ليزا جاردنر / مرافئ -
صنعاء وما أدراك ما صنعاء! هذه المدينة المتجذرة بتاريخها العريق الذي يمتد آلاف السنين، إلى ما قبل طوفان نوح. وقعت قدما سام بن نوح على أجمل بقاع الأرض ليتمركز في مدينة صنعاء التي سحرته بجمالها، وقام ببناء درة عجيبة فيها، وهي قصر غمدان. وقد أطنب المؤرخون في وصف القصر بألا مثيل له في الأرض، مما جعل العالم القديم ينحني أمام صنعاء بكل رهبة وتبجيل. صنعاء تلك المدينة الحانية وقبلة الوجدان، حيث يسبق تاريخها وحضارتها المكان والزمان. فماذا أحدثكم عن صنعاء؟! يقول الهمداني، والقول في صنعاء مجروح: «صنعاء إحدى جنان الأرض عند الناس كافة» (الإكليل، ٨/ ١٠). ولم يبالغ الكاتب الجليل عندما قال: «من قال إن هناك بقعة أطيب من صنعاء لا تصدقوه». فصنعاء حضارة أشرقت للبشرية جمعاء. صنعاء هي معلم العلم، ورمز الفن، ونموذج الهندسة المعماريّة. 
وذكر الرازي في كتابه «تاريخ مدينة صنعاء» أن اسم صنعاء يرجع إلى صنعاء بن آزال بن يقطن بن عابر بن شالخ بن آرفخشذ بن سام بن نوح. ويسرد الكتاب ويقول: «عندما مات نوح عليه السلام، آثر واحتوى سام المكوث في صنعاء، لأنه وجد في أرض صنعاء أجمل وأطيب مسكنا للعيش والسكنى». وقد هذا بسبب جنانها الخضراء وسواقيها العذبة وهوائها العليل الذي أصبح بمثابة ترياق صنعاني من جميع الأمراض. وقد قام سام بن نوح بوضع «مقرانة»، وهي عبارة عن عملية هندسية لقياس البناء، وكانت من الخيوط القوية، لكي يقيس الأرض للبناء والتوسع في الأرض بدقة تجنبا للفوضى. امتدت «المقرانة» من فج عضدان في غرب الحقل من صنعاء، موصولة إلى جبل عيبان وجبل نقم. وتقوم هذه الجبال الشاهقة في شرق وغرب صنعاء. وتقبع صنعاء في حماية جبالها كأنها مردة عملاقة. ويحكى أن طيرا خطف «المقرانة» وحلق بها عاليا، ولحق به سام إلى أن أسقط الطير المقرانة على حرة غمدان، وعندها أمر سام ببناء قصر غمدان وحفر له بئرا عظيمة، وعُرف بمائه العذب للشاربين. وقد كانت مدينة صنعاء مدينة الملوك وعاصمة سبأ. 
ويقول بعض المؤرخين بأن مؤسس صنعاء هو الملك السبئي «هلك أمر» في القرن الأول للميلاد. وقد جذبت وخطفت قلوب الملوك، لما لها من مزايا وخصائص؛ فهي المدينة المحصنة بجبالها جغرافيا، وغنية بالموارد الطبيعية، وبمناخها المعتدل. وقد كانت ومازالت أسطورة الجزيرة العربية بطابعها المعماري النادر الذي تتزين به. هذه النقوش الزاهية تتحلى بها المباني والمساجد في صنعاء القديمة. وكم يحير هذا الاسم العقل! ألا يجب أن نقول جوهرة صنعاء، لما في هذه المدينة ذات الأبواب السبعة من أسرار وجمال؟! وقد دفن التاريخ ستة أبواب ولم يتبق منها إلا باب واحد هو باب اليمن، الذي يقف عصياً أمام زوابع الحياة والتاريخ ليشهد على عظمة اليد اليمنية وتاريخها الأغر. 
ليس من المستغرب أن تصدر منظمة التراث العالمي لليونسكو عام 2015 تقريرا يؤكد ضرورة المحافظة على مدينة صنعاء القديمة وجوهرة صنعاء واليمن، هذه المدينة التي احتضنت سكانها منذ القرن الخامس قبل الميلاد، وانتشر فيها الخير وعم في أرجائها العدل والحكمة. وقد رحّبت صنعاء بالإسلام منذ مشارف القرن السابع وكانت مركزا للعلم ونشر الرسالة الإسلامية، وقام الإنسان اليمني ببناء أجمل المساجد والجوامع، وأهمها الجامع الكبير. وقد لا أبالغ لو قلت إن صنعاء صُمِّمَت لتماثل الجنة، بأبوابها السبعة ومساجدها ومآذنها، وبروحانيتها، حيث شهدت هذه المدينة العجيبة أو العقيقة اليمنية تطوراً إنسانيّا ومعماريّا مهيبا. 
تتربع صنعاء على عرش اليمن منذ الأزل، وتبدو وكأنها فتاة فاتنة أو حورية منزهة من جميع العيوب، تتعالى في وجه الزمن وجوره. ترى في شوارع عقيقة اليمن الأزقة والشوارع الضيقة التي تكاد أن تنطق وتخاطب المارة لتحكي لهم قصص الأولين، بينما يختلط بذرات الهواء عبق التاريخ مع رائحة خبز التنور ويرفرف الطير على ألحان الموال الصنعاني. تفتح «الطيقان» (النوافذ) لتحمل إلينا عبق العود والبخور التي تقبل عينيك وأنفك. 
وبينما أنت تتغزل بهذه الأرض الطيبة، تسمع سام بن نوح يصيح من أعلى صومعة في الجامع الكبير مناديا: اخلعوا نعالكم إنكم في الأرض المقدسة صنعاء! وصدق الأديب أمين الريحاني عندما قال: «أيا صنعاء، مَثّلك لنا التاريخ فكنتِ ملكة الزمان، ومثلكِ لنا العلم فكنتِ يوما ربة العرفان، ومثلتك لنا الأساطير فكنتِ سيدة الإنس والجان». ومع رنات ضحكات الأطفال ونوادر الشيوخ، وستائر الجدات اللاتي يتمرجحن على أرجوحة الحجيج، نسمع مآذن صنعاء وهي تؤذن مع المساجد، وصوت الأرض يزلزل: ارفع رأسك، أنت يمني.


كاتبة وأديبة إنجليزية يمنية الأصل.