوبت مع سعي ومخططات ومشاريع الأجهزة الأمريكية المهيمنة عليها. وقد تركزت الأهداف في إيقاف تقدم الثورة من محيطها الشمالي الجغرافي القبلي الاجتماعي والثقافي وحصرها داخل ذلك المحيط كسبا للوقت وإعادة إنتاج النظام القديم بأساليب تحقق مشروعية جديدة تتجاوز فيها مشروعية الثورة الشعبية وتعوض عن مشروعية النظام القديم التي تهرأت، ولم يعد ممكنا الدفاع عنها أو تسويقها وتسويغها وقد تغمست بشتى الممارسات الخارجة على كل الشرائع والقوانين والأعراف، ولذلك تركز اهتمامها على مسألة كيفية إنقاذها.
وتم توقيع اتفاقية الدوحة عام 2010، التي سمحت بهدنة موقوتة وانسحاب نصف القوات المعتدية بعد محاصرتها بالكامل وقتل أكثر من نصف قواتها المعتدية ومحاصرة من بقي منهم، أي خسارة الحرب العدوانية، ومن ثم فإن الدولة العدوانية كانت قد دخلت في مسيرة انهيارية جديدة لا بد أن تأتي على جذور النظام في مراكزه ويسقط حتما، وكان هذا هو المؤشر الأول إلى انتصار الثورة الشعبية جذرياً ولأول مرة في التاريخ الحديث لليمن بدون مساعدة خارجية إطلاقاً، وهو ما دل على مدى أصالة الثورة وقوتها الشعبية وصلابتها وسعة آفاقها.

حرب الخارج والداخل ضد الشعب
حاول الأعداء التاريخيون وقف تقدم التاريخ وحرف اتجاهه لصالح مشاريعهم الهيمنية وأطماعهم الاستعمارية ولصالح وكلائهم وعملائهم المهزومين أمام الشعب، وكانت السعودية وأمريكا تقفان خلف الحروب العدوانية ضد الشعب في صعدة، لأنهما أرادتا القضاء التام على المكون الوطني الزيدي الذي يقف عقبه كأداء أمام استمرار تحقيق أحلامهما في السيطرة على كامل الثروات النفطية والمعدنية التي تسبح فوقها صعدة والجوف وحجة ومأرب وبقية المحافظات وتتقاسمان نهبها مع النافذين في الحكم والمجتمع من الطبقة السياسية التجارية الإقطاعية الحاكمة العميلة الثرية المترفة الفاسدة. وكان صالح وعلي محسن والأحمر بيادق تحركهم متى وأنى شاءت وكيف أرادت. وما إن ضخت الأموال إلى جيوبهم وحساباتهم السرية حتى أشعلوا الحرب العدوانية ضد صعدة وأهاليها المستضعفين طوال ست سنوات استخدموا فيها كل مخازن الدولة اليمنية وشركات الأسلحة الأجنبية من صواريخ وطائرات ومدافع ومدرعات ودبابات وغازات كيماوية وبراميل نيران أحرقت المزارع والمساكن والقرى والمدن والأسواق وأدت إلى نزوح نصف مليون مواطن من قراهم ومدنهم بعد تدمير مساكنهم عشوائياً وبوحشية لم تعرف من قبل.

خلفية الحرب والثورة
إنها النفط والمعادن والنهم الاستعماري للثروات المتوفرة بكثافة كبيرة في المحافظات الحدودية الشمالية الشرقية في صعدة والجوف وحجة ومأرب، وهي القوة الدافعة المحركة للاستهداف العدواني السعودي الدائم على الأرض اليمنية بالتوسع والاحتلال منذ نشوء الوهابية السعودية على أيدي المخابرات البريطانية في القرن الماضي.

هزيمه العدوان أمام الشعب
جيوش المرتزقة تنهزم أمام الشعوب، مهما تكن قوة أسلحتها في الحرب الشعبية خفيفة الحركة على أرض الشعب نفسه، وبين جماهير مستعدة لمقاومة الظلم والعدوان والاحتلال. ولم تترك حكومة صالح وعلي محس والزنداني وحميد الأحمر والسعودية وأمريكا أية خيارات للمقاومة السلمية المثقفة والحضارية، فقد أرادوها حرب إفناء واستئصال شمولية لكل من كان في صعدة لا يدين بالوهابية السعودية ولا يعبدهما ولا يتخلى عن وطنه وهويته، وكل من لا يعبد الصهيوني-الأمريكي، وكل من يدافع عن استقلال اليمن وسيادته وشرفه. ولذلك فليس أنصار الله هم من عبأ الشعب كله للمقاومة، وإنما هي مجازر السلطة وانعكاساتها على وعي الشعب، فلم يكن يصمد للقتال معهم في الحرب الأولى سوى 300 مقاتل فقط، وقد حققت السلطة عليهم الغلبة حين لم يكونوا يحظون بعد بثقة كاملة من الشعب. لم يكن الشعب كله أو أغلبه معهم بعد. كان أغلب الشعب مازال تحت تأثير الحملات الدعائية الرجعية ولديه آمال سرابية حول السلام الموهوم، وكان يتصور أن السلطة تعاملهم كشعب ومواطنين على قدم المساواة مع غيرهم، وأنها تمثل مصالح وحقوق اليمن قبل كل شيء، وأنها لن تعتدي على حقوق الشعب وكرامته، وأنها تتكون من أناس يحترمون معاهداتهم ومواثيقهم والتزاماتهم القانونية الدستورية المعلنة، وأن الدور الأجنبي في الحرب مازال مفقوداً، وأن الجمهورية تمثل حقوق كل الشعب ورئيسها رجل من الشعب يحترم كلماته ووعوده ويرى جميع المواطنين إخوته بلا فرق بينهم وإن تنوعت المشارب والمذاهب والاتجاهات والقبائل، فهم إخوة وهو أب لهم جميعا يمكن الاحتكام إليه والثقة به وبعدالته، ولكن كل الأوهام تحطمت خلال الحرب الأولى التي غلبت فيها الشعب وأذلته ولم يغفر له عندها أنه بأغلبيته وقف محايداً ولم يقاوم، وتصرفت جيوشها تصرف الفاتح الأجنبي الحاقد الغشوم والمغرور متوعداً بالمزيد من بناء المتارس بدلاً من بناء المدارس، وإقامة المزيد من الخنادق بدلاً من المشافي، والغلبة التي حققتها السلطة على المقاومين ومطاردتهم واحتلال المديريات والمراكز والقرى بعشرات الآلاف من الجنود المرتزقة وسلوكهم المشين مع المواطنين، وقتل المواطنين الوحشي وهتك الأعراض والكرامات والإهانات والسلب والنهب والتعسكر حول البيوت والمساكن في قلب القرى والمضارب بعد احتلالها ومواصلة الاعتقالات التعسفية للأنصار والمؤيدين للحركة الأنصارية، وأخطرها كان الخداع والغدر بالأسرى والمؤمنين والمجارين واغتيالهم بالجملة وخاصة السيد حسين بدر الدين ورفاقه العزل الجرحى واغتيالهم بوحشية وحقد، وحصار الشعب من كل جانب. كل هذا كشف حقيقة السلطة على المستوى الوطني والقومي، وخلق صدمة كبرى في الوعي العام الشعبي والوطني سرعان ما انتشرت مفاعيلها وعادت تؤثر في معنويات الجنود المحاربين أنفسهم وتهزم معنوياتهم ومشاعرهم في ظل حصار شعبي وطني يتسع رافضاً للجرائم والمذابح المرتكبة وممهداً لتحولات كبرى جذرية ما كانت لتتم بالسرعة التي تمت فيها، وهي تدل على غياب الحكمة لدى الحكام الذين استبدت بهم الكراهية ومشاعر الحقد والجشع والانحلال الخلقي والعقيدي وضعف الإيمان وتفسخ الأخلاق وهشاشة الوعي الوطني وارتهانهم للسعودية الأمريكية، وفقدانهم لإرادتهم المستقلة، واستعدادهم على الدوام لذبح نصف شعبهم ليحكموا النصف الآخر. وبعد ست سنوات من المذابح المدفوعة أثمانها سعودياً وأمريكيا على شكل مساعدات وهبات مالية رسمية وشخصية يومية وشهرية وسنوية وسعت مافيا الفساد والنهب وتجارة السلاح وتهريبه وسرقته من المخازن الحكومية وبيعه في الأسواق الخاصة، وأصبحت استمرارية الحرب مصدراً كبيراً لإدرار الأموال والجوائز والأرباح والسمسرة وتصفية الحسابات البينية والداخلية بين أجنحة النظام وأطرافه.

أصبح الآلاف من جنود النظام السابق، الذين يقضون كل يوم على مذبح أطماع الأجنبي وعملائه، عبرة للأحياء منهم الذين بدؤوا يتساءلون عن صدقية هذه الحرب ومشروعيتها، ولصالح من تخاض؟ ومن المستفيد؟ وما علاقة الأجنبي (الأمريكي السعودي) بها؟ وكم هي الأكلاف البشرية الإنسانية من الجانبين؟ وهل هي ضرورية؟ ألا توجد وسائل أخرى سياسية، أمنية، دون استخدام الجيش ضد الشعب في مواجهات دامية تخلف مآسي هائلة؟ وهذا الشعب الذي نقتله كل يوم أليس الشعب اليمني المسلم؟ ولماذا نقتله؟ أليس الأفضل أن نوجه أسلحتنا إلى صدور الصهيونية وخدمها وعملائها بدلاً من توجيهها إلى صدور بعضنا البعض؟! 
ومع كل يوم يمر على جيش النظام وهو محبوس للحرب في صعدة كانت مشاعره تتحول تدريجياً ضد قيادته التي ورطته في هذا المستنقع الدموي، وأصبحت نهاية الحرب ووقفها هي هدفه الأول، ولم يعد يريد أي حلم بالانتصارات الوهمية التي وعدوه بها كذباً وتلفيقاً، ومع الوقت فقد الحماس في الاستمرار وانهارت معنوياته وضاع عنه الاتجاه والهدف الحقيقي في ظل التضليل الطويل. وعلى الجبهة المقابلة، كان الشعب المقاوم تتسع صفوفه ويزداد تسليحه ويحصل على المزيد من المعدات التي يغنمها من أسلحة الجيش المنهزم، وترتفع معنوياته وقدراته وخبراته الحربية وأعداده وقاعدته الشعبية المحلية والإقليمية. أما الجنود الذين دفع بهم إلى المذبحة، وهم من كل مناطق وقبائل اليمن وقد عاشوا الوقائع مباشرة ووجهاً لوجه خلال ست سنوات عجاف، أدركوا تدريجياً أنهم يُستخدمون في مذبحة مدفوع ثمنها من السعودية والصهيونية، وأنهم ينفذون أوامره، ويرتكبون جريمة ضد شعبهم من أجل أن تتضخم حسابات صالح وعلي محسن وحميد المالية، وأنهم سيموتون بغير مجد ولا شرف، وسيخسرون الحرب مع الشعب في النهاية مهما طالت، خاصة وأن الألوية والكتائب بدأت تُباد وتُحاصر فالشعب كله قام قومة رجل واحد بعد صبر طويل ووضع كل ما يملك من أموال وأسلحة وقدرات ورجال وشباب ونساء وأطفال في هبة شاملة، عسكرية وسياسية واقتصادية وأمنية، وانقلبت المعادلات الميدانية وتلقت القوى العدوانية عشرات الهزائم ووصلت خسائرها إلى عشرات الآلاف من القتلى والجرحى، وكان هذا يعني تكسيح نصف الجيش الحكومي، ولم يعد بإمكان السلطة أن تعبئ قوات احتياطية جديدة وترسلها، لأن مصيرها لن يختلف عما سبقها، فقد وقعت أغلب الألوية في الحصار وقطع عنها الإمدادات وصارت بين الحياة والموت فهي وإن كانت تسيطر على الجبال والتباب والمعسكرات الثابتة إلا أن الشعب يسيطر على الطرق ومصادر المياه والغذاء، وعلى المفاجأة والمبادرة ويقاتل من الحركة الدائمة، وأصبحت الجيوش مأسورة محاصرة وفشلت كل المحاولات لفك حصارها بالقوة، ولذلك كانت السلطة تلجأ إلى الحيلة السياسية لفك الحصار والسماح لها بسحب قواتها خارج المحافظة ووقف الحرب، فلا تمر سوى أشهر معدودة حتى تعاود الهجوم على صعدة، وتستمر عدة أشهر في الحرب حتى تخسر الآلاف الجديدة من الجنود والمعدات وتُحاصَر قواتها مجدداً وتهزم ثم تلجأ لنفس الحيلة السياسية، حيث تتوقف عن الحرب لعدة أشهر ثم تعاود الهجوم العدواني الذي يزداد مصيره سوءاً وأكثر من سابقيه، حتى وقعت جميع ألويتها في حصار شامل خلال الحربين الخامسة والسادسة، حينها اضطرت إلى توقيع اتفاق الدوحة العامين 2009 و2010، مقرة بخسارتها الحرب العدوانية وملتزمة بإصلاح الخراب الناتج عنها ومعترفة بحق الطرف الشعبي المقابل في الحكم الذاتي في جغرافيته المسيطر عليها وتعيين حدود لنفوذ الطرفين (السلطة والشعب المقاوم)، وسحب نصف القوات المحاصرة وبقاء النصف الباقي في المحافظة كضمان لعدم إخلاف السلطة بعهودها. وتحت إدارة الثورة الشعبية كان هناك 13 لواء محجوزا بأسلحتهم ومعداتهم تعاملت الثوة معهم بكرم بالغ وعملت على إعادة تثقيف وطني وعقيدي شاملة لهم، وأجرت تغييرات في صفوف قياداتهم ومنحتهم الاختيار بين البقاء والمغادرة وفقاً لرغباتهم وقناعاتهم، وأوصلت كل من أراد الرحيل إلى أهله معززاً بسلاحه وبمصاريفه واحترامه.

الهزائم العسكرية تولد الانقلابات والثورات
أدت الهزائم التي تكبدتها الديكتاتورية العسكرية وتراجعها إلى مراكزها الخلفية، أدت إلى انكشاف ضعفها وارتخاء قبضتها على البلاد وتراجع قيمتها لدى سادتها في الرياض وواشنطن، الذين بدؤوا يبحثون عن بديل لها بعد هزائمها المدوية (يقول عبدربه هادي في بعض مذكراته للصحافة السعودية قبل أعوام إنه سرا التقى مع المعارضة الإخوانية والمشترك وعقدوا اجتماعاً في نهاية العام 2010، أي بعد اتفاقية الدوحة، وقرروا إحداث تغيير سياسي سرياً، وكان الاجتماع قد ضم محمد قحطان وياسين نعمان وحميد الأحمر وعلي محسن، ونسقوا مع ما عُرف بالربيع اليمني وكيف يتم السيطرة عليه ورسموا خطواته منهجياً بالإشراف الأمريكي السعودي، ووضعوه في سياق المشروع الأمريكي الربيع العربي الذي كان مخططاً له من قبل الرئيس جورج بوش وكونداليزا رايس من العام 2004، حسب مذكرات أحمد أبو الغيط وزير الخارجية المصري الأسبق في عهد مبارك، وكانت الاحتجاجات الجنوبية قد اشتدت برعاية هادي نائب الرئيس آنذاك وظهرت المظلومية الجنوبية في العام 2007، وبدت الاستعدادات الأمريكية السعودية القطرية الإماراتية لاحتواء المعارضة الإخوانية والمشترك في قالب موحد للسيطرة على التحركات الشعبية وإغراقها بالأموال والمساعدات والإمكانات والخبرات والمنظمات الدولية لحقوق الإنسان والحريات والحملات، لدعائية وتأهيل الكوادر القيادية الشابة وتدريبها في الخارج والداخل بسرية تامة).
كانت مراكز السيطرة الإمبريالية قد أدركت بوضوح أن عمر وصلاحية النظام السابق قد انتهت وأفلست وحان له أن يتقاعد وأن يتيح لهم أن يرتبوا طاقماً استعمارياً جديداً مقبولاً شعبياً يستطيع مواجهة الثورة الشعبية الأنصارية الوطنية التحررية المعادية للتبعية والاستعمار والصهيونية. وعندما أبلغ صالح بالمناورات الجارية حوله بدأ يتعنت ويمانع في السماح لأسياده بمعالجة نظامه بإبعاده والإتيان بآخر عبر انتخابات مزورة، لتصعيد هادي بديلاً لصالح. حينها كانت الأوضاع قد بدأت تتوتر وانقسم طرفا النظام بين معسكرين كبيرين: المعسكر الأول بيد صالح وأولاده وأقاربه والحرس الجمهوري، والمعسكر الثاني بيد الفريق علي محسن والفرقة الأولى مدرع والقبائل الإخوانية المسلحة والمنظمات السلفية الإرهابية المدعومة سعودياً وأمريكياً وقطريا وإماراتيا المحتوية للمعارضة السياسية والمشترك. وقد نشأ توازن قوى سياسي وعسكري متقارب بين الفريقين لا يسمح لأي منهما بالحسم المسلح ضد الآخر خوفاً من استغلال الثورة للصراع ونتائجه. ورسم الطرفان خطوط الحركة والضغوط فيما بينهما ونهاياتها المحتملة وسيناريوهاتها التي تديرها السفارتان السعودية والأمريكية ولم يتبق سوى الآليات الإخراجية للمسرحية المطلوبة وإطارها الزمني والموضوعي.

مؤامرات الربيع الأمريكي 
تدريجياً في سياق الربيع العربي المخطط سلفا في مصر وتونس وليبيا، اندلعت الاحتجاجات الشعبية الشبابية مطالبة بسقوط النظام الديكتاتوري، مستندة إلى التوازن الاستراتيجي الذي كونته الثورة الشعبية المسلحة ونتائجها، وقد انتهت بخلع الديكتاتور وحكومته لصالح الجناح الآخر من أجنحة نظامه ولنائبه ولحلفائه السابقين، الجناح العسكري القبلي المرتبط بالتبعية للسعودية الأمريكية. كان ذلك في جوهره التفافاً على الثورة الشعبية وعلى الاحتجاجات الشبابية العفوية التي استثيرت دون علم منها بفحوى المؤامرة وشاركت في نشاطها بعزيمة وحمية وقدمت الشهداء بالجملة معتقدة بسلامة نوايا القيادات التي كانت منغمسة بالمؤامرات الجارية. كانت الحركة الشعبية قد وقعت تحت سيطرة الجناح العسكري السلفي القبلي بحيث سيطرت على قيادة الحراك الشعبي الذي كان عفوياً وضعيف التنظيم وقليل الإمكانات، وقد تمكنت القوى الرجعية الجديدة من أن تصور نفسها في عيونه بصورة المنقذ للثورة الشبابية والوصي عليها، وتم استلام السلطة من قبل القوى الرجعية الملونة الجديدة المدعومة من الإمبريالية السعودية- الأمريكية- الغربية، وتم احتواء الثورة الشبابية المدنية لصالح سلطة الإقطاع القبلي العسكري المالي والأجنبي، وبعد أن تكشفت خيوط المؤامرة السعودية الأمريكية على الثورة الشبابية وعلى الوطن وبرز مخطط التقسيم الإقليمي للبلاد وتكبيلها بشتى أنواع القيود والملاحق السرية التي تقيد سيادتها وترهن إرادتها واستقلالها وتكرس الهيمنة السعودية الأمريكية عبر المبادرة الخليجية التي أعلنت نهاية الثورة الشعبية واعتبارها أزمة سياسية بين أجنحة النظام السابق وضمنت إعادة تقاسم السلطة بينها.

حكم الأزمة والمؤامرة
خلال سنوات الحكم الجديد، تدهورت الأوضاع العامة للشعب والمجتمع من كل النواحي وفي جميع المجالات، وتفاقمت المشكلات الاقتصادية والأمنية وتجاوزت البطالة أكثر من 10 ملايين عاطل عن العمل، وسيطرت القوى الإرهابية على محافظات عديدة من البلاد في ظل الدعم الكامل لها من قبل قيادات السلطة الجديدة وبتواطؤ من رئاسة الدولة الجديدة.
وقد اتسع مجال الإرهاب حتى شمل مساحات كبيرة من البلاد، وأدى إلى قتل خمسة آلاف ضابط وجندي وهم آمنون في بيوتهم أو في الطريق أو في معسكراتهم أو في طريق العودة من إجازاتهم. 
ثلاث سنوات من الفشل السياسي الاقتصادي الأمني الاجتماعي الشامل اختتمت بالجرعة السعرية الجديدة التي فجرت غضب الشعب في كل مكان مطالباً بإسقاط الحكومة وتشكيل حكومة جديدة.

 سلطة المبادرة السعودية تواصل الحرب ضد الشعب اليمني
يتضح من خلال الوثائق والأسرار والتصريحات الصادرة عن القوى السياسية التي سيطرت على الوضع قبل وبعد أحداث فبراير 2011، أن هذه القوى المرتبطة بالوصاية السعودية- الأمريكية كانت قد عقدت العزم فيما بينها برعاية الأسياد على نقل السلطة من ديكتاتور النظام السابق إلى نائبه، بهدف استباق الثورة الشعبية المتنامية ومنعها من الوصول إلى العاصمة، وذلك تحت إشراف الأجهزة المخابراتية الأمريكية السعودية، بهدف معالجة أزمة النظام السابق التي تفاقمت جراء احتكاره الحكم وتوريثه في أسرته وأولاده وأولاد أخيه وأقاربه، وتعريض المصالح والأطماع الأجنبية للخطر جراء سقوط كل النظام القديم بكل أجنحته، وإقامة حكم وطني ثوري مستقل، ولذلك قررت التضحية برأس النظام واستبداله برأس جديد أكثر قدرة منه على حراسة المصالح الأجنبية وإطالة عمر وأمد التبعية والوصاية الأجنبية بعد انكشافه وتدهور شعبيته وفشله في قمع الحركة الشعبية الثورية إرضاء للمزاج الشعبي وتهدئته وتضليله وإقامة حاضنة شعبية جديدة للنظام والاستعداد للتصدي لتقدم قوى الثورة من مراكزها الشمالية.

الانتفاضة الشعبية في أغسطس- سبتمبر 2014
تحولت حركة الشعب الجديدة إلى انتفاضة شعبية منظمة لها قيادة معروفة ممثلة بحركة أنصار الله. وفي ساحات الثورة تبلورت المطالب والأهداف البرنامجية المباشرة للثورة في ثلاثة مطالب ملحة، هي إسقاط الحكومة وإقامة حكومة وطنية جديدة، وإسقاط الجرعة ومعالجة الأزمة الاقتصادية، وتنفيذ مخرجات مؤتمر الحوار الوطني في بنى جديدة قوية موحدة عادلة مستقلة. وحددت قيادة لثورة أساليب العمل الوطني الانتفاضي الشعبي بالوسائل السلمية، وحذرت من أن أي اعتداءات على المتظاهرين ستُجابه بالمثل، عملاً بقول الله في كتابه العزيز: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم".
وخلال أيام في مطلع سبتمبر 2014، سارت المظاهرات بصورة سلمية والجماهير تلتف حولها أوسع فأوسع حتى أضحت قوى جبارة تتزلزل منها الأنظمة الرجعية في الداخل والخارج والتي اتجهت للضغط على الحاكم لقمع المظاهرات وفضها بالقوة الأمنية والعسكرية، لكن جميع محالات فض وتحطيم الاعتصامات بالقوات المسلحة فشلت، بل إن بعض الفرق الأمنية والعسكرية وصلت إلى الساحات وانضمت إلى المظاهرات والتحقت بالثورة وأعلنت تأييدها وحمايتها.
وخلال تلك الأيام سقط عشرات الشهداء والجرحى، ومع ذلك تمسكت حركة الثورة بالموقف السلمي، حتى تطورت إلى ثورة شملت انتفاضاتها المراكز الحكومية الرئيسية ومؤسساتها. وهنا قرر النظام إغراقها بالدماء، بغرض بث الرعب والخوف في نفوس الشعب الثائر لثنيه عن ثورته وأهدافه. وعندما وصلت الجماهير الثائرة إلى أمام ساحة مجلس الوزراء مطالبة الحكومة بالاستقالة تولت مليشيات الفرقة الأولى مدرع مهمة سحق المتظاهرين وقتلهم بالجملة بواسطة فرق القناصة التي قتلت وجرحت عشرات المتظاهرين السلميين خلال ساعات. وهنا دخلت الانتفاضة منعطفاً جديداً في تاريخها، وبعد أن رفعت الرجعية سلاحها في وجه الشعب لم يعد أمام الشعب سوى السلاح للدفاع عن ثورته وتأمين مسيرتها، وقررت قيادة الثورة ضرورة تصفية أوكار الإرهاب العسكري وتطهير العاصمة صنعاء وتأمينها، فالثورة التي لا تستطيع حماية نفسها لا تستحق البقاء والاستمرار ولن يرحمها أعداؤها، وكان لا بد من اللجوء إلى الوسيلة التي يفهما العدو، وتنادت الجماهير إلى السلاح وتشكلت في فرق وجماعات ولجان شعبية ثورية طاردت القوى الرجعية وقيادتها وسيطرت على المواقع العسكرية والأمنية في العاصمة ولاحقت المجرمين. وفي 14 سبتمبر استكملت السيطرة على العاصمة بعد معارك ضارية مع القوات الرجعية والإرهابية التي استسلمت بعد فرار قياداتها نحو الرياض. قابل هادي فشل قواته وحلفائه بالمناورة والمرونة ومثل دوراً سياسياً محايداً بين القوى المتصارعة، بهدف كسب الوقت والاستعداد للجولة القادمة، فتحركت المناورات السياسية وتم عقد اتفاق شراكة جديد وقعته قوى الثورة والرئاسة بهدف ضمان سير الثورة وتحقيق أهدافها بالطرق السلمية مجدداً بالوسائل السياسية المتاحة ومن خلال المؤسسات الدستورية الباقية، وكانت هذه مرحلة جديدة من تطور الثور الشعبية المتصاعد. أبرم اتفاق السلم والشراكة الذي نص على الإقرار بنتائج الثورة الشعبية المسلحة وتنفيذ أهدافها الأساسية، حيث تم إسقاط الحكومة السابقة وإسقاط الجرعة السعرية ومواصلة الحوار لتنفيذ القرارات الوطنية ومعالجة الاختلالات الاقتصادية والفساد.

 مرحلة السلم والشراكة
تم تشكيل حكومة جديدة شاركت فيها مختلف المكونات السياسية بنسب مختلفة عدلت التناسبات السابقة لصالح القوى الوطنية الجديدة.
 بين شهري أكتوبر وديسمبر 2014، حدثت تحولات كبيرة. كان هادي والقوى القديمة خلفه قد أصابها الوهن والتمزق، فلم تعد قادرة على المبادرة إلى الصراع المكشوف، فقررت ممارسة المؤامرات والمناورات والحرب السرية ريثما ينتهي الوقت اللازم للتدخلات الأجنبية المخطط لها سلفاً، وكانت تنتظر تحضير الأجواء السياسية والأمنية واستكمال تفكيك البنى العسكرية والعوامل الأمنية الدفاعية أمام الغزو القادم. وخلال الأشهر الأخيرة من العام بدأت الأوضاع تتأزم مجدداً.

تكتيكات لإدارة الأزمة السياسية للسلطة سلمياً
اعتمدت القيادة الثورية تكتيك السلم والحكمة وتقديم التنازلات وعدم سحق الخصم كاملاً ومد يد المساعدة له بعد إزاحته وعقد تحالفات واسعة وعدم الحرص على احتكار السلطة للأقوى ومعالجة المشكلات برفق شديد وحلم واسع وغض الطرف والتسامح ونسيان الثارات والحقوق الخاصة أمام الأمور الأعم والأشمل للوطن والبحث عن الشركاء في إدارة الوطن والدولة والحفاظ على القواعد الدستورية العامة الموروثة من الماضي.
لم تستعجل الثورة الشعبية في حسم الصراع على السلطة بضربة واحدة عنيفة، بل سارت على مراحل تفصلها فترات من الوقت وأن تتبع أسلوباً سلمياً مع إمكانية القوة إن لزم الأمر والضرورة، فلم تكرر سلوك الثورات السابقة لها، فقد سارت وفقاً لمنهج مختلف نسبياً من حيث الأسلوب والتوقيت والوتيرة والسرعة التي تحدث بها التغييرات.
وقد نجحت الثورة اليمنية في تقليل الأكلاف الإنسانية والوطنية المأساوية التي تصاحب الانتفاضات الثورية والحروب الأهلية، دون أن تقع في محذوراتها، لذلك سارت عبر آليات شعبية رقابية إشرافية لا تنفيذية، أي السيطرة على مؤسسات الدولة بشكل غير مباشر، وذلك عبر الإشراف على عملها في الأغلب، حيث استمر عمل المؤسسات وفقاً لأنظمتها المعروفة ولوائحها القانونية، في حين أنها لم تمس المؤسسات الدستورية رغم ما شاب انتخاباتها من خروقات وتحكم وفساد في ظل الماضي.

 قيادة واسعة الاطلاع والآفاق والحيلة
ودل هذا على نظرة بعيدة الأفق للتطورات القادمة ونتائجها وانعكاساتها على مسار الثورة والوطن من واقع التحديات التي صارت ماثلة أمام الأعين وأهمها العدوان الخارجي الأجنبي الذي يحضر من سنوات.

حسم مسألة السلطة السياسية للثورة: لمن الغلبة والسيادة؟
السلطة السياسية دائماً محكومة بالقوة المهيمنة على الأرض والواقع والمجتمع والدولة والجيش ووسائل القوة، وهي ليست علاقة حبية، بل هي إكراهية. وظيفة كل قوة سياسية السهر للحصول عليها أو حمايتها من الخصوم الآخرين. والحديث عن تداول السلطة تعاونيا بين الأجزاء هو موضوع آخر لا علاقة له بالثورات وبخصوصياتها، فالثورة تعني نهاية الأساليب السابقة للحصول على السلطة. وإداراتها تعني تجديداً وتغييراً جذرياً في القواعد والأسس الاجتماعية والسياسية وفي الطبقة السياسية البيروقراطية الحاكمة. وهي (أي السلطة) مسألة تعالج في حالة واحدة فقط، عندما تنتقل القوة إلى قوى أخرى جديدة تتحول إلى سلطة حاكمة سائدة.
وقد حاول هادي (القديم) أن يناور مع الثورة حول السلطة والسيادة مستغلاً مرحلة انتقال معقدة تمر بها البلاد وتحيط بها الضواري والسباع من كل اتجاه وجانب، وحاول مساومتها على سيادتها وسلطتها التي انتقلت إليها حكماً وحتما بعد حسمها معارك الثورة الكبرى في صعدة وعمران والفرقة الأولى مدرع والعاصمة صنعاء والمحافظات الرئيسية والسيطرة على مفاتيح القوة الرئيسية بانضواء جميع المعسكرات تحت قيادتها ومنحها الولاء والاعتراف بسلطتها الوطنية. كانت مناورات هادي وجماعته تقوم على الالتفاف على تلك السلطة والتمرد والانقلاب عليها فيما بعد، وكان المطبخ الأمريكي السعودي قد برع في تلك المؤامرات.
 ما إن تغلبت الثورة على الخصوم في عمران حتى سارع هادي إلى محاولات احتواء الثورة. وما إن تغلبت الثورة على الأعداء في العاصمة، وهم حلفاؤه وأشقاؤه، حتى بادر إلى التظاهر بأنه يتنصل عنهم ويعقد اتفاقاً جديداً هو "السلم والشراكة"، ويعترف بالأنصار طرفاً في الدولة له حصته من الحكومة. هذا في الظاهر. أما في الباطن فقد تابع تدبير المؤامرات مع السفارة الأمريكية والرياض والشركاء الدوليين، وتوظيف القرابات الشطرية والقبلية والحزبية والمليشياوية والإرهابية والعسكرية للتحشيد ضد الثورة وضد الأنصار، وتدفقت الأموال السعودية والإماراتية والقطرية مجدداً كالمطر. كانت القيادة السعودية الأمريكية المكلفة باليمن تعمل حثيثاً لإنجاز انقلاب عسكري سياسي من الداخل يسبق تدخلاً عدوانياً عسكرياً من الخارج ويمهد له الأجواء والمسارات والأوضاع والشروط القانونية والسياسية والدستورية. غير أن الثورة الشعبية الوليدة لم تكن في حال غفلة عما يدبره هادي وجماعاته من قوى الثورة المضادة الإرهابية الفاشية والوهابية وجماعات اللجنة السعودية الخاصة. 
مضى الصراع بارداً يسير الهوينا خلال الأشهر الأخيرة من العام 2014، وهذا كان من حيث الشكل الخارجي للتطورات التي كانت تستعر استعاراً في الباطن، حيث كانت تطبخ وترتب وتخطط وتعد وتجهز وتغطى وتلبس بلباسات مختلفة وتستعد للمعركة الأخيرة الحاسمة مع الثورة، حسم ازدواجية السلطة. وخلال الأشهر الأخيرة تكونت قوتان في المواجهة الجديدة، وهما:

1- قوى الثورة وحلفاؤها بقيادة أنصار الله:
كانت الثورة تمر بحالة مد تاريخي سياسي شامل، والجماهير تلتف حولها كل يوم، وتتسع قواها وتواصل كسب المزيد من المواقع والمراكز والأنصار والقوات وتحقق انتصارات جديدة عسكرية وسياسية كل يوم، بينما كان الآخر يتراجع وينحسر وينكسر متطلعاً إلى الخارج ليستعديه على الوطن والشعب والداخل والثورة مقابل رهن كل شيء بين يديه، كل شيء مقابل السلطة الشكلية لا غير، والثورة تواصل تمددها في المحافظات وتواجه الإرهاب بنجاح وتقصم ظهره في كل مكان وصلت إليه، والكل يفرون أمام الثورة نحو الجنوب والشرق والخارج والوسط ليعودوا على رأس دبابات العدوان الأجنبي وحرابها وقد حققوا الكثير من الثروات والأموال والسيطرة على رقعة محدودة يقيمون عليها علم دويلة "شرعية" بحماية سعودية وأمريكية.

2- قوى الرجعية وحلفاؤها بزعامة هادي:
كانت قوى هادي وقياداته المضطربة تتهالك مع الأيام وتفقد كل مصداقية لها في أعين أعضائها وأنصارها وحلفائها السذج، لأنهم يعرفون أنها تنافق الثورة وتعاديها في الباطن ولا تجرؤ على مواجهتها، لضعفها وجبنها ونفاقها وفسادها وسوء تاريخها وافتقارها إلى أي قاعدة شعبية حقيقية في اليمن تؤهلها لتمارس سلطة حقيقية.
نهاية نوفمبر- ديسمبر 2014، كانت الظروف قد تصاعدت واقتربت من الانفجار. وكان هادي يعتمد على ألوية الرئاسة الثلاثة المدعومة بمئات الدبابات والعربات والمدرعات، ومعها الفرقة مدرع بـ300 دبابة من الأحدث والأقوى، ومنها (تي 62) و(تي 72) الروسية الأفضل على الإطلاق، كما كان في حسبانه بقايا الفرق المدرعة المدحورة والمليشيات الإرهابية ومليشيات الإخوان البالغة حوالي 50 ألفاً. وقد راهن على هذه القوات وعلى قياداتها القبلية الجديدة للسيطرة على العاصمة ودحر أنصار الله وقوات الثورة منها إلى عمران ثم إلى صعدة كمرحلة أولى إلى أن يصل الفتح الخارجي، كما وعدته السعودية بعد وصول بن مبارك مدير مكتبه ومعه مشروع تفجير الأزمة، وتم القبض عليه والتحقيق معه من قبل أجهزة الثورة الأمنية. فبعد جولة ترتيبية لمدة شهرين قضاها في أوروبا والخليج عاد تسبقه أخبار ومعلومات المؤامرة الجديدة. ما إن وقع في أيدي الأجهزة الأمنية بدأ التحقيق معه فانهار واعترف بكل شيء عن مهمته ومؤامراته ودوره ودور هادي، وعن التكتيك الجديد لقلب المعادلات السياسية. كان التكتيك الجديد يتلخص في مفاجأة الشعب والقوى السياسية والثورية بإقرار مشروع الأقاليم وتمرير الاستفتاء عليه وجعلها معركة مع الشعب وبالشعب، وهي الخطة التي جاء يحملها بن مبارك من الخارج من إبداع المخابرات الأمريكية والفرنسية. وكان تقديرها أن هادي كرئيس جمهورية له سلطة فرض المشروع وتمريره شعبيا ودستورياً عبر مجلس النواب والإعلام وبقايا النظام السابق لعفاش الكامن كالحية الرقطاء تحت رداء النفاق. وكان عفاش مستعداً للعمل وفقاً لأوامر السفيرين الأمريكي والسعودي اللذين واصلا اتصالاتهما به وبغيره عبر أجهزته الاتصالية المتطورة جداً جداً، وهي التي ظهرت لاحقاً في مؤامرة تهريب هادي ومؤامرة ديسمبر 2017 الدموية الانقلابية الخيانية العدوانية، ليلة القبض على بن مبارك، وبث مقاطع من اتصالاتهما المشتركة، انفضح الدور التآمري القبيح لهادي، فقرر الإسراع في تنفيذ انقلابه قبل أن يقع في الفخ ويوضع في قفص المحاكمة بتهمة الخيانة العظمى.
ليلة 19 يناير 2015، قرر هادي أن يبدأ تحركاته الانقلابية باجتماع لمجلس الدفاع الأعلى سراً من خلف القيادة الثورية، ومفاجأتها بالهجوم الانقلابي العسكري الكاسح في شوارع العاصمة. وفي الاجتماع أعطى لهم الخطة والتكاليف المهمة، وهي الهجوم القتالي على أنصار الله في المدينة، قتلهم وأسرهم ودحرهم خارج العاصمة، وكلف قيادة الحرس الرئاسي التابع له، بقيادة الفريق الجعيملاني، وهو من منطقته، بقيادة العمليات الميدانية من دار الرئاسة جنوب غرب العاصمة، وبقي هو في سكنه في الستين يتابع ويتواصل مع الخارج والداخل والسفارات والحكومات والملوك، ليزف إليهم بشرى الانقلاب على الثورة التي انطلقت للتو ويطلب سرعة الدعم المتفق عليه جواً وبراً وبحراً. غير أن المعركة حُسمت لصالح الثورة، التي سيطرت على دار الرئاسة في الثالثة عصراً وأصبحت تدير المعارك داخله بعد أن امتصت الهجمات الصباحية الأولى، التي شنها الحرس القديم الأبيض بمدرعاته وجحافله وآلافه المؤلفة في مواجهة حفاة الشعب.

اتفاقية 22 يناير الجديدة كآخر فرصة لهادي
كان هادي بعد خسارة انقلابه العسكري الغادر ينتظر أن يقاد إلى السجن والمحاكمة والإعدام؛ لكنه لمس رفقاً لدى قياده الثورة، رفقا لا غفلة، ولذلك حاول أن يستغل مجدداً وأن يعيد إنتاج دوره السياسي انتظاراً لوصول العدوان العسكري الأجنبي، وقد سايرته الثورة وعقدت معه اتفاقاً لتنفيذ اتفاق "السلم والشراكة". وكان هدف الثورة هو التخفيف من أكلاف الصراع السياسي ومنحه فرصة جديدة، ولذلك وقعت معه اتفاقاً جديداً لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه في "السلم والشراكة". لقد خسر هادي انقلابه العسكري المضاد للثورة، وكانت تلك آخر فرصة له للبقاء في الحكم، آخر معركة تخوضها الرجعية للعودة إلى السلطة التي خسرتها قبل أشهر.
لقد كشف انهيار الانقلاب العسكري السريع خلال ساعات في العاصمة يوم 19 يناير 2015، واستسلام ألوية الرئاسة وانضمامها إلى الثورة بعد فرار قياداتها وإعادة تأهيلها سياسياً ووطنياً. كشف هشاشة القوى الرجعية، معنوياً وأخلاقياً، أكثر منه انهياراً مادياً وتقنياً، وأنها قد أفلست وتعفنت وتآكلت وتفسخت من داخلها منذ زمن بعيد، وكان يكفي فقط أن تلقى دفعة واحد فتقع بكامل بنيانها على الأرض وتتحول إلى هشيم تذروه الرياح.
كان هادي يحتفظ بـ500 دبابة ومدرعة، سلاح ألوية الرئاسة العديدة التي كانت متمركزة خلف أسوار دار الرئاسة، وهي بقايا الحرس الجمهوري السابق، نخبة الجيش اليمني. وكانت دار الرئاسة قد بُنيت في عهد صالح كحصن لا يمكن اختراقه عسكرياً، لما كانت تحويه من مخازن وبنى تحتية وأنفاق ومساحات وخطوط دفاعية مجهزة للقتال لوقت طويل ومجهزة بشبكات اتصالات متنوعة وبأنفاق ترتبط بالأسلحة الأخرى ومواقعها في الجوار.
لم يكن لدى المجاهدين سوى سلاح خفيف ومتوسط وبعض المدافع القديمة والهاونات لا دبابات ولا مدرعات. وكان مذهلاً تقدمهم السريع خلال ساعات إلى قلب الأسوار المحصنة لقصور الرئاسة وانقضاضهم عليها من جوانبها ومؤخراتها والالتفاف عليها من الجهات الأربع، وقطع الطرقات والخطوط أمام تقدم المدرعات. كلها أمور متوقعة لدى مجلس الحرب الأعلى لقوات هادي، الذي أدار الحرب من هيئة أركانه في بيته، بينما قاد العمليات قائد حرسه، اللواء الجعيملاني من دار الرئاسة.
لقد فات هادي والرجعية أن الشارع والشعب في العاصمة والمحافظات كان كله مع الثورة، ولو تمكن من السيطرة على العاصمة لأيام أخرى بالقوة المسلحة لكان تكبد نتائج معركة أخرى تأتيه من الأرياف بقواتها الشعبية وجماهيرها المسلحة التي دوخت نظام صالح ومن خلفه. ولكنه انهار سريعاً بعد أن فقد المبادرة الهجومية الأولى صباحاً التي اعتقد أنه يملكها، وأن الثوار في غفلة عما يفعل الظالمون. والحقيقة أن قيادة الثورة كانت تتابع عن قرب كل ما يجري على الميدان وخلف الأسوار وفي الغرف المغلقة، بما تملكه من أجهزة متطورة مخلصة. أصبح هادي في بيته وتم تجريده من كل السلطات العسكرية والأمنية والتحفظ عليه، لأنه بعد أيام من توقيع الاتفاق الجديد تلقى ضغوطات وتوجيهات أجنبية عن طريق مساعديه بأن عليه تأزيم الأوضاع وتقديم الاستقالة لتبقى البلاد في فراغ دستوري. وكان د.عبدالكريم الإرياني، وهو مستشاره الأثير، يسأل كلما تلقى اتصالاً من الأنصار: أين البيان الأول؟ أين البيان الأول؟... وكانت الاستقالة هي المناورة الأخيرة لهادي، والهدف كان كسب الوقت والتهرب من تنفيذ اتفاقية يناير الأخيرة، منتظراً وصول قوات العدوان إلى العاصمة سريعاً لإنقاذه كما وعدوه. ولكن العجز كان سيد الموقف بالنسبة للرجعية ولهادي، فاستعانوا بالمغروس في الصف الوطني للضرورة لإخراج هادي من العاصمة. وقد قام بالمهمة مجموعة من أهم قادة صالح وأمناء العموم في مؤتمره العام، منهم الشيخ البركاني والشيخ العواضي وعدد من المقربين من صالح. وقد مولت الخطة السفارتان الأمريكية والسعودية بسرية تامة، وتكشفت أسرارها على هامش فتنة ديسمبر.

 العدو الأجنبي يفقد توازنه
 نتيجة ما حدث في العاصمة من تطورات، أدرك هادي أنه خسر بشكل كامل السلطة والنفوذ إلى الأبد في العاصمة، وأن عليه أن يفر بما بقي له من عناصر، ولذلك تركزت مهمة الأمريكي السعودي على تنفيذ عملية تهريب هادي إلى عدن.
بهروب هادي إلى خارج البلاد وخسارته العاصمة سقطت كل مفاصل السلطة بأيدي قوى الثورة، وأرادت أن تشارك القوى السياسية في الحكومة مجدداً فراحت تفتح حوارات سياسية في موفنبيك بإشراف بنعمر، المبعوث الأممي، للخروج من أزمة رئاسة الدولة قبل اللجوء إلى الأسلوب الاستثنائي الثوري المباشر في تشكيل مجلس ثوري سيادي وتعليق الدستور والشروع بمسيرة جديدة جذرية مبنية على شرعية الثورة الشعبية والغلبة الشعبية والإرادة الشعبية، وهي أعلى أشكال التعبير عن الإرادة الشعبية الشرعية، وفقاً لكل المفاهيم الدستورية والقانونية والتاريخية المتوافق عليها أكاديميا في العالم كله. لكن العدوان كان يرقب الحوارات ويسيطر على إرادة طرفها الموالي له، فقد أرادها مضيعة للوقت وإهداراً للقوى وخداعاً استراتيجياً للثورة ريثما تقترب لحظات انطلاق الحملات الجوية والبحرية الحربية العدوانية. وقد اتضح فيما بعد أن قيادة الثورة كانت أحكم من جميع القوى السياسية في تأخير مسألة تشكيل المجلس السيادي للحكم، لإقامة الحجة عليها جميعها، فلا يبقى لطرف أي مبرر. في ظروف الحرب الوطنية التحررية لم تتعب الحركة الثورية من الحوارات السياسية مع مختلف القوى الوطنية التي يهمها الدفاع عن الوطن، بعد أن تم إعلان العدوان بشكل رسمي من واشنطن والرياض. وأصبحت مهمة الدفاع عن الوطن هي المهمة الرئيسية للثورة والقوى الوطنية الأخرى في مختلف الأحزاب والمنظمات والهيئات والشخصيات الاجتماعية الوطنية على اختلاف مشاربها وتنوعاتها الفكرية والسياسية، على قاعدة الدفاع عن الوطن والحرب الوطنية ضد العدوان. ورغم خيانة قيادات بعض الأحزاب والمكونات السياسية والاجتماعية والعسكرية اليمنية إلا أن القيادة الوطنية كانت تراهن بشكل صحيح وصائب على ما لدى القواعد الشعبية الوطنية من مخزون وطني وضمائر حية، وأن مواجهة العدوان سوف تكشف المزيد من الأقنعة والوجوه المخادعة، وتزيد تعريتها أمام قواعدها، وهو ما حصل بالفعل بعد سنوت من العدوان عندما حاول الخائن عفاش خيانة الوطن من الداخل حسب مخطط مشترك مع العدوان، وفشل فشلاً ذريعاً، بسبب تخلي الشعب المخدوع عنه بعد أن تبين له الواقع على حقيقته.

الخلفية الاجتماعية والأيديولوجية للثورة الشعبية
كثيراً ما يتردد السؤال عن الخلفية الاجتماعية والأيديولوجية للثورة الشعبية. والحقيقة أن الثورة تكشف هويتها اجتماعياً وأيديولوجيا من خلال مسارين أو محورين، هما:
الواقع اجتماعي الاقتصادي للنخبة القيادية لحركة أنصار الله كقيادة للثورة الشعبية، بدءاً بالمؤسسين الأوائل، فهم كما هو معرف لا ينتمون إلى الفئات العليا في المجتمع، بل إلى الطبقة الشعبية أو إلى الديمقراطية الثورية الوطنية الشعبية من المزارعين والفلاحين والحرفيين والقبائل الزراعية الكادحة والعمال وصغار التجار المنتجين والمثقفين الوطنيين والفقراء، بتوصيفات الأدب السياسي اليساري الحديث. وهي قوى تعبر عن المطالب الشعبية العادلة في العدالة الاجتماعية والتحرر الوطني والاجتماعي واسترداد السيادة الوطنية والاستقلال والثروات الوطنية والحقوق العامة والخاصة وتحقيق الوحدة الوطنية وإقامة دولة العدالة القوية الموحدة والاكتفاء الذاتي والكفاية والنتاج الوطني والنهضة الاقتصادية العلمية الشاملة والمشاركة الشعبية في إدارة الشعب ذاته بذاته.
اجتثاث أسباب الظلم والقهر والاستبداد والفساد والتبعية والتفرقة والتجزئة والإرهاب والفوضى والبطالة والفقر والبيروقراطية، وتحقيق جميع أهداف الثورات الوطنية السابقة في سبتمبر وأكتوبر التي أهدرها الطغاة في الماضي.

الخلفية الأيديولوجية والسياسية للثورة الشعبية
من حيث الانتماء الفكري العقيدي لقادة الثورة، فإن الفكر الغالب عليهم هو فكر ثوري إسلامي علوي حسيني في أصوله العقيدية وتجربته الوجدانية التاريخية والشعورية والقيمية، ويمتد إلى مواقف الرسول الكريم وعترته الشريفة وإلى الإمام العظيم الوصي الإمام علي بن أبي طالب وابنيه الحسن والحسين وأبنائهما وإلى الإمام زيد وثورته وإلى النهضة الإمامية الزيدية الوطنية الثورية الحديثة في وجه الاحتلال العثماني والوهابي والبريطاني والأجنبي، وضد التبعية والاستبداد العسكري والطغيان السياسي. ويستند البناء الفكري للحركة إلى نظرة جديدة للقرآن ومعانيه وإشاراته وتأويلاته ومفاهيمه تقوم على إعمال الواقعية التاريخية والاجتماعية الحديثة والعصرية الإيجابية واستخلاص ما أراد الخالق من عباده في مختلف العصور، لكي يتحقق النموذج القرآني في الواقع الملموس، وتنقية المفاهيم والأفكار مما علق بها من تأثيرات الاستبداد والفساد والانحراف والجمود والضياع، والعودة إلى روح الثورة القرآنية الأصلية الحقة. وهذه الإشارات هي بعض مما يمكن الإشارة إليه حول ثورة مازالت مستمرة تتنامى وتتطور وهي في ريعان شبابها وعطائها وحيويتها.