مقطوعة حوّلت اليأس من الدعـم الحكومي إلى مبادرة ملهمة.. آخر عمالقة الفرقة الموسيقية الوطنية يعزف لـ«لا» أنغام الصمود
- تم النشر بواسطة مارش الحسام / لا ميديا

مارش الحسام / لا ميديا -
بين أنقاض واقع فني قاسٍ في اليمن، يبرز اسم الموسيقار عبدالله الدبعي، آخر عمالقة فرقة موسيقية تأسست عام 1975، ليجسّد وحده معاني الصمود والتفاني في سبيل الفن، وذلك بالعمل على تدريس فن العزف على الآلات الموسيقية بالمجان للعشرات من الشباب الهواة الذين يرون في العزف وتعلمه حلماً كان بعيد المنال.
لا تقتصر التحديات التي يواجهها هذا الرجل على غياب الإمكانات وشح الآلات الموسيقية اللازمة للتدريب، بل تتجاوزها لتصل إلى مواجهة تشدد يرى في الموسيقى «حراماً»، وعادات وتقاليد تعتبرها «عيباً»، لكن ورغم كل ذلك، يواصل الدبعي قطع سبعة كيلومترات على قدميه يومياً لتدريب الشباب بلا مقابل، مؤمناً بأن هدفه الأسمى هو نقل خبرته لخدمة وطنه.. قصة كفاح ملهمة في ظروف استثنائية، نستعرض تفاصيلها في هذا التقرير الحواري:
سيرة ومسيرة
عبدالله الدبعي ليس مجرد عازف كمان مشهور، وإنما موسيقي بامتياز، يجيد العزف على مختلف الآلات الموسيقية، ويحمل ليسانس شريعة وقانون، ودبلوما من المعهد الموسيقي، وحاصل على دورات موسيقية متخصصة على أيدي مدربين كوريين ومصريين، وعمل مدرساً للموسيقى في مدرسة الموسيقى العسكرية، وكان المدرس اليمني الوحيد في المدرسة التي كان جل مدرسيها من الجنسية المصرية، ويتقلد حالياً منصب مدير الدراسات الموسيقية ومركز التراث الموسيقي بوزارة الثقافة.
كما سبق للدبعي أن عمل مديرا للمركز الثقافي بصنعاء لثلاث سنوات، ورغم أنها فترة بسيطة إلا أنها كانت كبيرة بإنجازاتها، إذ ساهم خلالها بإنشاء صالة كبار الضيوف ومسرح الطفل والمسرح الشعبي، كما أشرف على بناء مراكز ثقافية في عدة محافظات كالمحويت والمهرة وشبوة.
من حلم إلى حقيقة
وحاول الدبعي، وفي أكثر من مناسبة، إقامة معهد موسيقي متكامل لتدريس جميع أنواع الفنون، إلا أن كل محاولاته كانت تصطدم برفض حكومي، حتى بعد تخليه عن منصبه كمدير للمركز الثقافي، لم يتخل عن حلمه في تأسيس معهد موسيقي متكامل واستمر في المطالبة والمتابعة دون جدوى.
يقول الموسيقي الدبعي: «إقامة معهد موسيقي لتدريس جميع أنواع الفنون كان حلما يراودني طوال 27 سنة من المتابعة والمطالبة التي كانت تُقابل بتجاهل الحكومة التي لم تستجب لأي من مطالبي، ولم يعبرني أحد».
ويضيف: «بعد أن يئست من المطالبة، حاولت إقناعهم بإطلاق مبادرتي الشخصية لتدريب الشباب على الموسيقى، لكن لم يتح لي إطلاقها في ظل الحكومات السابقة، فيما وزير الثقافة الأسبق بحكومة صنعاء أحمد الكبسي أتاح المجال أمامي».
واليوم وبعد ثمان سنوات من إطلاق مبادرته يطمح الموسيقى الحاصل على شهادتين دولية وعربية في تشكيل فرقة أوركسترا وطنية محترفة بعد تلاشي واندثار الفرقة الموسيقية الوطنية التي كان الدبعي أحد مؤسسيها، وكانت حينها تضم 27 عازفاً، لم يتبق منهم أحد غيره.
قسوة مادية ومجتمعية
في حديثه لصحيفة «لا» يصف الدبعي واقع الفرقة الموسيقية التي كان جزءاً منها: «بعضهم توفوا، والبعض الآخر ترك الفرقة بسبب الظروف المحبطة في بلادنا والتي لا تشجع ولا تهتم بالفن، بل إن هناك نظرة دونية للفنان».
ويضيف بحسرة: «بينما في الدول الخارجية يعتبر الفنان سفير بلده وله اعتبارات وامتيازات، ويعتبر واجهة البلاد وممثلها، فالآخرون يتعرفون على البلد من خلال فنه وفنانيه».
كما تطرق في الحديث عن الدوافع الأخرى وراء هذه الخطوة أو المبادرة، حيث قال: «ليس لدينا في اليمن فرقة موسيقية واحدة، وكان الكثير من الشباب والموهوبين يطلبون مني تعليمهم الموسيقى والتدريب على العزف. كنت أتحسر لأني لا أستطيع مساعدتهم، أشاهد مواهب بحاجة إلى صقل ولا أستطيع مساعدتها بسبب أنه لا يوجد معهد موسيقي في اليمن، ولم تتح لي الحكومات السابقة إطلاق هذه المبادرة، والتناقض الصارخ هو أن هناك حماسا واهتماما من الشباب لتعلم الموسيقى بعكس الحكومة تماماً».
الإقبال كبير والآلات قليلة
بعد حصوله على الضوء الأخضر لإطلاق مبادرته، من قبل وزير الثقافة السابق عبدالله الكبسي، شرع الدبعي بتجميع الآلات الموسيقية مثل آلات الغيتار والكمان والعود المحدودة التي كان يحتفظ بها في منزله، وبدأ في تنفيذ هذه المهمة في إحدى غرف المركز الثقافي بصنعاء، يقول الدبعي: «كان الإقبال مذهلاً، فقد التحق 160 طالباً وطالبة، وهو عدد فاق كل التوقعات مقارنة بعدد الآلات المتاحة للتدريب، واجهت صعوبة كبيرة في التدريب بسبب العجز في الآلات، وبسبب الإجهاد البدني في تدريب كل هذا العدد».
وتابع: «رغم كل التحديات والصعوبات، كان حماس الطلاب هو الوقود الذي يشحن طاقتي، الطلاب كانوا متحمسين وبعضهم اضطر إلى شراء آلة عزف على حسابه، فخلال 6 أشهر فقط، تمكن 60 شاباً وشابة من الإلمام بالمقامات وإتقان أساسيات العزف، ومن حسن الحظ أن الكثير منهم اشتروا آلاتهم الخاصة، وطلبت منهم إكمال التدريب في المنزل وإتاحة الفرصة للآخرين، والشيء الملفت أن أغلب الملتحقين بالدورات كان من فئة الشابات».
حماس شبابي وتجاهل حكومي
على النقيض من هذا الحماس الشبابي، يقف الإهمال الحكومي الصارخ، يقول الدبعي: «الجانب الحكومي متجاهل لنا تماماً رغم كثرة مطالبنا ومناشداتنا، رغم تخرج العديد من الدفع ولكننا بالنسبة لهم كأننا غير موجودين ولا نعمل شيئا، لم نلقَ أي استجابة حكومية، وكأننا غير موجودين على مدى 8 سنوات، الاستثناء الوحيد كان لفتة من وزير الثقافة السابق الكبسي، حين زار المركز وشاهد كثرة المتدربين وقلة الآلات الموسيقية، حيث كان أغلبية المتدربين ينتظرون أدوارهم للعزف، فقام بدعمي بعدد من آلات الكمان والغيتار والعود (8 كمانات، و4 غيتارات وعودين)، ومازالت المشكلة قائمة لاسيما مع تزايد أعداد الراغبين بتعلم الموسيقى، بل إن كثيرا من الآلات صارت متهالكة».
تدريب على الآلات المتاحة
يقضي الدبعي مع طلابه 3 ساعات يوميا، باستثناء الجمعة، ويتناوب طلابه بالأدوار على العزف على الآلات؛ بمعدل 40 دقيقة في اليوم لكل متدرب. وتعتمد الدراسة في المعهد على الآلات المتوفرة، وهي في الغالب من منزل الدبعي، وتشمل الغيتار، والكمان، والعود، والأورج.
يقول المايسترو الدبعي: «يتم تدريب الطلاب بالعزف على الآلات الموسيقية الأربع المتاحة لدينا». مضيفا: «أما بقية الآلات فلا نمتلكها، حيث لانزال بلا آلة قانون، وعجزت عن توفيرها، ولي 6 سنوات أدور وأتابع الجهات من أجل توفير هذه الآلة دون جدوى، لو كانت مرتباتي غير متوقفة أسوة بموظفي الدولة، لكنت اشتريتها على حسابي الخاص دون أن أمد يدي إليهم، أنا موظف لي 41 سنة ومثلت اليمن داخليا وخارجيا، ولم يسبق أن طلبت مساعدة من أي جهة».
وتستغرق الدراسة في المعهد 3 سنوات، يحصل الطالب في نهايتها على دبلوم موسيقى. وتشمل المقررات المقامات الشرقية والغربية وتطبيقها على الآلات، ونصوص فيجاني الغنائية، ونفس المناهج التي درسها الدبعي على يد المدربين الكوريين والمصريين.
جهود في مهب الضياع
وفيما يخص عدد الدفع التي تخرجت من المعهد، رد بحسرة: «للأسف ليس هناك اهتمام ولا اعتبار حكومي تجاه الخريجين، وكل مخرجاتنا مصيرها الضياع، وكل دفعة تكرر سيناريو الضياع الذي لازم الدفعة التي سبقتها». متابعا: «الفرقة الموسيقية الوطنية التي قمت بتأهيلها وتدريبها على مدى 3 سنوات لتكون نواة لفرقة أوركسترا وطنية تمثل اليمن لم تجد من يستوعبها، وتلاشت وذهب أغلب أفرادها إلى الخليج وضاع جهدي هباء، هدفي هو أن أخدم بلدي، لكن ما حدث هو أني أجد نفسي أرفد دول الخليج بالكوادر الموسيقية».
واستطرد الدبعي: «خلال ثمان سنوات تخرجت من عندي عدد من الدفعات، ولو كانت الآلات متوفرة لتخرج أكثر من 200 موسيقي كل عام، لكن المشكلة الكبرى ستكمن في مصير هؤلاء الخريجين، مثلاً الدفعة الأولى، التي ضمت 60 طالباً وطالبة تأهلوا خلال 6 أشهر، وتلتها دفعة ثانية من 63 عازفاً وعازفة درسوا لأكثر من سنتين، وبعدها تخرجت الفرقة الموسيقية الوطنية المكونة من 37 فرداً، بعد حصولهم على دبلوم لمدة 3 سنوات، لتكون الفرقة الوطنية الرسمية لتمثل اليمن في الداخل والخارج، وكانت تضم 13 متخصصاً في الكمان و8 في العود، بالإضافة إلى عازفين على الغيتار والأورج، وكانت مرشحة لأن تحل محل الفرقة اليمنية السابقة التي اندثرت قبل ثلاثة عقود، لكنها للأسف اندثرت هي الأخرى، لأنها لم تجد الاهتمام والرعاية الحكومية، حيث ذهب أغلبهم إلى الخليج فيما اتجه البعض للغناء في الحفلات والأعراس، وحاليا، بصد تخريج دفعة جديدة من 18 موسيقياً، وأكثر ما يحزنني أنهم سيلاقون مصير أسلافهم».
تهديدات ومضايقة
لا تقتصر صعوبات الدبعي على قلة الإمكانيات والإهمال الحكومي، بل امتدت إلى ثقافة تشدد ترى في الموسيقى «حراماً»، وعادات وتقاليد تعتبرها «عيباً ونقيصة»، يقول: «تلقيت كثيرا من التهديدات وتعرضت لعديد من المضايقات، والتي تصل أحياناً إلى حد الاعتداء عليّ بالضرب، ومنها حادثة تعرضت فيها للضرب من قبل شخصين، مما أدى إلى كسر الآلة الموسيقية التي كانت معي».
ولفت الدبعي إلى أنه بعد إطلاق مبادرة تعليم الموسيقى تعرض للكثير من التهديدات، حيث تهجم عليه مسلحون أثناء تواجده في المركز الثقافي، وهددوه بالتصفية باعتبار أن الموسيقى حرام.
ورغم كل هذه التحديات، يواصل الدبعي مسيرته دون أي دعم مالي، وقال: «أمشي 7 كيلومترات يومياً لتدريس الطلاب بدون مقابل، ليس لدي أي دعم، والإقبال كبير، والآلات محدودة، والمخرجات لا تجد من يحتضنها أو يستوعبها».
المصدر مارش الحسام / لا ميديا