حلقات يومية يكتبها القاضـي محمـد الباشـق / لا ميديا -
الرحمة في الإحسان باعث عليه، ويكفي أن نفهم أن الله سبحانه وتعالى وصف نفسه بالرحمة، وهي اسم لله وصفة اسم ورد بعده صيغتا الرحمن والرحيم، وهي مفتتح القرآن في البسملة، وآية في عدد من سور القرآن الكريم، كما هي في الفاتحة آية «الرحمن الرحيم»، وصفة لله فهو أرحم الراحمين وخير الراحمين وذو الرحمة الواسعة، وفي الحديث الصحيح: «لا تنزع الرحمة إلا من شقي»، وحديث آخر: «الراحمون يرحمهم الرحمن». وكم من موقف لعبد أسرف على نفسه وفرط في جنب الله كثيرا نال المنقلب الكريم والخاتمة الحسنة، لأنه رحيم بخلق الله، فتتهيأ لمن حلت الرحمة شغاف قلبه واستقرت في حنايا نفسه وحركت ضميره وكانت حاله، ماكثة ساكنة في أحاسيسه ووجدانه، أدنى موقف إنساني يؤثر فيه، فلا يتبلد أمام دمعة يتيم، ولا يتجمد أمام موقف حزين، ولا يعرض عن محروم، ولا يرضى بآهات وأنات مظلوم، يرحم بني جنسه من البشر، بل ويرحم مخلوقات الله من حيوان وطير، يشعر أن حزن فلان من الناس يؤلمه، وأن فرح وسرور فلان من الناس يسره، وحاشا لله ذي الرحمة الواسعة أن يحرم مَن يرحم خلق الله ويبذل من ماله بطيب نفس وسخاء يد، مِن جاهه ومعرفته وخبرته ما فيه فيضان رحمة بالخلق، وهو قبل ومع كل بذل، فإن البذل النفسي أسبق وأصدق، وإن لنا في صفات من يطعم في يوم ذي مسغبة متسعا لنعي أن وصف التواصي بالمرحمة إضافة إلى ما سبق من حديث مقتضب عن الرحمة فإن لها أثرا يجب الحديث عنه عند الحديث عن الإطعام، إنه الإكرام، فإن النفوس بفطرتها لا تقبل ولا ترضى بأي إطعام وأي بذل دون أن يكون سابقا له ومرافقا له، بل وتاليا له، الإكرام الذي هو التعامل بلا تعالٍ ولا منة ولا رياء، إكرام بوجه باش ولسان عذب وآداب وأخلاق، بلا تكلف ولا تصنُّع، بل مع الإطعام والبذل المادي فإن الإكرام الاحترام لإنسانية الإنسان واستشعار حميمية القرابة، نفس واحدة، فلا يغيب أبدا عن مشاعر المنفق أن هذا الذي أحسن إليه أخو «كلكم لآدم وآدم من تراب»، وأنه مستفيد، وأن المحسن يستفيد هنا وفي يوم يقوم الناس لرب العالمين، ولن نجد لفظا أعمق في معاني الإكرام ولا أوسع من لفظ: «تواصوا بالمرحمة».
كما أن منهج الاستمرار والثبات على هذه القيم والأخلاق دون أي ظهور وإظهار لتأثير الظروف الصحية أو الأحداث اليومية على نفسية وأخلاق المنفق من اللفظ القرآني الكريم: «وتواصوا بالصبر»، صبر جميل على الاستمرار والثبات على كل خلق كريم، وعلى كل عمل نبيل، فهو ينفق لله، فلا يضره أن جحد إنفاقه شخص، ولن يؤثر في نفسيته أي استفزاز، لأنه قد امتلأ بعظمة معاني الرحمة، ترغب نفسه دائما ويحن قلبه وتخشع جوارحه إلى رجاء أن يدخل في رحمة الله، وأن ينشر الله رحمته عليه، وأن يقسم الله له من رحمته أوفر الحظ وأجزل العطايا، وأن تصيبه رحمة من الله تغمره وتعمر قلبه وتتجلى على قالبه، ليكون ممن هم في رحمة الله خالدون، ويوقن أن سبيل نيل كل هذا النعيم المقيم أن يكون رحيما بخلق الله، ويكون مع هذا السلوك سجود القلب بدوام الدعاء: «ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا».
وهنا أذكر دعاء وابتهال أحد الصالحين كان يدعو بهذا الدعاء، فلنبتهل جميعا إخواني: «اللهم إني أسألك أن تسعني رحمتك، فإن لم تسعني رحمتك فإنه أعظم مصيبة، وقد أمرت كل صاحب مصيبة أن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، وأنا أقولها، وقد تفضلت سبحانك وبحمدك على من قالها أن تدخله في رحمتك، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة. اللهم إن لم أكن أهلا أن تصلني رحمتك فإن رحمتك أهل أن تصلني، لأنك أرحم الراحمين».
وإن لنيل الرحمة سببا ثالثا لا ينفصل عما سبق، ألا وهو أن تكون لكل محسن وفي حنايا نفس كل رحيم بخلق الله صلة متصلة ومحبة خالصة وود صادق وولاء منهمر لرسول الله، رحمة الله للعالمين. وهنا أعترف بأنني أشعر بالعجز عن كتابة ما ينبغي أن أكتبه بشأن تعلق القلوب بحب سيدنا ومولانا محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، صلاة الكمال والجمال والجلال، صلاة لا تُعد ولا تُحد، صلاة هي وسيلتنا إلى الله، وهي صلة لنا بسيدنا رسول الله، فأدخلنا ربنا في رحمتك، فقد توسلنا برحمتك للعالمين، يا أرحم الراحمين.
ورابع الأسباب: حب الآل وودهم وكل صالح ولي، وحب الخير لجميع الخلق، فقد تلقينا أعظم نبأ: «نبئ عبادي»، فقدمت الرحمة، فارحمنا رحمة نجد أنسها ونأنس بها.