دليل التعامل مع ترامب
- تم النشر بواسطة «لا» 21 السياسي

«لا» 21 السياسي -
ليس في الأمر مبالغة إن افترضنا أن ترامب «ظاهرة سياسية «، فهو شخصية قادمة من خارج المرجعيات السياسية التقليدية، وهو الأقل اكتراثاً «بالمدرسية السياسية»، فبين نظرية توماس كارليل حول «البطل التاريخي» الذي يرى في نفسه ويراه مجتمعه كذلك أنه يشكل نقطة تحول إيجابي لمجتمعه، وبين منظور براغماتية جون ديوي بأن وجود الله مرتبط بمدى منفعته. وبين مفهوم المؤسسة بتعريف الكاتب البريطاني هنري فيرلي يمكننا أن نتصور دليلاً أولياً لكيفية فهم الرئيس الأمريكي ترامب.
إن شعار «إعادة عظمة أمريكا» هو مؤشر إلى الدور التاريخي الذي اختطه ترامب لنفسه، واعتباره الربح المالي والاقتصادي بالمعنى الدقيق مؤشراً إلى براغماتيته، ثم إنه لا ينظر إلى الولايات المتحدة إلا كـ«شركة» (مؤسسة) يجب أن تتمحور قوانينها وقواعدها الناظمة حول أنجع الأساليب لتحقيق الغاية المنشودة، وهي الربح، والربح قبل أي معيار آخر.
إن شخصية «مدير الشركة الخاصة»، التي قضى ترامب عمره كله فيها، هي بؤرة التحليل الأنسب لفهم سلوكه السياسي، فهو لا يقيس النتائج من باب القيم (القانون والديمقراطية وحقوق الإنسان... الخ من شعارات الرؤساء السابقين، بل هو الأقل بين جميع الرؤساء الأمريكيين إشارة لمثل هذه المفاهيم)، ولا هو معني بالزهو المعنوي أو الإثراء الفكري. إن معياره المركزي الذي تربى عليه هو «الربح» بالمعنى الاقتصادي.
ويكفي النظر في مراجع ثلاثة لفهم هذه الشخصية: أولا تقرير علماء النفس الأمريكيين (35 عالما)، ثم كتاباته حول نفسه ونشاطاته التجارية والعقارية بخاصة (The Art of The Deal) الصادر عام 1987 والذي يحدد فيه القواعد الإحدى عشرة التي وضعها للنجاح، مع تركيزه على السيناريوهات الأسوأ، ولعل تكرار تعبير (Winning Again) الذي يتكرر في كتابه (Crippled America:How to make America Great Again) دليل على جوهر منظومته القيمية، بل إنه يقول في كتابه هذا حرفيا: (my business expertise can be Translated into Government Success)، أي أن خبرته في عالم الشركات يمكن ترجمتها لنجاح حكومي. وأزعم أن كل ما قاله ترامب في خطاب القسم الأخير هو تكرار يكاد أن يكون حرفياً من هذا الكتاب، بخاصة الصفحات 33- 45، حول الصين والمكسيك والعراق...الخ.
إن ترامب مسكون بشخصية رئيس الشركة الخاصة. ومعروف أن صاحب الشركة الخاصة لا يهمه إلا الربح، ومن يخالفه من موظفيه سيطرده؛ فترامب كان خلال ولايته الأولى هو صاحب أكبر تغيير في تاريخ الرؤساء الأمريكيين في قيادات الهيئات الأمريكية، وهو في ذلك قريب من شخصية ريغان.
أما الرئيس الأمريكي الوحيد الذي يتوارى في العقل الباطن لترامب فهو الرئيس الخامس والعشرين، وليم ماكينلي؛ ولكن ما الذي يعجبه في ماكينلي؟ إنه كما قال ترامب في خطابه «أثرى أمريكا بالتعرفات الجمركية»، فرغم أن الرئيس ماكينلي قَلَّ أن يُشار له في الدراسات السياسية الأمريكية، إلا أن ترامب هائم به لأنه رآه من زاوية «الجمارك» التي يشحذ هو الآن سيفها على الصين وكندا وغيرهما. كما أن ترامب لا يختلف كثيرا في نزعة التوسع عن الرئيس الأمريكي الحادي عشر، جيمس بولاك، الذي ضم تكساس وذهب للحرب مع المكسيك، بل ورفع سقف تشنج سياسته مع بريطانيا إلى الحد الأقصى. كما يسعى ترامب لتوتر العلاقة مع حلفائه في الناتو وكندا.
إن الرئيس ترامب (مدير الشركة المعني فقط بالربح) لا يهمه في الشرق الأوسط كم قُتل من الفلسطينيين في غزة، أو إلى أين تسير سورية بحجاب أو عارية، أو أن تنسحب «إسرائيل» أو لا تنسحب، بخاصة أنه لم يعد بحاجة إلى مساندة من اللوبي اليهودي إلا بمقدار انغماسهم في مشاريع تعظيم أرباحه، أو تبهت صورة محور المقاومة أو تزهو... إنه معنيّ بالسوق الشرق الأوسطية من حيث حجم تجارته وفائض تجارته مع المنطقة، ومعنيّ باستثماراته واحتياطي النقد فيه وتضييق السوق على السلع المنافسة للمنتجات الأمريكية. وترامب لديه قناعة كررها مرات عدة؛ ولكنه كان الأكثر وضوحاً في سرديته عن إعلان ضم القدس واعتبارها عاصمة أبدية لـ«إسرائيل» وكيف حذره المستشارون والزعماء من ردات فعل كبيرة، لكنه راجعهم بعد القرار قائلاً لهم: أرأيتم؟! لم يحدث أي شيء! إن كل ما يملكونه هو «شجب وأدان واستنكر وأبدى أسفه!».
ذلك يعني أن ترامب لا يرى الشرق الأوسط إلا بقرة حلوباً، ولن يبدي أي سخاء مع دول حزام الفقر فيه، ولا أتفاجأ إذا قلص المساعدات لفقراء الشرق الأوسط، أو طلب من أثرياء المنطقة مساعدة فقرائها مقابل أن يحصل على مكاسب تخدم توسيع مشاريعه في دول حزام الفقر. لقد ورد في تقرير علماء النفس أن ترامب لا يتورع عن الابتزاز إلى أقصى درجاته إذا شعر أنه في وضع يمكنه من ذلك؛ ولكنه لا يرى ضيراً في أن يواري رعونته إذا رأى في ذلك مكسباً، فهو يتمسكن ليتمكن.
ذلك يعني أن النهب للخليج قادم، وأنه قد يطلب منه رفع الجمارك بشكل كبير على السلع الصينية لتعديل الخلل التجاري مع الولايات المتحدة، والذي طالب بأن يكون له حصة في ريع الحج، فلماذا لا يطلب بعضاً من ريع قناة السويس بحجة أن أمريكا ضربت أنصار الله لوقف التضييق على التجارة البحرية؟! وقد يطلب مزيداً من الثمن لوجود قواعده في الخليج لحماية أنظمته السياسية، فهاهو يطلب من أوروبا مزيداً من تخفيف أعباء أمريكا في نفقات الناتو.
ويبدو أن المؤسسة الحاكمة ستغض الطرف عن أي تصرف للرئيس طالما أن ريع تصرفاته يصب في جيب المؤسسة. فشركات إنتاج السلاح ومجمعها (Military industrial complex) ستسانده إذا زاد الطلب على السلاح الأمريكي، بخاصة من دول الخليج، وشركات البترول والمصانع المدنية ستسانده إذا تمكن من خفض العجز التجاري لأمريكا، وستسانده قوى الإنتاج الصناعي إذا خفف شروط الإنتاج بعد الانسحاب من اتفاقية باريس... وهكذا يتكامل المشهد بين كارليل وجون ديوي والمؤسسة.
لكن تبقى البجعة السوداء حاضرة، فالربح غير المنضبط أو «الرأسمالية المتوحشة» قد تحمل في أحشائها نقيضها، فالرصاصة التي لامست أذن ترامب في المرة السابقة، قد تكون أكثر دقة في المرة القادمة... ربما!
وليد عبد الحي
باحث ومفكر مصري
المصدر «لا» 21 السياسي