حلقات يومية يكتبها  القاضـي محمد الباشق / لا ميديا -
إكرام الإنسان لنفسه هو إحسانه إليها، ولا يعني هذا سعي الإنسان لرغد المعيشة فقط، وإنما إكرام النفس بألا تعرف المكر ولا تسعى إليه ولا ترضى به. وتوجد في القرآن الكريم نماذج كثيرة ممن ظنوا أن طريق المكر يحقق لهم رخاء اقتصادياً؛ فالقرية التي كانت حاضرة البحر، يعني مدينة ساحلية، وأهلها مصدر رزقهم الصيد، ولأن العمل محرم على بني إسرائيل يوم السبت، ولأن نفوسهم تتوق إلى المخالفة كان منظر الحيتان أمام أعينهم يوم قيامهم فيه بشعائر عبادتهم الخالية في جوهرها من صدق المشاعر، ولأن ضمائرهم مريضة، فقد اجتمع في أفكارهم دافع العبودية للمال مع بواعث تعظيم ذواتهم وعبوديتهم لشهواتهم، مع تزيين بعضهم لبعض البحث عن خطة يرون فيها إكرام أنفسهم ماديا، فكانت الحيلة والمكر والتحايل بصناعة أحواض، لمعرفتهم بحركة المد والجزر البحرية بحجم يمنع عودة السمك إلى البحر بعد دخوله تلك الأحواض.
تفتقت أذهانهم وأثمرت أفكارهم عن تلك الحيلة، فاستخدموا حب المال كباعث نفسي، والتخطيط كإنتاج فكري، ومعرفتهم بحركة البحر ومعرفتهم بعمق ساحل قريتهم، وهذا أيضاً يدل على معرفتهم بعلم النجوم وأثره على حركة المد والجزر البحري.
كما وهناك مِن نعم الله عليهم وفيهم استخدموها في غير ما يرضي الله، فأهانوا أنفسهم وأذلوا أنفسهم؛ لأن أي سلوك مهما كان ظاهره جميلا ونتاج دهاء وثمرة معارف وتلاقح أفكار فيه حيلة ومكر، فإنه إهانة للنفس. والمجتمع الذي شاهد هذه الحيلة انقسم إلى مؤيد لما قاموا به وفريق صامت محايد وفريق -وهم الأقل- نهى وأنكر وأعلن موقفه بكل صراحة بلا مداهنة وبلا مزايدة أن ما قاموا به من حيلة يدل على عدم معرفتهم بالله الخالق الرازق الذي يعلم خبايا العقول وحنايا النفوس ومكنون الأفئدة وباطن كل خطة وهدف كل عامل ونوايا كل مخلوق، وأن ما قام به هؤلاء من حيلة هو إهانة لذواتهم وانسلاخ من عبوديتهم لله وانحطاط عن بشريتهم، ولم يطل الحوار مع هؤلاء، فقد أنزل الله بهم العقوبة وتحولوا إلى قردة وخنازير؛ لأن جيناتهم وخلايا أجسامهم انتشر بها داء المكر وفيروس الحيلة أسرع وأخطر من انتشار السرطان أو أي مرض قد تعرفه البشرية في مستقبلها. أهانوا وأذلوا أنفسهم وصار دينهم خداعا واتباعا وانقيادا للهوى، فكانت العقوبة التي تدل على أن من أهان نفسه بالحيلة فقد عق ذاته وأهان نفسه. نعوذ بالله من كل طاعة للهوى.