دُمى الجزيرة ..
أوبئة تنشر الضحالة والموت والاستعمار الجديد


تحت الأضواء يسوق البعض من باب المفكر والفقيه والخطيب المفوه والقائد الملهم للتغيير والمصاحب بعاصفة هوجاء قادمة من مكان بعيد لإحداث ثورة تفتقر للهضم والاستساغة والعقل، وتسلم بنظرية السير مع القطيع الذي تقوده الذئاب.
لاتلام الثورات على فشلها طالما لم يكن لها فكر وفلسفة صادقة - بل نلوم الصورة الكاذبة والمنمقة للثورات التي أنتجت تمردات هوجاء خلفت الكثير من الدمار الذاتي بفعل سطوة ثيران الجزيرة.
الثورة والتغيير تغذيهما فلسفة عميقة بعيدة عن أبواق ومهرجي وأراجيز منصات أموال النفط القذرة- نعرف أن الثيران لاضروع لها لتنتج الحليب- كما ندرك بالوقت ذاته أن الأحداث المفصلية يقودها العظماء وتضيئها العقول، وتتكئ على قاعدة الجمهور الصلبة لترسم بالنور على مجرتها زمناً قادماً بالقرون.
أنشئت الجزيرة (القناة) مع إغلاق القسم العربي لتلفزيون هيئة الإذاعة البريطانية (المنشأة بالاشتراك مع السعودية)، في نوفمبر 1996، بعد أن سعت هيئة الإذاعة البريطانية للوصول الى المشاهد والمستمع العربي بأي شكل من الأشكال، محاولة ربما باءت بالفشل نتيجة انعدام ثقة الشعوب في الشرق الأوسط بالغرب في تلك المرحلة, الأمر الذي دفع بمنتجي الصورة والصوت إلى فتح قناة بستارٍ عربي\ مسلم، حتى تتمكن من الوصول الى أهدافها، وكان الحل الأمثل أن تفتح في دولة قطر.
ظهرت القناة الإخبارية من الإمارة الخليجية الصغيرة بـ:بروباغندا القناة التي استطاعت أن تنقل الصحافة في منطقة الشرق الأوسط نقلة نوعية من واقع التلفاز التابع للأنظمة الرسمية الديكتاتورية, ومثلت الجزيرة لسنوات وجع رأس لبعض السلطات العربية، كما مثلت بالوقت ذاته لغزاً محيراً للشعوب العربية, وأصبحت القناة الأكثر إثارة للجدل على كافة المستويات, والقناة الأكثر لصناعة الصورة والصوت والحدث بحسب قواعد لعبة الدوائر المسيرة لها وفق سياسة صنع الأحداث المفصلية الملبية لأهواء القوى العالمية المهيمنة بوحشية مفرطة على شعوب الخط الجنوبي للكرة للأرضية.

بروباغندا ربيع الرعب
منذ خمسة أعوام سوقت قناة الجزيرة الربيع العربي بأنه ثورة من ثورات العالم الكبرى التي تتعلم منها الأمم والشعوب, برغم أن هذا الربيع لايعدو في أعلى مراتب التوصيف أن يكون تمرداً اجتماعياً متشظياً قائماً على الانفعال العاطفي الوجداني لجمهور تائه ركب على موجته قرصان ملتحٍ مخيف يعرف بنهمه الشديد لأكل كل شيء على المائدة بحسب ما يشير له أسياده.
في موسم الربيع كانت الجزيرة منذ اللحظة الأولى تخلق شخوصها وتفجر خزاناتها على كافة الساحات, تداولت كثيراً صوراً ممنتجة لأبطال الثورة والتغيير عبر شبكة طويلة يتحكم بها كنترول الإخوان. على مستوى اليمن كان الظهور الأبرز لمجموعة ما تعرف بـ(عصبة الإسلام السياسي)، ومن أهم وجوهها: جمال المليكي، وسيم القرشي، خالد الآنسي، شوقي القاضي، ياسر الرعيني, محمد المقبلي، هشام المسوري، علي الجرادي، توكل كرمان، وفاء الوليدي، نجلاء العمري (زوجة أحمد الشلفي)، ضياء الحق السامعي، سارة عبدالله حسن، رشاد الشرعبي، وعبدالخالق عمران, إلى جانب مجموعة ما تطلق على نفسها (اليسار الوسطي الإسلامي الليبرالي) كـ: همدان الحقب، حمزة الكمالي، عبدالقوي هائل، عبدالهادي العزعزي، مانع المطري،وليد العماري, شاذلي البريهي، عبدالقوي العزاني، وأمين شرف, تحت متابعة دقيقة وترشيح تقوم به تنظيمية حزب الإصلاح الإخواني الممثلة بـ:صالح السنباني وفتحي العزب، وينفذه عبدالكريم الخياطي وثابت سعيد وأحمد الشلفي وحمدي البكاري.   
أدار كنترول الجزيرة سيناريو الأحداث وفق سطوة عقيدة كانت في غاية الاستفزاز, عقيدة لاتقبل طرفين من وجهة حيادية، وتتكئ على إنتاج مرسوم رجال دين متطرفين ووصوليين بشكل قاتل, أصبح مفتي الثورة والتغيير عبدالمجيد الزنداني، وخطباؤها الحزمي وصعتر ودحابة وفؤاد الحميري وعبدالله أحمد علي, وعقلها المدبر وممولها وقائدها حميد الأحمر، وحاميها علي محسن الأحمر.
هنا كانت الكارثة, خرجت الثورة عن مسارها الحقيقي، وسادت على الأرض حركة فوضوية لجمهور يفتقد القيادة والعقل. فالربيع (العظيم) من ساحاته المتفرقة على خارطة العالم العربي, لم ينتج أكثر من منصف المرزوقي في تونس التي ذهب عقلها الصغير الغنوشي سباحة الى نيويورك ليقايض كتيبة آيباك بـ(السلطة).
كما حاولت كواليس الجزيرة نحت شخصيات رمزية، وقدمت برهان غليون بطريقة دعائية غبية صارت عبئاً عليه وعليها, لم يستطيعوا إنتاج غليون ثوري نتيجة أداء هذا المشرب الرديء وتناقضاته الفجة مع كل ما كتبه في السابق ضد الإسلاميين, بالإضافة إلى تواصل حلقات سطحيته المعهودة، والتي كان من أبرزها قبوله بأن يكون دمية مضحكة على خشبة الثورة الدينية، وموافقته بأن يكون أجيراً في بلاط أمير جزيرة قطر الجاهل ومربيته الأمريكية هيلاري كلينتون. 
ولم ينتج ربيع الجزيرة في ليبيا سوى (مصطفى عبد الناتو)، لم يكن هناك مفكرون قادرون على قيادة ثورة حقيقية تقود الجمهور الغاضب. وفي ثورة مصر لم نسمع بمرجعية ثورية واحدة, فقط كانت الإشراقة تتجلى من وائل غنيم؛ الشاب العشريني الحامل للجنسية الأمريكية، والذي يتبوأ منصب المدير التنفيذي لشركة جوجل الأمريكية في الشرق الأوسط. والفجيعة كانت أن كل هذه الثورات تتبع مرجعية قطرية خليجية مدججة بالزعران والمجانين وصغار الكتاب الذين كانوا أكثر أمية من غوغاء شوارع الثورات المجهزة بقاذفات الفتاوى الدموية الرديئة المثخنة بـ (الإسرائيليات).
فالجزيرة هي القناة الوحيدة في العالم التي أصبحت محل ثقة القاعدة وما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بتقديم رسائلهم ومنتجة عملياتهم الوحشية, فالأشرطة والأصوات المسجلة لا ترسل إلا الى الجزيرة، وتصل خلال ساعات، وكأن مكاتب أرامكس منتشرة في خنادق أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا واليمن وغيرها من الدول, وتتولى إرسال البريد السريع للجزيرة, كما أنها (الجزيرة) صاحبة إطلاق وصف (الثوار) على الفصائل الإرهابية التي تقتل العديد من الشعوب العربية (سوريا والعراق وليبيا واليمن)، كما أنها أول من ابتكر إنتاج الكثير من الأصوات الداعية للفتنة المذهبية الدينية المقيتة. هكذا طفى من منبرها منطق العرعور وبشكل مقزز, وكان ملهم الثوار ولينينهم عند الجزيرة هو يوسف القرضاوي الذي اشتهر كـ (رجل دين متعدد الزيجات وكثير الطلاق)، وشخصية إخوانية من طراز رفيع كانت لاتتورع عن الظهور بصور تملؤها السعادة مع الزعماء العرب وهم يستقبلونه بحفاوة ليبارك حكمهم.
ساندت الجزيرة حاكم البحرين السني (أراجوز مملكة آل سعود وخادمها المطيع) أمام ثورة شعب مكلوم بسطوة مملكة الوهابية منذ عقود طويلة, وقللت الجزيرة في ظل معمعة الربيع السلفي من حضور الصوت المحترق, وكانت كواليسها تنتج مقاتلين ومتظاهرين وراقصين في الطرقات ومصورين وممثلين على (يوتيوب), كما حاول (فقهاء) الجزيرة وعلى الدوام حل هذه المعضلة والإشكال عبر ضخ أسماء عديدة ومنحها ألقاباً مفخمة من باحث الى أستاذ العلاقات الى بروفيسور الى رئيس مركز الى ناشط وقيادي ثوري الى محلل وكاتب سياسي, ولم تخلف سيناريوهات المؤامرة سوى الخواء في صحراء الجزيرة القاحلة التي افتقرت صواريخها العابرة إلى أية مرجعية تضبط سديمية الجماهير, كما غاب عن مجتهدي الجزيرة أن شخوصهم الذين تساقطوا على جغرافية الثورة العربية (المترامية الأطراف) من شمال أفريقيا الى اليمن وسوريا، لم يكونوا شيئاً مهماً بقدر ما كانوا مجرد حزمة حطب أوقدها النفط والجهل وحديث التعصب والتدين السياسي، وليس القهر والحرمان.
كما أن أكثر ما يثير السخرية, إنتاج الجزيرة وعلى الدوام لدمى مدججة بالهزال الفكري والقحط من دون حياة أو ملامح كفرسان مقطوعي الرأس, أو بالأصح تقديمها لجثث تتنقل من بلد الى بلد على متن راحلة قطرية تنشر الوباء والطاعون النفسي والأخلاقي والموت والاستعمار الجديد.

سقوط ورقة التوت
من سطح الأحداث, حاولت قناة الجزيرة منذ ثلاثة أعوام طبع صورة أخرى لمفكر الثورة وفيلسوفها (البديل), ظهرت ولوهلة سريعة شخصية قادمة من اليمن.. جمال المليكي (شاب إخواني وطالب ماجستير في الفكر الإسلامي المعاصر ومدرب مدربين في التنمية البشرية), لكن الكوبي كان محروقاً وغير صالح للعرض والنظر, ويبقى منتج عزمي هو السائد على فاترينات الجزيرة نتيجة عجزها عن تصنيع فيلسوف الثورة ومفكرها الآخر، بشارة الذي يعد من شريحة (عرب 1948)، وكان نائباً في الكنيست الإسرائيلي عن حزب - التجمع الوطني الديمقراطي-  قبل استقالته ومغادرته الأراضي المحتلة عام 2007, هربًا من ملاحقات قانونية جراء اتهامه من قبل الكيان الصهيوني بأنه تلقى أموالاً من حزب الله للدعاية له داخل صفوف عرب إسرائيل، وزيارته لدولة سوريا - عدوة إسرائيل, في ذلك الوقت اقتنع عزمي وبمسرحية هزلية أدارتها دوائر الموساد، بضرورة الانتقال إلى قطر لأنها الأفضل من حيث التمويل والتحرك.
ومن خلف كواليس بهرجة الجزيرة ظهر عزمي بشارة هو يؤدي دور دوبلير الثورة والربيع العربي بإتقان ودهاء وخبث شديد لدرجة أنه لامس الوجع الاجتماعي العربي، وجعل الناس تنسى أنه كان عضو كنيست إسرائيلي ومدير الأبحاث في معهد فان لير الإسرائيلي في القدس.. والأكثر من ذلك أنه أنسى الناس أنه المفكر الذي يعيش في كنف اللافكر وتحت إبط الانحطاط الأخلاقي والثقافي، وتحت رعاية أكثر الأنظمة جهلاً وقمعاً.
عقب وصوله إلى قطر، وسط العديد من الشخصيات، لمساعدته للقاء الأمير السابق وزوجته الشيخة موزة، للوصول لغاياته, وبالفعل نجحت مساعي عزمي، واستطاع لقاء حمد وإقناعه ببعض أفكاره، وبضرورة إنشاء مركز بحثي يخدم دولته ومشروعها السياسي، أسوة بمركز زايد للتنسيق والمتابعة الذي كان يوفر لمحمد بن زايد تحليلات ودراسات.
يقطن بشارة في واحدة من أرقى المناطق، وهي منطقة (الدفنة) المطلة على الخليج، وشقيقته تسكن في فيلا فارهة في منطقة قريبة تسمى (اللاجونا)، إيجارها الشهري لا يقل عن 11 ألف دولار, أما مركز الدراسات الذي أنشأه عزمي الثائر فتبلغ قيمة عقاره 20 مليون دولار على الأقل، كما يدرس أبناء المثقف الكبير في مدرسة الشويفات المملوكة لأسرة الحريري، وهي واحدة من أغلى مدارس العالم العربي، ويملك بشارة سيارات فارهة مصفحة مضادة للرصاص، ويتولى رجال أمن قطريون مسؤولية حمايته وحماية عائلته.
ولعب المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات دورًا كبيرًا في تقريب مديره عزمي بشارة من صناع القرار في قطر، فتم منحه الجنسية القطرية، وأصبح يتردد بكثرة على الديوان الأميري وعلى قصر الأمير الأب، والتقرب من ولي عهده والانفراد به خاصة بعد أن عرف نية الأمير (التنحي)، ونجح بشارة بالصعود نحو غايته كجليس ومربٍّ للأمير الحالي قليل الخبرة تميم بن حمد آل ثاني.
بعد رحيل الإخواني وضاح خنفر عن إدارة الجزيرة, هذا الرجل الذي ذاعت شهرته بتحجيب المقدمات وتوظيف الوجوه الأكثر تطرفاً لما يعرف بجماعة الإسلام السياسي السني, وصاحب الاعتذار الشهير لإسرائيل عما سماه انتهاكاً للمعايير الإعلامية والتغطية اللاأخلاقية لحفل استقبال عميد الأسرى سمير القنطار, لاحت الأجواء صافية لبشارة, استخدم القادم الجديد أرض الجزيرة لتسويقه كمفكر ومناضل ومقاوم وعروبي، وفرض أخاه للعمل في قناتها الإنجليزية، وباتت هذه القناة التي فقدت الكثير من مصداقيتها خلال السنوات الخمس الماضية، بالنسبة له، وسيلة منتهية الصلاحية ومنافسة له في الحضور والتأثير على الرأي العام العربي وعند أصحاب القرار في قطر على وجه الخصوص, ولم تُجدِ بعض محاولات بائسة في امتصاص جنون عظمة بشارة بمنحه برنامجًا شبه أسبوعي على الجزيرة اسمه (في العمق) يقدمه تلميذ عزمي بشارة ونديمه، واسمه علي الظفيري (وهو صحفي من بُدون الكويت لجأ للسعودية وعمل مع التيار العلماني هناك، ثم انتقل لقطر).
وجد عزمي ضالته في مرشح يعمل مديرًا لمكتب الجزيرة في عمَّان يدعى ياسر أبو هلالة (الدواعشي الذي يظهر في صور وهو حامل رشاشاً أمريكياً)، هذا الشخص الذي انتقل من التدريس في المدارس الابتدائية الأردنية (تخرج في جامعة اليرموك بإربد قسم اللغة العربية) إلى الصحافة الإخوانية في الأردن (جريدة السبيل). ولفت الانتباه كصحفي إخواني شاب أجاد عرض خدماته على إسلاميي قناة الجزيرة ليصبح مراسلاً للقناة في الأردن عام 2000, لتلتقي أخيرًا الرغبات الخارجية ورغبات بشارة في توظيف عميلهم بالجزيرة, لتبدأ معها القناة الأكثر إثارة بدق أسفين نعشها على يد عضو الكنيست الإسرائيلي سابقًا وحاكم الظل في قطر حاليا، والذي سيدفع بمشروعاته الإعلامية التي لا تتوقف عند قناة وصحيفة العربي الجديد (رغم الفضائح المالية والجنسية التي عصفت بهما) في لندن، بل عشرات المواقع الإلكترونية الإعلامية التي تنتشر من بيروت إلى لندن وبرلين والأردن، والتي أفسدت مئات الصحفيين والمثقفين العرب، لتجريب آخر إبداعات المفكر عزمي بالزواج الكاثوليكي بين الفكر الوهابي واليساري والقومي العربي. لتكون بوق فتنة جديدة لصالح الاتحاد الامبريالي الصهيوني النفطي.