«لا» 21 السياسي -
«إن أشدّ ما أغاظ واشنطن وعُصبَتها قلبُ قوة مقاتلة «سنيّة» المائدة على ترتيباتها الإقليمية، مناقضةً بذلك طقس «الاعتدال السنّي» الرسمي المتحالف مع «إسرائيل»، بل وزاد ضغثاً على إبالة نوعٌ من ائتلاف لها مع طقس «شيعي» ممانع في الإقليم. وتينك لعمري من النواهي المحرّمة لدى واشنطن استحقّت عندها كل ضير للخارجين على الناموس، وفي الطليعة «قسّام» حماس». هكذا هي إحدى خلاصات كمال خلف الطويل، الكاتب والمفكر العربي، عن حدث/ ملحمة 7 تشرين الأول/ أكتوبر، والتي ضمنها في افتتاحيته المعنونة بـ»حربٌ قُدّت من بشر» لعدد نيسان/ أبريل من مجلة «المستقبل العربي». وفي الخلاصة ذاتها، وإن بتلخيصٍ أمتع وبعدٍ أوسع وعمقٍ أحدّ وأشدّ، ينثر الشاعر والصحفي الكبير صلاح الدكاك قوافيه صواريخ بالستـ/ شعرية على رؤوس الأشهاد والشهود ليُدهش الجمع والجميع - كالعادة، صارخاً: «المجد للروافض»:
لقد فَجَرَتْ صهاينةُ اليهودِ
فأين «عواصفُ الحزم» السعودي؟!

وأين «خليفة اسطنبول» ولَّى
و«أرْطُغْرُلُّ» حمَّالُ الزُّرُودِ؟!
أما من «سُنَّةٌ» تَنضو سِناناً
لنصرة غزَّةٍ، أو مِن «أسُودِ»؟!
تَبرقع «طارقٌ» بخِمار سلمى
وصار «تَوكَّلاً»، «عبدُ المجيدِ»!
وسوأةُ «صعترٍ» أضحت نقاباً
للحيته الخضيبةِ بالصديدِ
و«جمهوريةُ النجديِّ» أرْخَتْ
سراويلاً توارب جُحر دودِ
«أسُود السُّنّة» انقلبوا نعاجاً
مُذَلَّلةً لقطعان القرودِ
فلا إخونجُها لبَّوا «حماساً»
ولا «حَمَدٌ» تَصَدَّقَ بالثريدِ
زئيرُ «جزيرةِ» الزُّعران أمسى
مواءً والهريرُ بلا رعيدِ
خبت نيران «مشعلُها» وخرَّتْ
بـ»خالدِها» خيولُ ابن الوليدِ
***
فهل نفرت سوى خيلِ «ابن بدرٍ»
لغزة، بالشوافع والزيودِ؟!
وهل صَدَقَتْ سوى الأنصار وثباً
ووفَّتْ بالوعود وبالوعيدِ؟!
مرَجْنا البحر بـ«الهنديِّ» قُربى
لعينيها وأُبْنا بالصُّيودِ
وشرَّعنا صواريخَ المنايا
لأمريكا مقامعَ من حديدِ
وهل نفرت سوى لبنانِ «نصرٍ»
وأشعلت «الجنوبَ» بلا حدودِ؟!
وهل إلا عراقُ الحشد لبَّى
وشامُ الأُسْدِ أو يمنُ الصمودِ؟!
وطهرانُ التي حصرت عقوداً
بإرجافِ الوهابيِّ القعيدِ؟!
أولئك هم رجالُ الفتح حقاً
وللأقصى أولو البأس الشديدِ

لا «الطويل» ولا «الدكاك» ولا أنا من ينظر وينظّر للأمر من خُرم إبرة الطائفية، أو ينفخ في عروق منتفخي أوداج الـ«دي إن إيه» المُندلقين ديداناً من حاشية دم العصبويات إلى متن لحم الناس وعظم الأرض. لكنه التوصيف للحالة والتشريح للحال ما يجعل ما ورد أعلاه أحاديث موضوعية لا موضوعة لا يجوز فيها ومعها التعديل مع العدل أو التجريح مع حسن الظن. وأنا أقرأ ما سبق تذكرت تساؤلاتي البديهية عن صدقية ومصداقية «الأرخنة» المثخنة انحيازاً وخيانات أمانة والواصلة إلينا من خزانات الكتب الرسمية، وهي التساؤلات التي تكثف حضورها غياب إجابات، وأنا أتابع الحلقات الأولى من المسلسل المصري الخرافي (من الخرافة والتحريف والتخريف) «الحشاشين» (كتابة عبدالرحيم كمال، وإخراج بيتر ميمي، وبطولة كريم عبدالعزيز، وإنتاج الشركة المتحدة)، وهو المسلسل الذي بات كل من يحاول نقده وانتقاده عرضةً لعضاتٍ قاتلة من أفواه وأقلام الشوفينية المصرية.
تساؤلات وأسئلة تواردت خواطر إجاباتها لاحقاً مع قراءتين وحدث تعالقت ببعضها البعض وسأبدأ بالحدث. الاعتداء الصهيوني الأخير على القسم القنصلي في السفارة الإيرانية في دمشق، واستشهاد وإصابة عدد من الدبلوماسيين والعسكريين الإيرانيين، هو الحدث الذي أعاد لغة الشماتة إلى أفواه الصهاينة العرب وأرجع -كالعادة- اجترارهم للفشل في لصق تلك الشماتة بإيران إلى اتهامها في الوقت نفسه بالمتاجرة بالقضية الفلسطينية. لا منطق هنا حتى نواجهه بالتفكيك؛ لكنه هراء ندفع ثمن سماعه -ليل نهار ومنذ عقود وما بعد سقوط الشاه- صداعاً يريدونه أسطوانة حشاشين مشروخة أخرى إنما محدثة.
إنها متاجرة إذن، فـ»تخيّلوا معي حال إيران لو أنها تخلّت عن «المتاجرة» بالقضيّة! عندها، تزول العقوبات ويُرحَّب بالمسؤولين الإيرانيّين في عواصم الغرب وستفتح مصارف الغرب خزائنها لإيران. لو تخلّت إيران عن القضيّة، ستصبح (كما كان الشاه من قبلها) حليفاً وثيقاً ومعتمداً لدول الخليج، وقد تتخلّى بعض دول الخليج عن جزر وأراضٍ تقديراً لتخلّيها عن القضيّة. إنّ دعم إيران للقضيّة يحرج كل الأنظمة العربيّة، لأنه يجعلها تظهر بمظهر المتخاذل المتقاعس. لو تخلّت إيران عن القضيّة، تدخل في النادي العربي، وقد يُفرد لها مقعد في الجامعة العربيّة إلى جانب مقعد «إسرائيل» (عندما يصبح علنيّاً). المتاجرة تكون بهدف الربح... إيران تدفع أثماناً باهظة لدعمها وتسليحها للمقاومة. أوصاف الإرهاب والمروق ليست إلا بسبب دعم إيران للقضيّة. قارنوا الاحترام الذي كان الشاه يحظى به في دول الغرب والخليج! هو كان يتجاهل القضيّة الفلسطينيّة لأنّ ذلك كان مربحاً له. المتاجرة بالقضيّة تكون عبر إهمالها ومحاربتها، على طريقة الأنظمة العربيّة: هم باعوها في أسواق الغرب كي يكسبوا رضى وموافقة وتمويلاً. إيران اليوم تعاني بسبب موقفها من فلسطين... وإذا كان دعم إيران متاجرة، فليتاجِر العرب». هكذا يرد أسعد أبو خليل على ترهات الخمس وأربعين سنة الماضية. وقس على ذلك ما فعله مسلسل «الحشاشين» مع حسن الصباح، والإسماعيلية النزارية، قبل أقل من ألف عام بقليل!
ذلك الحدث. أما القراءتان فالأولى للكاتب عبدالله السناوي من «الشروق» المصرية (وهي بالمناسبة قراءة وملامسة حذرة جداً لـ«الحشاشين»، مسلسلاً وحكاية) ويقول فيها: «التاريخ بحوادثه وصراعاته وتناقضات أبطاله مادة تراجيدية ثرية؛ غير أن الاقتراب منه بالدراما أقرب إلى مشي فوق ألغام عندما تتضاد المصالح، أو تغيب القواعد. الاستلهام غير التاريخ؛ لكن هناك قواعد لا يصح تجاوزها، أهمها أن يكون هناك تدقيق في الحوادث الرئيسية دون وقوع في فخ المباشرة، وإلا كانت الدراما من أعمال الدعاية. من حق المؤلف أن تكون له قراءته الخاصة، شرط ألا يتجاوز ما هو ثابت ومؤكد من وقائع، وإلا كان ذلك تزييفا للحقيقة التاريخية».
حين أمر الصبَّاح بقتل ولده الحسين قصاصاً لقتل الأخير أحد أتباعه زعم مؤلف المسلسل (قارئا للنوايا لا الأفعال) أن ذلك أمر باطني أراد به الصبّاح كسب المزيد من الأتباع وليس تحقيق العدالة.
يضيف السناوي: «الكتابة التاريخية ليست حصصا في الإنشاء الدعائي، شخصيات مسطحة بلا أبعاد إنسانية ووقائع توظف حقائقها لمقتضيات المصالح وتسويات الحسابات».
في مشهد قتل ابن الملك السلجوقي ملك شاه 800 من النزارية في أصفهان جعل المخرج من ذلك مشهد فلاش باك، وإن عكسياً لأحداث ميدان رابعة عام 2013.
وسأختم بقراءة أخرى لبعض ما سطره المؤرخ رشيد وحتي في «الأخبار» اللبنانية عن الموضوع ذاته، وأقتبس:
«ليس مسلسل «الحشاشين» الأول الذي يشوّه صورة قوى مهمَّشة ثائرة على بطش الدول المركزية واستبدادها. الصراعات السياسية والعقائدية التي شهدتها القرون الوسطى، ما زالت تجد لها صدى ووقعاً دموياً في فترتنا المعاصرة، بدايةً من الثورة الإيرانيَّة، مروراً بالنقاط الملتهبة في إيران والعراق وسورية وتركيا وأفغانستان وباكستان ومصر، وانتهاءً بالحراكات الشعبية في العام 2011، التي دخلت عليها تنظيمات سلفية جهادية وأجهزة استخبارات غربية وأنظمة وقيادات عسكرية حليفة للغرب الاستعماري»، «سننحاز لقيم التمرد على الاستبداد ونصرة مهزومي التاريخ. كما يفترض بالإنتاجات التاريخية، ابنة التفكير النقدي أولاً، قبل أن تكون آلة دعائية، أن تنصف مهزومي التاريخ... فالسينما الحقيقية تنتصر لمهمَّشي التاريخ ومهزوميه. لكن يبدو أنَّ مسلسل «الحشاشين» يتخذ منحى مخالِفاً، ويطلق العنان للتخييل المغرِض بدل التمسك بالتدقيق في الأحداث التاريخية... أمَّا في ما يخص اتهام «الحشاشين» بتنفيذ عمليات اغتيال، فهو اتهام يتناسى مروِّجوه أنَّ مدة القرون الوسطى في المشرق كانت من بين أكبر الحقب دمويةً في تناحر الممالك والفرق والأعراق، إضافة إلى تطاحن المشرقيين والصليبيين. قبل أن يقوم الإسماعيليون النزاريون باغتيال نظام الملك، مارس الأخير التنكيلَ بهم وتصفيتهم بالمئات. الفارق بين قَتل وقتل، يقوم فقط على أساس أنَّ الدولة المركزية تحتكر العنف وتمارسه في إطار مؤسساتي يزيد من شرعنته المؤرخون الرسميون، بينما الفرق الهامشية الممهدة لثورتها بالعنف بعيداً من مركز الدولة تفتقد إلى هذه الشرعية في ممارسة العنف والاقتصاص لمظلوميها ورفع المظالم عن الشعوب. بمقاييس اليوم: حركة «حماس» تمارس «الإرهاب»، والكيان المؤقَّت «يدافع عن نفسه»».
«في الخلاصة، عندما وجَّه رئيس الوزراء الباكستاني السابق عمران خان انتقادات إلى الأميركيين، في محاولة لوضع باكستان على مسار استقلال القرار السياسي والقطع مع التبعية الاقتصادية، انبرى لإجهاض هذا المشروع الأميركيون وتابِعوهم من إسلاميين وعسكر وطغمة مالية. هو التحالف نفسه تقريباً، وهو مجتمِعٌ على تشويه صفحة من تراثنا العربي - الإسلامي: رحَّالة غربيون، مستكشِفون جغرافيون ممهِّدون للاستعمار، صليبيون، سلفيون، طرق صوفية، وأصناف أخرى من رجال دين رهن إشارة العسكر والغرب، رأسمال طفيلي... لصنع مسلسل يلفق أحداثاً بتصفية الحسابات مع خصمٍ قديم ويُسْتَعْمَل أداةً لتصفية الحسابات مع خصم الحاضر».
إذن هذا هو المبتغى: أنصار الله وحزب الله والحشد وسورية وإيران «إرهابيون»، والكيان الصهيوني وأمريكا «مدافعون»، وأدواتهما من حكام «السُّنّة» «معتدلون»، أما القسّام وسرايا القدس فمتمردون على أمريكا ومنشقّون عن «السُّنّة والجماعة»!!!
خواتيمكم مباركة وعيدكم سعيد.