ظلام التنوير الفرنسي!
 

كارلوس شهاب

كارلوس شهاب / لا ميديا -

قدم المولعون بالغالب وأنواره على اختلاف مشاربهم تبريرات للإساءة الفرنسية. كانت هذه التبريرات على مستويين:
المستوى الأول: القول بـ«صراع الثقافات» أو «صراع التنوير والظلامية»، وهو بالحقيقة تدليس وتعمية لأصل المشكلة. الثقافات المهاجرة قبل أن يتم احتسابها جانية هي حقيقةً ضحية قرون من الاستعمار والهيمنة الأوروبية وضمنها الفرنسية. يسوق لنا "لاغرانج" مثالاً عن هذه الحالة، فمع ذروة عهد الاستعمار بدأ يضمحل الصراع الداخلي في المراكز الأوروبية، إذا استثنينا بعض الشيء العالم الأنجلو سكسوني، لم تعد هنالك طبقة عمال تعارض البورجوازية.
انتفاء هذا التفاوت على المستوى الداخلي كان مصحوباً بظهور تفاوت حاد على مستوى العالم، ففي العام 1830 كان دخل الفرد الأوروبي نسبةً لدخل الفرد الأفريقي يساوي (3 : 1)، طبعاً هذا بعد ثلاثة قرون من تخريب النسيج الاجتماعي الأفريقي وهياكل الإنتاج بتجارة العبيد الأطلنطية، وصولاً للعام 1960 تضخمت بشكل مهول هذه النسبة لتُصبح (14 : 1)، أفضت هذه القفزة إلى تحول الهجرة من خيار إرادوي كما يوحي مفهومها إلى اقتلاع من الجذور سببه الرئيس علاقات القوة التي أُرسيت بالاستعمار والهيمنة بين العالم الأوروبي (الغربي) والعالم المهيمَن عليه، فمن يترك مكانه في جنوب شرق آسيا أو في شرق أفريقيا أو أمريكا اللاتينية أو شرق أوروبا أو وطننا العربي ـ الذي لا يزال الفعل الإمبريالي واضحاً عليه ـ فإنه لا يملك ترف الاختيار، وهو بالأساس ضحية لسياسات الغرب وضمنه فرنسا.
المستوى الثاني: وهو الحجة القائلة بأن الإساءة أصلها من التراث الروائي العربي (الإسلامي) واستخدمتها فرنسا، فإذا سلمنا بفرضية أن التراث العربي (الإسلامي) مسيء بغثه وسمينه وحشفه ورطبه فلا بد أن تكون معالجته عربياً لا فرنسياً. وإذا كانت فرنسا غير عازمة أن تشيح بوجهها عن التراث فإن الأولى أن تعتني بتراثها، تراثها مع ربٍّ ومن دونه، فلا يستقيم مع ذلك أن تحتفل فرنسا بذكرى مرور 500 عام على ميلاد القس جان كالفن، ومن لا يعرف كالفن فهو ثاني شخصية دينية بعد مارتن لوثر في البروتستانتية.
جان كالفن كان "مصلح ديني" في سويسرا في منتصف القرن السادس عشر، وعلى عهد إصلاحه لم تكن تختفي المحارق البشرية على حطب الصنوبر في ساحات جنيف لمن يعتبرهم كالفن مهرطقين. لم يتوقف إصلاح كالفن على هذا الأمر، بل فرض على سكان سويسرا ملابس معينة وكميات طعام محددة وطول لحية معيناً، وكان يجلد كل من لم يحضر قداس الكنيسة، إضافة إلى إنه أسس شرطة سرية تتلصص على بيوت الناس وتدخلها بقوة إن استدعى الأمر. وعندما قام كالفن بإعدام الراهب سرفيتوس حرقاً لأنه خالفه بالرأي علق بعدها رؤوس 58 من المتعاطفين مع سرفيتوس على أبواب جنيف، وأظن أن رواية «عنف الديكتاتورية» لستيفن زيفانغ هي خير دليل لمعرفة كالفن.
وبما أننا لا نزال نتحدث عن التراث فإن تراث فرنسا العلمانية لم يختلف عن تراث كالفن بشيء، فمنذ تسعينيات القرن الثامن عشر إلى تسعينيات القرن العشرين مارست "فرنسا الأنوار" كل صنوف الجرائم والنهب والتدمير بحق عالم ما وراء البحار، جمعها جاك موريل بعمل سماه «روزنامة جرائم فرنسا».
مع كل هذا لا يستقيم أن تترك فرنسا تراثها الجمهوري المبني على مقولة دو مونتانياك: «القضاء على كل الذين لا يزحفون تذللاً عند أرجلنا كالكلاب» وتأتي لتعالج تراث الآخرين بالإساءة.
*  كاتب وباحث عراقي ـ صحيفة "ميسلون" الإلكترونية

أترك تعليقاً

التعليقات