«لا» 21 السياسي -
من الواضح أن الملف اليمني انتقل من «حجف» الابنة إلى حضن أمها، فمع عودة المبعوث الأمريكي إلى اليمن، تيم ليندركينغ، إلى المنطقة، فإن واشنطن -كما هو جلي مع خلو وفاض الوفد العماني من أي جديد في زيارته الأخيرة لصنعاء- استبعدت التفاهمات التي جرت بين صنعاء والرياض خلال لقاء رمضان الفائت، وإنها تسعى إلى التحكّم بمسار السلام وفقاً لمصالحها وأجندتها، وتشترط منذ مطلع العام الجاري أن يكون الحوار يمنياً - يمنياً، في محاولة منها لإبقاء المجال مفتوحاً لاستمرار الحرب والحصار، وهي التي وقفت حجر عثرة في طريق معالجة ملفّ المرتّبات.
وسبق لليندركينغ أن وصف مطالب صنعاء في هذا الشأن بأنها «متطرّفة وغير واقعية»، مقترحاً صرف مرتبات شرائح محدودة من الموظفين المدنيين، واستثناء العسكريين والعاملين في المجال الأمني، بدعوى أنهم مقاتلون من «أنصار الله». والشهر الماضي وصف صرف المرتبات بأنه «أمر شائك» في ظلّ الأزمة المالية التي تعانيها حكومة عدن، ليعود قبل أيام ويعدّ، في تصريح إلى صحيفة «الاتحاد» الإماراتية، هذا الملف «معقّداً».
وممّا يدل على ما تَقدّم، حديث المبعوث الأمريكي، فور وصوله إلى الرياض قبل أيام عن ضرورة وقف إطلاق النار وإطلاق الحوار بين اليمنيين، في ما يمثّل تساوقاً مع السردية السعودية، التي دائماً ما تركّز على أن الحرب يمنية - يمنية، وليست حرباً يشنّها التحالف السعودي - الإماراتي، المدعوم أمريكياً، ضدّ اليمن.
تقتضي المصلحة الأمريكية أن يظلّ جرح اليمن مفتوحاً، وهو ما يفسر سياسة الولايات المتحدة في ملف التفاوض؛ إذ تدأب على محاولة تجزئة الملفات، بحيث يتطلب كل ملف جهداً ووقتاً كبيرَين، ولا تسمح بالولوج مباشرة إلى الأمور الكلية، ليقينها أن وقف الحرب ورفع الحصار، والذهاب إلى مرحلة انتقالية مباشرة، لا يلائمان المشروع الأمريكي في اليمن، والذي يتكئ على بقاء الواقع في حالة مراوحة.
وعليه، فإن كل التحركات الدبلوماسية الحالية تهدف حصراً إلى إعادة إنتاج الهدنة التي لم تُنفَّذ بنودها أصلاً، الأمر الذي يجعل كلفتها موازية لكلفة الحرب، إن لم تكن أكثر.
وضمن استراتيجية أمريكا العدوانية المستمرة على اليمن، تتجه واشنطن إلى تعيين الدبلوماسية الأمريكية ستيفاني ويليامز نائبةً للمبعوث الأممي إلى اليمن، بدلاً من النائب الحالي، الفلسطيني معين شريم، المسؤول عن الملف الاقتصادي في مكتب المبعوث منذ تعيينه عام 2017، في محاولة لتعزيز دور المبعوث الأمريكي، تيموثي ليندركينغ، وتحديداً لناحية ربط أي حلول لملف المرتبات بالموافقة على شروط سياسية مؤداها مسار الحرب من عدوان خارجي إلى حرب أهلية داخلية.
في العموم ترتكز «استراتيجية الفوضى» الأمريكية في اليمن على اللجوء إلى شن معارك موضعية ومتتالية، تحقق بها الأهداف المرجوة دون الحاجة إلى التدخل العسكري.
تستشهد الكاتبة مريم السبلاني في توضيح تلك الاستراتيجية بقول الباحث في الكلية الحربية الأمريكية (بي إتش ليوتا)، عن أن «إحدى الطرق لقتل النمر هي تشتيت انتباهه من جهات مختلفة حتى يحاول الجَرِيْ في كلِّ اتجاه في وقت واحد».
وتقوم «خطة الإطباق» على صنعاء، التي تعتمدها واشنطن، على مسارين اثنين:
الأول: تعطيل جهود المفاوضات واستنزافها في المماطلة وتفريغها من مضمونها، عبر تجميد تنفيذ الاتفاقيات السابقة، والتي تم التفاهم على تفاصيلها كعملية تبادل الأسرى (الكل مقابل الكل)، وتحييد مناقشة الملفات الكبرى.
الثاني: إغراق صنعاء وبقية المحافظات -حتى تلك التي لا تقع تحت سيطرتها- بدوامة من الفوضى الداخلية، عبر استغلال ما أنتجه الحصار من أزمة إنسانية واقتصادية واجتماعية، وتوظيفها لإنتاج حالة من عدم الاستقرار الأمني، بعد استفزاز اليمنيين للنزول إلى الشوارع مطالبين بأدنى مقومات العيش الكريم.
والحال أن خطة الإجهاز على «النمر» قد بدأت، وقد تستمر إلى ما بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق نار شامل - مهما طال أجله، وهذا ما يرفع احتمالية عودة التصعيد، في ظل قناعة صنعاء بأن سماحها لمثل هذا المشروع أن يمر هو إغلاق الباب أمام أي فرصة للسلام.
بالنسبة للسعودية -وفقاً لوجهة نظر الصحفي حسين إبراهيم- فإن العقبة الأساسية أمامها لنيل ما تريد في اليمن -على افتراض حسن النية- تتمثل في التخريب الأمريكي – الإماراتي، الذي يمنعها من الاستجابة لمتطلبات الاتفاق مع صنعاء، والذي يضعها أمام خيارين كلاهما، مُرّ: الأول هو: الخروج من تحالف الحرب، والتصرف بمعزل عن الرغبة الأمريكية، وهذا إذا حصل سيكون أكبر تحدٍّ لواشنطن منذ إقامة العلاقات السعودية - الأمريكية قبل ثمانين عاماً، ويتجاوز بكثير الصد السعودي للأمريكيين المتمثل في عدم تلبية مطالبهم النفطية وفي تطوير العلاقات مع الصين وروسيا؛ والثاني هو: البقاء في التحالف وعدم تقديم ما يلزم للتوصل إلى سلام، وبالتالي جعل صنعاء في حِل من التزاماتها، ثم العودة إلى الحرب وإلى القصف شبه اليومي للأراضي السعودية، والتي سيعاود حكامها عض أصابع الندم مجدداً حين لا ينفع ندم السيف المكسور وهو يقطر بالدم قصفاً من بعد قصف ومصفاةً تلو مصفاة.