هيثم خزعل

هيثـم خـزعـل / لا ميديا -


الوعي الجمعي بطبيعة الصراع مع "إسرائيل"
في الوعي الجمعي لشعوب المنطقة قدم الصراع مع "إسرائيل" بطرق مختلفة نستعرض أبرزها:
1 ـ بوصفه صراعا دينيا.
2 ـ بوصفه صراعا على أرض اغتصبها الصهاينة، أي كصراع قومي بين عرب و"إسرائيليين".
3 ـ كلتا النقطتين السابقتين معا، أي بوصفه صراعا قوميا - دينيا.
هذا الوعي بالصراع كان وعيا سياسيا أيديولوجيا.
أما طريقة الوعي المادي بالصراع التي يتبناها العديد من الرفاق التقدميين، والتي تستبطن فهم جوهر زرع الكيان الصهيوني في المنطقة كأداة في خدمة الاستعمار وإدامة مفاعيله، فهي تقوم على ثلاثية: التجزئة، الناطور، والمخفر.
تبرز "إسرائيل" في هذه الفلسفة كمخفر إمبريالي وظيفته إدامة تجزئة الجغرافيا والسوق والموارد ومنع كسر هذه المعادلة التي أرساها الاستعمار، وهي تنطلق من خلفيات أيديولوجية قومية عربية باعتبار العرب أكبر من تضرر بشكل مباشر من خلق الكيان الصهيوني.

"صفقة القرن"
تتيح المعلومات المنشورة عن الصفقة، تحديدا فيما خص مشروعات البنى التحتية في دول الطوق وفي فلسطين المحتلة، التعرف على جوهر هذه الصفقة أو فلسفتها إذا صح التعبير.
نتحدث هنا عن استثمارات بعشرات مليارات الدولارات في البنى التحتية (مرافئ وسكك حديد ومعابر حدودية ومحطات طاقة...)، أي عن استثمارات تهدف إلى إعادة صياغة الجغرافيا السياسية لدول الطوق من خلال تشبيكها مع "إسرائيل".
يضاف إلى هذه الصفقة منتدى غاز شرق المتوسط، الذي دشن شراكة استراتيجية بين مصر والأردن والسلطة الفلسطينية من جهة و"إسرائيل" من جهة أخرى فيما يتعلق بغاز شرق المتوسط وأنابيبه.

هذه الوقائع المستجدة، تجبرنا على إعادة تعريف "إسرائيل" بالنسبة لنا.
إذا سلمنا جدلا أن حرب تموز/ يوليو 2006 أنهت دور الكيان كمخفر إمبريالي وكاستثمار جيوسياسي للاستعمار، أي أنها وجهت ضربة كبيرة لفلسفة قيام هذا الكيان وأوقعته في أزمة وجودية، نصبح على يقين أن تراجع الهيمنة الأمريكية في العالم قد ضاعف حدة هذه الأزمة.
هنا نستطيع أن نفهم توقيت صفقة القرن بوصفها أشبه بعملية جراحية لزرع قلب اصطناعي في جسد دول الطوق والمنطقة عموما اسمه "إسرائيل".
"إسرائيل" التي فقدت وظيفتها الردعية باتت بحاجة إلى إعادة صياغة النظام الإقليمي برمته بما يمنحها شرعية للاستمرار. وإذا كان البعض يعول على وعي شعوب المنطقة في رفض الكيان الصهيوني من منطلق الثوابت العقائدية الدينية والسياسية، فإن إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للمنطقة وتشبيك هذه الجغرافيا بجغرافيا الكيان كفيلة مع الوقت بصوغ وعي جديد للشعوب يصبح فيه الوجود "الإسرائيلي" من المسلمات.

التطبيع الخليجي العلني مع "إسرائيل"
لا يشذ إعلان اتفاقية السلام بين الإمارات و"إسرائيل"، ولاحقاً البحرين، عما شرحناه سابقا من ناحية محاولة صياغة نظام إقليمي جديد يعطي مشروعية الاستمرار للكيان ويجعله قطب الرحى فيه؛ لكنه ومن منظور الجغرافيا السياسية يضيف إلى هذا الدور ميزات عديدة، كيف؟
في حال صحت الأخبار المتواترة عن تطبيع تدريجي لكامل الدول الخليجية مع الكيان، فسوف يكون مرفأ حيفا نافذة دول الخليج على المتوسط وأهم محطات استيرادها البحري من الدول الأوروبية. وسوف يكون تعزيز دور هذا المرفأ على حساب المرافئ السورية واللبنانية، وبالتالي فهو يوجه ضربة قاصمة لدور الكيان اللبناني بالتحديد. وإذا كانت سوريا رغم حصارها، قد حظيت بمظلة أمان استراتيجية إيرانية روسية تصعب ابتلاعها، فإن دور الكيان اللبناني الجديد كما يرد في الصفقة ليس إلا ملحقا أو تابعا للكيان الصهيوني، شأنه شأن سلطة رام الله أو الأردن.
الإمارات التي تعمل كمقاول جيوسياسي صغير عند الولايات المتحدة الأمريكية من خلال شركة موانئ دبي العالمية تسيطر اليوم على ميناء عدن وعدة جزر يمنية وتتولى رعاية المليشيات اليمنية التي تقاتل على الساحل في تعز والحديدة، كما تستثمر في موانئ دول أفريقية عدة، وقد يكون من نتائج تطبيع علاقاتها مع الكيان الصهيوني خلق شراكة بين هذه الموانئ والموانئ "الإسرائيلية" في ما يخدم ويعزز دور "إسرائيل" الباحثة عن ذرائع ومبررات استمرارها.
إذا كانت شروط استسلام مصر وتطويقها قد اكتملت، فإن أكبر المتضررين من محاولة صياغة هذا النظام الإقليمي الجديد هما إيران وتركيا. فبالنسبة للدولتين اللتين شكلتا على مدى مئات السنين صلة الوصل بين شرق آسيا وأوروبا، فإن مستقبل المنطقة كما يخطط له الأمريكي يحرمهما من هذا الدور لصالح الكيان الصهيوني. وإذا كانت الاستدارة شرقا والتشبيك مع أوراسيا يعوض لإيران ما قد تفقده، فإن تركيا تبدو بتعبير رفاقنا المصريين "كالخارج من المولد بلا حمص".
تركيا التي أفشلت نتائج الحرب على سوريا الدور الذي وعدت به كمحطة ترانزيت للغاز القطري إلى أوروبا، والتي خسرت مشروعها النيو عثماني بفشل حركة الإخوان المسلمين في مصر، لا مكان لها اليوم في الخرائط التي تصوغها واشنطن للمنطقة إلا كتابع، وهذا لا يمكن أن يطعم الأتراك خبزا.
لا مكان لتركيا اليوم في "منتدى غاز شرق المتوسط"، ولا مستقبل لها في الاتحاد الأوروبي، ولن يكفيها فتات ما تقتنصه من الجغرافيا السورية والعراقية. ما يحل أزمة تركيا اليوم بشكل كلي ويعطيها الدور الذي تطمح له هي تفاهمات جدية مع إيران وروسيا والصين على الشراكة الحقيقية في صياغة مستقبل هذه المنطقة.

كــاتـب لبنـانـي

أترك تعليقاً

التعليقات