نشوان دماج / مرافىء -

تظل قصيدة «أبو تمام وعروبة اليوم»، للشاعر الكبير الأستاذ عبدالله البردوني، 
علامةً فارقةً في الشعر العربي، أو هكذا هي بالنسبة لي على الأقل. لكن ذلك لا يمنع من تناول بعض جوانبها من زاويةٍ نقدية؛ وذلك في تعاطيها مثلاً مع شخصيةِ بابك الخرمي. 
فالصورة التي رسمتْها القصيدةُ عن الرجل تجعل منه شخصيةً سلبيةً تماماً عند القارئ. وليس ذلك فحسب، بل ومآلاً لكلِّ ما يمكن تخيُّلُه عن شيءٍ اسمه «حكامنا». فطالما أن القصيدة وَصَفت هؤلاء بالقول:
حُكّامنا إن تصدَّوْا للحِمَى اقتحموا
وإن تصدَّى له المُستعمرُ انسحبوا
هم يَفْرِشون لجيشِ الغزوِ أعيُنَهم
ويدَّعون وثُوباً قبل أن يثِبوا
الحاكمون و«واشنطن» حكومتهُم
واللَّامعون وما شَعُّوا ولا غربوا
القاتلون نبوغَ الشَّعبِ تَرضيةً
للمُعتدين وما أجْدَتهُم القربُ
وطالما
لَهُمْ شموخُ المُثَنّى ظاهراً ولهم
هوىً إلى بابِكَ الخرميّ ينتسبُ
بالتأكيد لن يكون «بابك» هذا إلا مآلاً لكل تلك الصفات مجتمعة، بحيث لا يعود المرء بحاجةٍ إلى معرفة المزيد عنه. ثم إذا صادف أن قرأ في تلك الفترة من تاريخ الدولة العباسية، وعثر في طيّات كتب الإخباريين عن اسم «بابك الخرمي»، انتظرَ أن يتعزّزَ عنده ذلك الانطباعُ لا أكثر. أما أن تضيف له تلك الكتب شيئاً لا يعرفه عن الرجل فأمرٌ مستبعد.
وأعترف أن ذاك تماماً هو ما حدث معي. فلقد كنت أنتظر من الروايات الإخبارية الرسمية أن تقدم لي ما ينسجم مع الصورة التي رسّختها في ذهني قصيدة «أبو تمام وعروبة اليوم»، بالإضافة إلى قصيدة «الغزو من الداخل»، عن بابك الخرمي؛ فإذا بي لا أرى شيئاً من ذلك، حتى وأنا أعتمد أكثر الروايات جموحاً في ذم الرجل، وهي رواية الذهبي في كتابه «سير أعلام النبلاء»:
«ثمَّ كَانَ حربٌ كَبِيْرٌ بَيْنَ الأَمِيْن وَالمَأْمُوْن، إِلَى أَنْ قُتِلَ الأَمِيْن. وفِي أَثْنَاء ذَلِكَ قَامَ غَيْرُ وَاحِدٍ يطْلُب الإِمَامَةَ: فَظَهَرَ بَعْد المائَتَيْنِ بَابَك الخُرَّمِيّ زِنْدِيْق بِأَذْرَبِيْجَان، وَكَانَ يُضْرَبُ بِفَرْطِ شَجَاعَته الأَمثَال، فَأَخَذَ عِدَّة مدَائِن، وَهَزَم الجُيُوشَ إِلَى أَنْ أُسِرَ بحيلَةٍ، وَقُتِلَ».
ويستفيض الكتاب في موضعٍ آخرَ بالقول:
«وَفِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِيْنَ (بعد المائتين): كَانَ المَصَافُّ بَيْنَ بَابَكَ الخُرَّمِيِّ، وَبَيْنَ الأَفْشِيْنِ، فَطَحَنَهُ الأَفْشِيْنُ، وَاسْتَبَاحَ عَسْكَرَهُ، وَهَرَبَ، ثُمَّ إِنَّهُ أُسِرَ بَعْدَ فُصُولٍ طَوِيْلَةٍ، وَكَانَ أَحَدَ الأَبطَالِ، أَخَافَ الإِسْلاَمَ وَأَهلَهُ، وَهَزَمَ الجُيُوشَ عِشْرِيْنَ سَنَةً، وَغَلَبَ عَلَى أَذْرَبِيْجَانَ وَغَيْرِهَا، وَأَرَادَ أَنْ يُقِيْمَ المِلَّةَ المَجُوْسِيَّةَ، وَظَهَرَ فِي أَيَّامِهِ المَازَيَارُ أَيْضاً بِالمَجُوْسِيَّةِ بِطَبَرِسْتَانَ، وَعَظُمَ البَلاَءُ. وَكَانَ المُعْتَصِمُ وَالمَأْمُوْنُ قَدْ أَنفَقُوا عَلَى حَرْبِ بَابَكَ قنَاطِيْرَ مُقَنْطَرَةً مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، فَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعَثَ المُعْتَصِمُ نَفَقَاتٍ إِلَى جَيْشِهِ مَعَ الأَفْشِيْنِ، فَكَانَتْ ثَلاَثِيْنَ أَلْفَ أَلفِ دِرْهَمٍ، وَأُخِذَتِ البَذُّ؛ مَدِيْنَةُ بَابَكَ اللَّعِينِ، وَاخْتَفَى فِي غَيْضَةٍ، وَأُسِرَ أَهلُهُ وَأَوْلاَدُهُ، وَقُطِعَ دَابِرُ الخُرَّمِيَّةِ».
«... وَكَانَ هَذَا الشَّقِيُّ ثِنْوِيّاً، عَلَى دِيْنِ مَانِي وَمَزْدَكَ، يَقُوْلُ بِتَنَاسُخِ الأَروَاحِ، وَيَستَحِلُّ البِنْتَ وَأُمَّهَا. وَقِيْلَ: كَانَ وَلَدَ زِنَىً، وَكَانَتْ أُمُّهُ عَوْرَاءَ، يُقَالُ لَهَا: رُوْمِيَّةُ العِلْجَةُ، وَكَانَ عَلِيُّ بنُ مَزْدَكَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ زَنَى بِهَا، وَبَابَكُ مِنْهُ. وَقِيْلَ: كَانَتْ صُعْلُوكَةً مِنْ قُرَى أَذْرَبِيْجَانَ، فَزَنَى بِهَا نَبَطِيٌّ، فَحَمَلَتْ مِنْهُ بِبَابَكَ، فَرُبِّيَ بَابَكُ أَجِيراً فِي القَريَة»ِ!
فحتى هذه الصورة التي عرضها الذهبي، والمتحيزة بطبيعة الحال إلى موقف السلطة أو معبرة عنه، لا نستطيع أن نستخلص منها إلا أن الرجل كان -في أسوأ حالاته- متمرداً خارجاً على تلك السلطة لا أكثر. كما أن رواية الذهبي، حتى وهي تعتبر بابك «مجوسياً لعيناً وزنديقاً مارقاً وابنَ زنىً أخاف الإسلامَ وأهلَه... الخ»، اعترفت له بشجاعةٍ نادرةٍ كانت مضرب الأمثال، وبأنه كان أحد أبطال التاريخ على الإطلاق؛ ولدرجة أن الرجل وقد قُطعت أطرافُه وتُرك ينزف، راح يخضب وجهه بدمه حتى لا يُرى فيه صفرة من أثر النزف فيظنها الظافرون خوفاً أو جزعاً.
يقول الذهبي في الكتاب المشار إليه: «وَأَمَرَ المُعْتَصِمُ، فَأُرْكِبَ بَابَكُ فِيلاً، وَأَلبَسَهُ الدِّيبَاجَ، وَقَلَنْسُوَةً كَبِيْرَةً مِنْ سَمُّورٍ، وَطَافُوا بِهِ، ثُمَّ قُطِعَتْ أَرْبَعَتُهُ (انظر إلى «أربعته»)، وَهُوَ سَاكِتٌ، ثُمَّ ذُبِحَ، وَطِيفَ بِرَأْسِهِ بِسَامَرَّاءَ، ثُمَّ بُعِثَ بِأَخِيْهِ إِلَى بَغْدَادَ، فَعُمِلَ بِهِ كَذَلِكَ. وَيُقَالُ: كَانَ أَشْجَعَ مِنْ بَابَكَ، فَقَالَ: يَا بَابَكُ! قَدْ عَمِلْتَ مَا لَمْ يَعْمَلْهُ أَحَدٌ، فَاصْبِرْ صَبراً لَمْ يَصْبِرْهُ أَحَدٌ. قَالَ: سَوفَ تَرَى. فَلَمَّا قَطَعُوا يَدَهُ، خَضَبَ صُوْرَتَهُ بِالدَّمِ، فَقَالَ المُعْتَصِمُ: لِمَ فَعَلْتَ؟ قَالَ: إِنَّكَ أَمَرْتَ بِقَطعِ أَطْرَافِي، وَفِي نَفْسِكَ أَنْ لاَ تَكْوِيَهَا، فَيَنْزِفُ الدَّمُ، فَيَصْفَرُّ لَوْنِي، فَتَظُنُّونَهُ جَزَعاً مِنِّي».
يبدو، لم يظفر المعتصم بمشهدِ جَزَعٍ يشفي غليله من عدو أداخه، ومن قبله أخاه المأمون، أكثر من عشرين عاماً. فأمر به فذُبِح.. هكذا يختتم الذهبي المشهد.
فالبردوني -حتى لو كان مأخوذاً بالرواية الرسمية- لم يكن ثمة ما يدعوه إلى أن يعقد شبهاً ما أو نسبةً بين بابك الخرمي والحكام العرب؛ فعلى الأقل كان هذا بطلاً شجاعاً، وكانت شجاعته مضرب الأمثال؛ بينما أولئك -وبحسب ما توحي به القصيدة ذاتها- عنوانٌ للذلة والهوان. وهو رجلٌ ظلّ ثابتاً على موقفه ومبدئه، أياً كان ذلك الموقف والمبدأ؛ بينما أولئك لا موقفَ ولا مبدأَ لهم إلا ولاؤهم للمستعمر وقتلهم نبوغ الشعب ترضيةً للمعتدين، بحسب القصيدة.
أغلب الظن أن البردوني، وهو ينقل لنا تلك الصورة عن بابك الخرمي، كان مأخوذا إما بعروبته، كقوميةٍ وقفت في وجهها قوميةٌ أخرى، فكان عليه أن يأتي بشموخ المثنى (بن حارثة الشيباني) مقابلاً لما اعتقد أنها صورة هوانٍ وذلةٍ لبابك، ربما حين كان قد وقع أسيراً بين أنياب المعتصم؛ وتلك حالةٌ لا تعبر عن أي ذلة أو هوان، وإنما تعكس مدى تلذذ «الحاكم» في تعذيب أسير، ومدى قوة وصلابة ذلك الأسير وثباته على موقفه.
أو أن البردوني كان مأخوذاً بما قاله زميله أبو تمام في حق الرجل من ذم. غير أن أبا تمام كان في النهاية، أو على الأقل في ذلك الحدث، شاعرَ بلاط. فكيف ننتظر من شاعر بلاط أن يكون منصفاً أو محايداً أو أن يصور لنا حقيقة الرجل أو بعضاً منها؟!
فأن يغدو المرء شاعراً في بلاطٍ ما، ينتظر الجائزة أكياساً من الرنين، بالتأكيد لن يبوح شعره إلا بما يشنف آذان ذلك البلاط، تماماً بقدر ما تتشنف أذناه هو بذلك الرنين، ولن يوجه سخط ومقت الشعر إلا نحو من يسخط البلاط عليه. أليس عندما يخاطبه البردوني بهذين البيتين ما يجعله كذلك:
شَرَّقتَ غرَّبتَ من والٍ إلى مَلِكٍ
يَحُثُّكَ الفقرُ أو يقتادُك الطلَبُ
وتجتدي كلّ لصٍّ مترفٍ هِبَةً
وأنتَ تعطيه شعراً فوق ما يهبُ
وبالتالي لم يكن لأبي تمام أن يقول عن بابك إلا ما يريده البلاط. فإن وصفه بالشناعة والقبح، فهو يصف مناوئاً ومتمرداً وخارجاً على خليفته العباسي، ربِّ نعمته، وصاحبِ جودٍ وفضلٍ بقدر ما أن أبا تمام صاحب حاجة وفقر.
أضف إلى ذلك أن استخدام البردوني للاسم بحد ذاته كان خطأً من حيث اللغة؛ فهو بابَك بفتح الباء وليس بكسرها. وبابَك Babak اسم معرّب من الفارسية Pápak. فكأنما كان استخدامه من قبل البردوني في قصيدته (الغزو من الداخل)، فقط لأنه قد يكون مناسباً لقافية الباء المكسورة والكاف الساكنة، فوجدنا أنفسنا نردد:
أميرَ النفطِ نَحْنُ يَدَاك
نحنُ أحَدُّ أنيابِكْ
....
فَنَمْ يا بَابِكَ الخُرْمي
على بلقيسَ يا بابِكْ
وليت أن البردوني تعامل مع اسم «بابك» مثلما تعامل مع اسم «نزار»، وهو يشد على يد زميله نزار قباني مصافحاً، حسب ما يروى، وقائلاً: اسمك نَزار بفتح النون، وهي قبيلة عربية، وليس نِزار.
وهو «الخُرَّمِيُّ» بتشديد الراء مع الفتح؛ وتلك مشكلة أخرى ستخل بالوزن في قصيدتيْ البردوني كلتيهما. فمثلما أن «البَرَدُّونيّ»، بتشديد الدال، نسبة إلى «بَرَدّون»، وهي بلدة في الحدأ من نواحي ذمار، فـ«الخُرَّمِيّ»، بتشديد الراء، نسبة إلى ناحية «خرّم» بأردبيل في أذربيجان، لا بتسكينه، فيأخذنا الخيال العربي -كما هي العادة- إلى إيجاد معنىً وتجذيرٍ للاسم في «خُرْم»، بمعنى «فَرْج»؛ كما ذهب إلى ذلك صاحب «الكامل في التاريخ» بقوله: «ومعنى خُرْم: فَرْج، وهي مقالات المجوس، والرجل منهم ينكح أمه وأخته وابنته، ولهذا يسمّونه دينَ الفَرْج»! وبحيث يصبح صاحبه «يدعو إلى الإباحية الجنسية في عهد الدولة العباسية»، كما يقول أحد شُراح البردوني «الأفذاذ» على صفحةٍ في «فيسبوك» بعنوان «تنبؤات البردوني»!
شيء قد يبعث على الخجل حقيقة؛ لكن «لا بأس» طالما أن الرجل ليس «عربياً»؛ وإلا لكان من حقه علينا أن نعتذر إليه من هكذا تناولٍ سقيمٍ لاسمه من قبل مؤرخٍ بحجم ابن الأثير، أو من قبل شاعرٍ بحجم البردوني.
في كتابه «النزعات المادية»، يتوقف حسين مروة قليلاً عند أحداث القرن الثالث الهجري، التي كادت تعصف بالدولة العباسية، ومن ضمنها حركة بابك الخرمي. يقول: «لقد حفل القرن الثالث بانتفاضات جماهيرية وحركات ثورية في العراق ومصر وبعض مناطق شبه الجزيرة العربية وفي الأقاليم الآسيوية البعيدة التابعة يومئذ لدولة الخلافة. هذه الانتفاضات والثورات شاركت فيها فئات اجتماعية واسعة من الكادحين والمستضعفين، لاسيما الفلاحون، في المجتمع العربي - الإسلامي، في حين كانت هذه الفئات تنسب إلى مختلف الأقوام والشعوب التي كان يتألف منها هذا المجتمع. وإذا كان بعض هذه الثورات والانتفاضات اصطبغ بصبغات مذهبية أو دينية أو نزعات فلسفية، فإن الدراسة التاريخية العلمية تكشف أن الدافع الاجتماعي كان هو المحرك الغالب لمعظم الانتفاضات والثورات التي شهدها القرن الثالث، والتي امتد بعضها منه إلى القرن الرابع الهجري. ويكفي أن نذكر منها هذه النماذج الثلاثة: ثورة الزنج وثورة القرامطة والثورة البابكية الخرمية...».
ثم يتحدث بعدها تحت عنوان «ثورة البابكيين»: «بالرغم مما قيل عن أسبابها المذهبية أو القومية، لدينا من الدلائل ما يثبت كونها ثورة اجتماعية لها أساسها الطبقي الواضح. فإن الدوافع الاقتصادية- الاجتماعية هي في أساس التجمع الجماهيري الفلاحي الهائل حول هذه الثورة في منطقة آسيوية واسعة وبين «قوميات» عدة، إذ اشترك فيها الكثير من فلاحي الفرس والكرد والأرمن والروم وغيرهم من قبائل ما وراء القفقاس... فإذا أضفنا إلى ذلك أن ثورة البابكيين تقدمت ببرنامج اقتصادي - اجتماعي ثوري كان الجزء الأساسي والجذري فيه «نزع الأراضي الواسعة من أربابها الذين اغتصبوها سابقا من الفلاحين أو الدولة وتوزيعها على المزارعين المحتاجين... تبين لنا أن الطابع الطبقي كان بالفعل أبرز سمات هذه الثورة...».
أي أننا، إذا ما تجردنا ولو قليلاً عن عصبيتنا، سنجد حركة بابك الخرمي ثوريةً بكل المقاييس، بغض النظر عن موقفنا منها كعرب. كما سنجد بابك نفسه شخصيةً بطوليةً من الطراز الأسطوري قاومت حتى آخر لحظة، بل -وكما رأينا- حتى وقد راحت سيوف الأسر على باب الخليفة العباسي المعتصم تنهش لحمها قطعة قطعة، بدءاً باليدين واحدة بعد أخرى، ثم القدمين ثم الذبح، ظلت شامخةً تنظر إلى الموت بعينين لا تعرفان الانكسار. فإن لم يكن بابك الخرمي بطلاً بالنسبة لنا كـ«عرب»، فهو لا شك بطلٌ بالنسبة لقوميته التي اعتقدنا أنه حاربَنا باسمها. 
وربما أن شموخ بابك الذي كنا سنستشفه من كتب الإخباريين كان سيغدو أضعاف أضعاف ما للمثنى نفسه؛ فقط لو أن الرجل كان عربياً مثل المثنى، أو كان موالياً للسلطة كالمثنى أيضاً. لكن بما أن بابك لم يكن عربياً ولا السلطة الحاكمة كانت راضيةً عنه، وبما أنه كان متمرداً عليها طيلة أكثر من عشرين عاماً، لم يكن لتلك الكتب أن تعتبر شجاعته وثباته على موقفه شموخاً.
الأمر الآخر، المحير في قصيدة «أبو تمام وعروبة اليوم»، هو أنه: إذا كانت القصيدة احتفاءً بأبي تمام في أربعينيته المفترضة، فما شأن بابك؟ وإذا اعتبرنا فتح عمورية هو الحدث الذي أشعل قريحة البردوني، مثلما أشعل قبلها قريحة أبي تمام، فما علاقة بابك الخرمي أيضاً، وعمورية ليست بلاده؛ وإنما حصنٌ من حصون الروم، فيما بلاده هو بأقصى أذربيجان؟ أليس حَشْرُ كلٍّ من بابك وفتح عمورية في سياق كهذا لا يفيد الاحتفاء بأحد سوى المعتصم نفسه؛ الحاكم الذي ربح، بطريقة أو بأخرى، بلاداً إلى بلاده، مقابل حكامٍ باعوا كل ما تحت أيديهم من بلاد ونخوة؟!
إن ما يجعل قصيدة البردوني أقرب إلى الاحتفاء بالمعتصم منها بأبي تمام، هو إيرادها لشخصية معتصمية أخرى هي الأفشين. والأفشين هذا مشكلته أنه كان القائد العسكري الذي حارب بابك الخرمي باسم المعتصم، والذي انتصر عليه في النهاية باسم المعتصم أيضاً، وبحيلة ومكيدة أكدتهما كتب الإخباريين، ولا داعي لذكرهما. فحتى إذا كَنَسَ الأفشين عن سيده ذلك الكابوس المسمى بابك، اتُّهِمَ بالخيانة فصُلب ونادى منادٍ:
ما كانَ لَولا فُحشُ غَدرَةِ خَيذَرٍ
لِيَكونَ في الإِسلامِ عامُ فِجارِ
مازالَ سِرُّ الكُفرِ بَينَ ضُلوعِهِ
حَتّى اصطَلى سِرَّ الزِّنادِ الواري
و«خيذر» (أو حيدر وهو الأصح؛ إلا أنه هكذا إذا غُضِبَ على شخصٍ تاريخياً فإنهم يجردونه حتى من اسمه أو يُحرّفونه بما يناسب هواهم) هو اسم الأفشين. أما المنادي فهو أبو تمام نفسه الذي كان يخلع على الرجل من المدائح ما يخلعه عليه الخليفة من ألقاب وعطايا، مشيداً بانتصاراته الباهرة، وواصفا إياه بـ«النجم الذي صَدَعَ الدُّجَى صَدْعَ الرداءِ البالي». أما وقد غضب الخليفة على الأفشين متهماً إياه بالخيانة، فلا بد أن يتحول موقف أبي تمام غضَباً هو أيضاً، فهو شاعرُ بلاطٍ كما قلنا. إنما لم يتوقف عند تهمة الخيانة فحسب، بل اتَّهم الرجلَ بالكفر. وأيّ جُموحٍ وبُعدٍ عن الاتزان أكبر من ذلك!
ثم يأتي البردوني لينادي هو أيضاً:
مَنْ ذا يُلبّي أمَا إصْرَارُ مُعْتَصِمٍ
 كَلّا وَأَخْزَى من الأفْشِينِ ما صلبوا
من حق البردوني أن يقول عن أبي تمام ما يشاء، وأن يمجّد من المعتصم ومن فتح عمورية مقابل حكام فرشوا للعدو وجيوشه أعينهم قبل التراب، والقصيدة تظل كما قلنا علامة فارقة في الشعر العربي؛ لكن ليس من حقه، بحسب اعتقادي، أن يَصِمَ رجلاً بالخِزْي - حتى اعتقدناه رمزاً لكل الدسائس والمؤامرات - فقط لأن خليفة لم يعد بحاجة إلى خدماته فتخلص منه بتهمة الخيانة، ولا أن يجعل من رجلٍ آخر مآلاً لكل تلك الصفات المجتمعة في شيء اسمه «حكامنا»، فقط لأنه أقضّ مضجع ذلك الخليفة لأكثر من عشرين عاماً.
أخيراً، إن قراءةً -ولو عابرةً- في كتب الإخباريين كتاريخ الطبري مثلا، حتى وهي الكتب التي يمكن اعتبارها إلى حد كبير الرواية الرسمية للسلطة، ستُبين أنه لا بابك الخرمي ولا الأفشين كانا بتلك الصورة المشينة، مثلما أنه لا المعتصم ولا فتح عمورية كانا بتلك القداسة، وأن الشعر يصنع بنا أحياناً من العاطفة الساذجة ومن زيف الوعي ما لا تصنعه حتى سنوات الطفولة.