صـلاح

علي عطروس / «لا» 21 السياسي -
منذ عقدٍ وعامين تقريباً كنت في زيارة لإحدى أكبر المؤسسات الصحفية الرسمية اليمنية، تلبيةً لدعوة تلقيتها من رئيس مجلس إدارتها المعين حديثاً بعد ونتيجة ومكافأة حوار مطول ومهم أجراه مع رئيس الوزراء في ذلك الوقت عبدالقادر باجمال، وهو الحوار الذي  أعده له أحد كبار الصحفيين والشعراء اليمنيين، وهو بالمناسبة موضوع حديثي هذا.
بعد التحايا والتعارف والمجاملات سألت رئيس المؤسسة تلك: أين صلاح الدكاك؟ وأجاب: موجود، ليش؟ قلت: أود اللقاء بهذا القلم العظيم والتعرف على شخصه الكريم. لاحظتُ امتعاضاً وتمعراً على وجه رئيس مجلس الإدارة، فما كان مني إلا أن أردفت: أنا من أشد المعجبين بما يكتبه صلاح الدكاك شعراً ونثراً و... وصمتُّ برهة لأردف سائلاً محدثي: ما هو رأيك فيه؟!
سكت الرجل لحظات متململاً في قعدته على كرسيه الوثير يمنةً ويسرة، ثم قال: صلاح كويس؛ لكنه لا يقرأ جيداً. فوجئت وتساءلت: كيف لا يقرأ جيداً وهو الشاعر الفذ والكاتب المنفرد، وما قرأته له يشير إلى مثقف موسوعي و... و...؟! قاطعني: لا، لا، لم أقصد هذا، بل أعني أنه لا يقرأ الواقع من حوله جيداً!
أهاه! ختمت بها حوارنا القصير عن صلاح وهززت رأسي متسائلاً بيني وبين نفسي: هل لأن صلاح لا يقرأ الواقع جيداً أعادوا الصحيفة الأسبوعية الشهيرة إلى مجرد ملحق أسبوعي بعد تكليف صلاح الدكاك بإدارتها خلفاً لمديرها الذي صار رئيس مجلس إدارة؟!
مضت السنوات لينتهي الأمر برئيس التحرير رئيس مجلس الإدارة ذاك إلى مجرد مرتزق صغير لدى مرتزق صغير آخر، في تجسيد معبر وعابر للواقعية القذرة التي كان يقصدها هذا المحرر في حديثه لي يومذاك ونحن في مكتبه ولم أفهم ما كان يعنيه حينها، وأدركته اليوم وأنا أرى المآل الذي انتهى إليه وأشهد الواقع الذي وقع فيه. لقد سقط فيما يجيد قراءته بتحريك رأسه بنعمٍ ريالية و«حاضر» دراهمية وبما يحسن أداءه بهز ذيله يمنةً للرياض ويسرةً لأبوظبي.
في المقابل انتهى الأمر بصلاح الدكاك كما بدأه هو:
قصيدة رفض وأنشودة لا... سِفرٌ من معاناة سعادة وكتابٌ في ملحمة صمود أسطورية، معصم ذو الفقار وكف الأشتر، نفحة من نفَس الحسين وقبضة من تراب كربلاء، شرف جغرافيا وشرفة تاريخ، وطنٌ يمشي على قلمين: قلم يجابه المغضوب عليهم المعتدين، وقلم يواجه الضالين المفسدين.
كما انتهى بي المطاف اليوم لأكتشف الرجل بخلاف ما وصّفه المرتزق؛ فهو قارئٌ لا يُبارى للواقع والوقائع، وكاتبٌ لا يُجارى لأيام الله. وانتهى الأمر لأتعرف على صلاح الدكاك الإنسان بعد أن عرفته منذ عشرين عاماً شاعراً منفرداً وكاتباً متفرداً وصحفياً فريداً.
لن أتحدث عن الدكاك الإنسان، فذلك قد يجاوز مقدرتي ويتجاوز قدرتي، فإنسانية الرجل ظاهرة على وجوه من عرفوه وجلية في قصص المظاليم التي يتتبعها شخصياً ويتابعها صحفياً حتى يقضي الله فيها أمراً كان مفعولا.
كتب صلاح تاريخه من اليسار إلى الشمال ومن اليمين إلى الجنوب، وقرأ جغرافيته من المناطق الوسطى حيث ولد مع الحلم وسطياً: نبت كونياً ونشأ أممياً وترعرع قومياً وشبّ وطنياً ونضج وأينع صوفياً على كفه يغني الطار ومن فمه تشدو القصائد حُبّاً في سيدنا محمد وآل سيدنا محمد. لم أجد فيمن أعرف من يجاوز الدكاك في قراءاته المغايرة لخطابات السيد عبدالملك الحوثي فهماً وعلماً وعمقاً وشمولية. ولم ألقَ فيما أعلم من يتجاوزه في كتاباته النافذة للإشكالات الاصطلاحية الراهنة وللإشكاليات التعريفية المعاصرة لم تقد نجمة بحر الأيديولوجيا صلاح الدكاك إلى شواطئ اليقين، ولم تقيده بوصلات الرفاق المعطلة عن الوصول لسواحل الخلاص، ولم تفت في عضد مثابراته مطارق نظام أعور نجد وطوارق كذاب اليمامة... بل ظل هو «الثوري» وإن حُفت شوارب خالد سلمان بُخف ضابطٍ إنجليزي، واستمر هو المؤمن بـ«الجمهورية» وإن كفر بها كل الجمهوريين وآمنوا بدين محمد بن سلمان وثبت هو على صراط الوطن المستقيم حين سقط الجمع وتساقط الجميع، ليهتف بأول كلمات سبارتاكوس الأخيرة ويقول: لا، في وجه من قالوا: نعم.
قدرة صلاح على تفكيك المقولات الصهيونية والاستعمارية المقولبة ثقافياً وإعلامياً لا يضاهيها إلا اقتداره على تكنيك شعره وفي تكتيك نثره قصائد ومقالات. لا أدعي امتلاكاً لأدوات النقد الأدبي الأكاديمي؛ غير أن متابعتي المتواضعة لتراث الدكاك الشعري والصحفي منذ «الثقافية» وحتى «لا» يجعلني مؤمناً بنبوة الدكاك الإنسانية والمعرفية، ومتيقناً بتجاوزه لنفسه إبداعاً ملتزماً، ولمجايليه التزاماً فكرياً. يكتب الرجل كل أشكال النصوص الشعرية: العمودي والقافية والحر والنثر، وجميع أنواع الفنون الصحفية: التحقيق والاستطلاع والحوار والتقرير والمقال... وجعل من نفسه أيقونةً في فن العنونة والنص المجاور والمجاوز كلماتٍ ومعاني. ورغم كل ذلك وسواه فإني أعجب أيما عجب ألا يجمع الدكاك قصائده الشعرية والصحفية حتى اليوم، وهو الذي تجتمع فيه دواوين وتُجمع عليه القوافي!!
قطع صلاح مسافات الثورة الحمراء عمراً وعماراً، وقطّع مساحات الإبداع الخضراء شعراً ونثراً، ولما يكلّ بعد من احتمال الطريق، ولم يملّ كذلك من حمل الخُطى ومشوار الألف ليل الذي بدأه ومشاه صلاح نجماً لا يأفل ما يزال يمضيه الدكاك حتى مطلع الفجر.
بصياغة «الجورنالجي» محمد حسنين هيكل فإن «أي مهتم بالشأن العام يتابع الخبر صوراً متلاحقة على الشاشات المضيئة، وهو يطلب من الكلمة أن تروي له قصة ما جرى على مهل، لأن ذلك دورها»، و«الكلمة في جريدة تفصل ما وراء الخبر ما لا تستطيع الصور أن تصفه من دخائل ومشاعر»... هذا ما تجتهد «لا» الصحيفة في فعله من خلال رواية ما يحدث بروية وتفصيل ما يجري على مهل وفقاً لمهنيةٍ موضوعيةٍ كونياً غير محايدةٍ إنسانياً وغير مساومةٍ وطنياً وغير مواربةٍ صموداً ولا متواريةٍ وراء إكليشات دعائية مخادعة أو خلف إفيشات جوبلزيةٍ مخاتلة مع اجتهادٍ في انضباط الإصدار وضبط المصطلحات وجهادٍ في ربط حبر الجريدة بدم الجبهات مواجهةً وعنونةً وخبراً وتحليلاً وتقريراً وتبويباً ومغايرة السائد الجامد بمروحةٍ واسعة من الجِدة والتجديد وما قبل الحدث وما بعد المسلوق من بضاعة حديث السوق الإعلامي وما بعد مراوحة الخطاب الرسمي جداً والمختلط ماء موضوعيةٍ ثلجي و»سليط» فبركةٍ مطاعميةٍ معلبة.
وبرغم شحة الإمكانيات وشح الماكينات إلا أن «لا» لا تتوقف عن إنتاج ترسانتها الصحفية في مواجهة إعلام العدوان، لتتجاوز قنواتٍ «وطنية» ميزانيتها مدولرةٍ وتأثيرها مدوزن اختلالاً مواجهاً واعتواراً مجابهاً للأسف أو لحسن الحظ على السواء.
إنه احتفاءٌ متعجلٌ بالعافية المؤجلة واحتفالٌ عاجل بالعودة الفورية أختمه بباقات امتنانٍ أنثرها عطراً ومطراً لكل أصدقائي وزملائي في «لا»، كما هو لكل قارئ افتقدني وسأل عني الله بعد كل صلاة...