حين يتحول العالم الافتراضي إلى واقع نعيشه.. وسائل التواصل.. سلاح المعرفة أم فوضى العقول؟
- تم النشر بواسطة يسرية محمد / لا ميديا
يسر ية الشرقي / لا ميديا -
بين الحقيقة والخيال، بين العالم الحقيقي والافتراضي، وفي عالم أصبح كل شيء فيه متسارعاً يسرق سنوات العمر، شباب وأطفال غارقون بين صفحات وسائل التواصل، وعالم لا تستطيع أن تميز فيه بين ما هو حقيقي وبين الخيال والصناعة العامة، فاختفت الكتب والمقالات، وحل محلها مقاطع مصورة في كثير من الأحيان لا تمت للواقع بصلة، فصورت الحياة بطريقة مثالية تملأ العقول والأذهان بصورة لن تتحقق يوماً، وصرنا نسابق الزمان في العالم المتسارع، فتراجعت المسافات بين الناس، وتباعدت القلوب وتلاشت المشاعر الحقيقية.
الـ»سوشيال ميديا» أصبحت لغة العصر، تمنحنا الحرية؛ لكنها تسرق منا البساطة. تفتح لنا أبواباً للمعرفة؛ لكنها تغلق نوافذ التواصل الإنساني الحقيقي.
من يتحكم بالآخر؟!
وأنا أكتب هذه السطور، اجتاحني شعور كبير بالغرابة مما أكتب، وتساءلت كثيراً حول تفكير من سيقرأها، وهل ستكون محل اهتمام الناس؟! وهل ستجد أحرفي طريقها لقلوب أناس قد غرقوا في عالمهم الافتراضي؟! لكنني لم أستطع منع نفسي من الكتابة، فالـ»سوشيال ميديا» لم تعد مجرد وسيلة ترفيه أو تواصل كما بدأت في بداياتها البسيطة؛ لقد تحولت إلى عالمٍ موازٍ نعيش فيه كما نعيش في واقعنا: نضحك ونبكي، نتعلّم ونتعارف، نتخاصم ونتصادق.. خلف الشاشات الصغيرة، التي أصبحت نافذة كبرى على العالم. ويبقى السؤال: هل نحن من نتحكم في الـ»سوشيال ميديا»؟ أم أنها أصبحت تتحكم بنا وتعيد تشكيل وعينا وعلاقاتنا وطريقة تفكيرنا نحن وأطفالنا وشبابنا؟!
وللإجابة على هذا السؤال أجرينا استطلاعا لآراء الشارع اليمني، فكانت هذه الحصيلة.
تعارف ومآرب أخرى!
ماريا، شابة جامعية تدير صفحتها على «إنستغرام» لمشاركة محتوى تعليمي في هندسة الديكور، تقول بابتسامة واثقة: «السوشيال ميديا فتحت لي باباً للرزق وفرصة أن أكون معلمة وأنا ما زلت طالبة.. أحياناً أشعر أن هاتفي هو جامعتي المجانية».
كلماتها تدل على وعي كبير، وتؤكد أن الكثير من الأشياء في الحياة سلاح ذو حدين، ولها جانب مشرق.
هذا ما أكده أيضاً الشاب عماد الدين بقوله: «تعرفت على أصدقاء من بلدان مختلفة، تعلمت لغات جديدة مجاناً من خلال منصات رقمية وتطبيقات مجانية.. فلو استخدمنا السوشيال ميديا والتكنولوجيا الحديثة بشكل سليم وصحيح فيمكننا أن نصنع لأنفسنا مستقبلاً مختلفاً».
العديد من الشباب والشابات يحملون الفكر ذاته. كيف لا وهو الجيل الذي تربى وترعرع في ظل صخب الـ»سوشيال ميديا» والتطور العظيم للتكنولوجيا. فالجيل الجديد يرى في العالم الرقمي فرصة للتعبير عن الذات ومساحة للتطور العلمي والعملي، بل حتى لتأسيس مشاريع تجارية صغيرة، فهناك من يبيع منتجاته عبر الإنترنت، وهنالك من يسوّق موهبته ويشارك محتوى توعوياً أو فنياً.
وضع مخيف!
ولكن من جهة أخرى، وجدنا قصصاً وآراء توقظ فينا الوعي لنحاول تدارك ما قد يأتي من مشاكل يسببها هذا الكم الهائل من المدخلات عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا الحديثة.
«أم محمد» بدت ملامح القلق واضحة على وجهها وهي تقول: «لم أعد أعرف كيف أُربي أطفالي الثلاثة في هذا الزمن. كل ما أحاول أن أعلّمه لهم تهدمه فيديوهات قصيرة أو مؤثرون يقلدونهم. ابني الصغير يتحدث بعبارات لا أعرف من أين يسمعها، وفي أوقات كثيرة لا أفهمهم؛ أصبحت بيننا فجوة أكبر من الطبيعي، حين كنا صغاراً لم تكن موجودة هذه الفجوة بيننا وبين أهالينا. الآن الموضوع أصبح مخيفاً فعلاً».
أثر نفسي عميق
وتقول ندى، طالبة علم النفس، إن التأثير الأخطر ليس في المحتوى وحده، بل في طريقة تشكّل الوعي لدى الجيل الجديد.
وتستطرد: «الطفل اليوم لا يتعلم من والديه أو مدرسته فقط، بل ومن شاشة يفتحها ويجد خلفها عالماً أكبر منه، وهو تقريباً يجد العالم كله، دون رقابة وملاحظة كافية من الأهل، ومن هذا العالم تتشكل أفكار الطفل وقناعاته وحتى بعض العقد النفسية، من مقاطع عابرة، وصور في الغالب ليست حقيقية».
ريهام، طالبة الثانوية العامة، تقول: «أحياناً أشعر أن حياتي لا تكفي، أنني أقلّ من كل البنات، كلهن جميلات بشكل مبهر، أراهن فعلاً مثاليات على إنستغرام، وأنا لا أستطيع أن أكون مثلهن، وحياتي بلا قيمة أو معنى».
كلمات ريهام تختصر أزمة يعيشها كثير من المراهقين والمراهقات، وكل يوم يقارنون أنفسهم بصور مصطنعة، وهذا يترك أثراً نفسياً عميقاً لديهم، ويؤثر سلباً في ثقتهم بأنفسهم، وهنا تبدأ دائرة القلق، العزلة، وأحياناً الاكتئاب الصامت.
أطفال بين الحقيقة والخيال
«أم ليان» شاركتنا تجربتها مع ابنتها ذات السنوات الثماني، قائلة: «كل يوم أسمع بنتي تتكلم عن واحد من المشاهير الجدد، تقلد حركاته ونبرة صوته، وأحيانا تسأل والدها: لماذا لا تتكلم مثله يا بابا؟! أحسست أن الأمور خرجت عن السيطرة، فمنعتها من اليوتيوب، وحذفت متابعتها له، فكانت تبكي بشكل هستيري، وكأنني منعتها من شيء أساسي في حياتها، أو كأنها فقدت صديقاً حقيقياً».
مشكلة تربوية حقيقية
الأستاذ محمد الصغير يقول: «الأطفال يتأثرون بشدة بالرموز الرقمية، أو المؤثرين المشاهير، الذين أصبحوا قدوة أكثر من المعلمين في العصر الحالي، وهذه مشكلة تربوية حقيقية. لا بد من توعية الأهالي والأطفال بضرورة التمييز بين ما هو محتوى حقيق وهادف وبين الصناعة الإعلامية لزيادة المتابعة والكسب المادي فقط، خصوصاً أن هناك دراسات أظهرت أن متوسط استخدام الأطفال للهواتف الذكية تضاعف في السنوات الأخيرة، وأن الطفل في عمر عشر سنوات يقضي أحياناً أكثر من أربع ساعات يومياً أمام الهاتف وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا يؤثر على تركيزه وقدرته على التفاعل الاجتماعي الطبيعي».
الشباب بين صدمة الواقع وعالمهم الافتراضي
سمير، طالب في كلية الإعلام، يقول: «كل شيء في حياتنا نحب نشاركه في مواقع التواصل؛ أعراسنا، خرجاتنا.. وأصبحنا نقيس مستوى جمال الخرجة أو الصورة بعدد اللايكات والمشاركة للصورة أو الفعالية، وفعلا ما عاد أستمتع إلا إذا شاركت كل شيء تقريباً، وأشعر بضيق إذا نشرت شيئاً ولم يتفاعل معه الناس».
عن هذه الصدمة تحدث الشاب براء (20 عاماً) قائلاً: «علاقتي بالسوشيال ميديا قوية جداً، أقضي معظم وقتي في الإنستغرام والسناب، وأظل اتنقل بينهما ساعات طويلة. وحين أغلق الانترنت أو أنسى تلفوني في البيت أشعر بفراغ كبير وكأنني في العالم لوحدي».
ثقافة الظهور الرقمي أصبحت بديلة الوجود الحقيقي والمادي. هي ثقافة جديدة جعلت الكثير من الشباب يعيشون في صراع وسباق دائم مع الخوارزميات والمواقع والتطبيقات، وحتى في صراع بين الشباب أنفسهم من يحصد لايكات أكثر، أي أنه محبوب أكثر ويحاط باهتمام الناس أكثر. ويرى بعض علماء الاجتماع أن هذا النوع من الاستخدام المفرط يولد قلقاً خفياً؛ لأن الإنسان بطبعه يسعى للقبول الاجتماعي، وحين يتحول هذا القبول إلى أرقام وتعليقات يصبح الإحساس بالذات هشّاً ومؤقتاً.
وهنا يأتي السؤال: هل المشكلة حقاً في السوشيال ميديا نفسها؟
وبحسب بعض علماء الاجتماع والمراقبين فإن المشكلة ليست في مواقع التواصل بحد ذاتها، وإنما في طريقة استخدامها. فنحن اليوم لا نستطيع أن نعيش في عزلة عن العالم. فهذه الوسائل هي سيف ذو حدين، علينا أن نحمله بحكمة ومعرفة كاملة فنستفيد من كل ما يأتينا منه ونتخلص من كل ما قد يضر بمجتمعاتنا. المهم أن نعرف متى نوقف استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ونغلق الهاتف ونلتفت لحياتنا الواقعية.
ويؤكد المختصون أن الحل لا يكمن في المنع الكامل، بل في التوازن والوعي، فالمنع الكامل في زمن أصبحت فيه التكنولوجيا ركيزة أساسية هو نوع جديد من الجهل ويعتبر عزلة حقيقية، وسيجد الشباب والأطفال أنفسهم خارج الزمن. وفي المقابل فإن فتح الأبواب بدون حدود ووعي يتركهم عرضة لفوضى لا نهاية لها.
خيط رفيع بين الوعي والإدمان
أصبح الإدمان الرقمي واقعاً يؤرق الكثيرين ويلامس حكايات الكثيرين. وأعراضه تشابه إلى حد كبير إدمان المواد الكيميائية من حيث القلق والرغبة المستمرة في المتابعة والتحقق المستمر من الهاتف حتى أثناء تأدية المهام اليومية والاجتماعية، فيجد المدمن على مواقع التواصل الاجتماعي صعوبة بالغة في التركيز وأداء واجباته اليومية.
في المقابل، سمعنا الكثير من قصص النجاح لسيدات ورجال بدؤوا مشاريعهم من خلال هذه المنصات الرقمية. نماذج كثيرة استطاعت الاستفادة من المحتوى الجيد والمفيد، وخصوصاً المنصات التعليمية والتي أصبح بإمكانك من خلالها أن تتعلم لغة وثقافة جديدة والتعرف على حضارات وحياة لم يكن من السهل عليك الوصول إليها.
هنا يأتي الوعي الفردي والجماعي الذي يصنع الفارق بين المدمن والمستفيد من وسائل التواصل الاجتماعي.
وككل شيء في الحياة الحديثة تبقى السوشيال ميديا سلاحاً مزدوجاً للحياة الحديثة؛ فهي في الحقيقة اليد التي تمتد إلينا بالمعرفة والتواصل الجميل مع العالم الخارجي، وهي أيضاً الظلام الذي قد يحجب عنا رؤية عالمنا الحقيقي. وهنا يعود الخيار لمستوى وعيك وحقيقة نيتك من الاستخدام؛ فالسوشيال ميديا ليست عدواً ولا صديقاً، بل مرآة لوعينا، ولنا الحق أن نختار.










المصدر يسرية محمد / لا ميديا