مؤخراً في عدن وغيرها من محافظات الجنوب برزت عمليات اغتيال عدة طالت قادة في الحراك الجنوبي، وبالتحديد الذي يتزعمه شلال شائع والخبجي، وهذه الصراعات المحتدمة في عدن منذ مدة طويلة تزداد أواراً كل يوم، مما ينبئ بأن انفجارا قادماً أكبر هو حتمي، لما له من أهمية بالغة حول مصير الاحتلال في الجنوب والشمال، ويهمنا متابعة هذه الظاهرة الهامة وتكوين إدراك لها.

الصراع الجاري على جبهة تحالفات العدو
طرفا الصراع والتحالف هما الحراك الجنوبي من جهة والقاعدة وداعش والإخوان، وقد نشب الصراع الحالي في عدن على خلفيات تاريخية عديدة تتصل بالحاضر والماضي القريب معاً. وخلفيات الماضي نلاحظها في مظاهر عديدة أهمها علاقات الطرفين في الصراعات السابقة أيام السلطة الحاكمة في الجنوب قبل الوحدة، إذ كان طرف هو الحاكم وآخر هو المعارض، بينما كانت الدعاية المتطرفة هي السائدة في العلاقة.
وقد تخلل العلاقات الكثير من الدماء والجراحات العميقة الأثر في النفوس التي خلفت الكثير من الثارات في بلد ثقافته القبلية هي أهم جوانب حياته، وخاصة إذا اختلطت بالسيادة والطموحات والمطامع في الحكم.
الطرف الحاكم آنذاك هو الآن الحراك الجنوبي الانفصالي، وسابقاً الدولة اليسارية المتطرفة الاشتراكية الثورية التي كانت تهدد كل رجعيات المنطقة، وتلاحق وتضرب كل الانتماءات ما قبل الوطنية والقائمين عليها من السلاطين والإقطاعيين والمشائخ وغيرهم من أصدقاء السعودية وبريطانيا، ومع السياسات الصارمة التي اتبعتها الدولة آنذاك كثر المنتقمون منها وأصحاب العداوات والثارات.
 
السلاطين وأبناؤهم لا ينسون أبداً 
هؤلاء وأبناؤهم قد تحولوا بتخطيط السعودية وأسيادها إلى قوى إرهابية ضد الجنوب وضد اليساريين السابقين، ومارسوا عليهم الإرهاب بالجملة، وقتلوا من بعد الوحدة الآلاف من الكوادر الوطنية، ومنذ السبعينيات أصبحوا قوات كبيرة من جيوش الإرهاب في أفغانستان تلبية لمطالب وأهداف أمريكية، وأصبحوا أكثر من 20 ألف مقاتل في العام 90م، تم نقلهم على حساب السعودية إلى المحافظات الجنوبية للسيطرة عليها بعد انتقال القوات الجنوبية إلى الشمال حسب اتفاقية الوحدة التي أفرغت الجنوب من القوات العسكرية والكوادر.
الكمين الغادر للجنوبيين الأحرار وأحصنة طروادة السعودية 
ووجدت السعودية فرصتها السانحة لإعادة السيطرة التغلغلية على الجنوب تدريجياً بواسطة هؤلاء الإجراميين تحت عباءة تجاوز الخلافات والتسامح ونسيان الماضي، بينما هم يتوغلون في الجنوب ويتخللون في المجتمع وعلى حساب الفكر والوجود الوطني والاشتراكي، بعد أن أقنعت القادة الجنوبيين المخبولين أنها إلى جانبهم ضد (الشماليين القبليين الظلمة)، وأنها تحبهم وتتعاطف معهم.
وقد سبق خلال أيام الوحدة الهادئة احتلال هادي للجنوب في ظل غض الطرف للبيض والعطاس، بل وتغطيتهم الحجم الحقيقي لمدى تغلغل القوى المعادية للجنوب ،بما فيها الوحدات العسكرية التي فتح البيض والعطاس لها الأبواب.

المشاريع الربيعية -السعودية الغربية- المهندسة لليمن والعرب
الحرب تكشف المخبوء
كانت السعودية غرقت في حمى الديمقراطية والحرية والليبرالية وحقوق الإنسان العربي واليمني فجأة، مثل ربيعين مختلفين لعصور متباينة.. وعندما دهست السعودية الربيع اليمني عبر موظفيها في المشترك الإخواني، كانت أقنعتهم بترك الجنوبيين تحت عهدتها وحدها تعالج مشاكلهم بعين الرحمة والشفقة والحنان الحار بسبب مظلوميتهم التي أبكتها طويلاً طبقاً للأوهام الفادحة بأعين هؤلاء.
ومن 2007م أصبح ملف الجنوب احتكاراً سعوديا إماراتيا مشتركا مع الأمريكيين والبريطانيين بوصفهما قَيِّمي العالم الحر ومرجعياته، وبعد فبراير 2011م أبقتهم المبادرة خارج موضوع التسوية فلم تشملهم المبادرة والتقاسم، ولم يشركوا خلال الانتفاضة مع الشماليين، إذ اعتبروا أنها تخص الشماليين واليمنيين وحدهم كما يطلقون على أبناء الشمال. وبعد الحوار صارت السعودية هي المحتكرة لرعاية الملف بطريقتها الخاصة، وبقيادة العطاس والبيض وباعوم والنوبة وياسين، والتف الحراك حول هدف إعادة الدولة الجنوبية المستقلة، ثم حول ما أطلقوا عليه (الهوية الجنوبية العربية المستقلة) بدلاً عن الهوية اليمنية الأصلية الحقيقية، وصار هؤلاء هم عصا قمعها التي تخضع الجنوبيين وتخرس بها كل وطني حر.

 خلفية العلاقات الجديدة الخاصة وتحالفات القادة السرية مع السعودية
إن السعودية والإمارات وعمان بعد حرب 94م كانت قد استقبلت أغلب القادة الاشتراكيين الجنوبيين الانفصاليين آنذاك، كامتداد لاتفاقات سابقة قبل الحرب تمت بزعامة العطاس والبيض وياسين نعمان وبن دغر، لينتقل الملف الجنوبي إلى ملف سعودي سلمه لها البيض والعطاس بأريحية وثقة.
السعودية تهيئ الأرضية الجنوبية جيداً لأهدافها 
وبعد الثورة الأخيرة (21 أيلول) وجدوا أنفسهم قد جمعتهم السعودية في سلة واحدة هم والإرهابيين والسلفيين والجفريين والسلاطين والشيوخ، وجميع أعداء ثورة أكتوبر 63م المفترض بهم حماتها وليس تدجينها باتجاه: (السياسة تشتي حج) كما قال أحدهم مرة معبراً عن الهم السياسي المحمول أيام الوحدة.
إن السياسة السعودية تعتبر دماء الجنود اليمنيين ضرورية لغسل الطريق للانفصال وسلخ الأراضي اليمنية كلاً على حدة، كانت السعودية كلفت القاعدة بأن تشن حرباً سرية في الجنوب ضد الجيش اليمني الجنوبي والشمالي معاً، تحت ذرائع متناقضة، ومولتها بكل الإمكانيات والأسلحة بالتفاهم مع هادي وتحت إشراف أولاده وإخوته الذين يشرفون على أمن عدن والجنوب، وقد قتلوا عدة آلاف من الضباط والجنود خلال سنوات حكم الفار هادي، والمطلوب هو تصفية الجنود اليمنيين في الجنوب واغتيال القادة العسكريين، ليكشف واقع اليوم أن تلك الحرب كانت مخططاً سعوديا كمقدمة لاحتلال الجنوب طمعاً في النفط والموقع الحيوي...، وكان المشترك يخفي هذه العلاقة ويرمي بها مباشرة أو غير مباشرة إلى الانضمام السابق من الحكم العائلي البغيض وقاعدته.

 القاعدة والحراك.. بداية التحالفات المباركة برعاية سعودية 
 اتبع الحراك سياسة انتهازية ذكية جداً، هي ترك القاعدة تأكل الجيش اليمني في الجنوب، متخيلاً أنه سيكون الوريث الشرعي الوحيد عندما تأتي اللحظة المناسبة للحكم المسترد، لكنه اتضح أن الحراك قد أصيب بالغباوة السياسية (الغاندية) السلمية، حرصت السعودية على منع تسليحه إلا بشكل نادر ومحدود، بينما تسلح الجماعات الإرهابية والسلفية، أما الدكاترة المحترمون فقد تكفلوا بتطويع الشعب الجنوبي لصالح السلمية التامة، وترك الإرهابيين يتسلحون برعاية سيدة النعمة التي لا يجرؤون على مخالفتها.
وعندما ظهر المخطط الأخير للعدوان تكشف أنهم قد أكلوا علقة جامدة فهموها متأخرين. والله أعلم، ومع بداية العدوان السعودي الأمريكي على الوطن كشف القادة الجنوبيين عن موقفهم المؤيد للعدوان على خلفية الوعود السعودية التي خاضتها معهم بالاستقلال والانفصال والحقوق والحرية.

 هادي بطل الانفصال الجديد على طريقته المزدوجة 
 بعد فراره إلى عدن وبفعل الضخ الإعلامي والغباء السياسي والنقمة الجارفة التي تعيق التفكير، تحول هادي بطل الانفصال الجديد، وبوصوله سلح العصابات بأنواعها، وضمها لجيشه الجديد الخاص، وجمعت السعودية الحراكات مع هادي في جبهة واحدة موحدة ضد (الشماليين الغرباء الروافض)، وببدء الاحتلال لعدن في يوليو الماضي ظهرت الحقائق.
كان الحراك يحمل السلاح الإماراتي السعودي مع الإرهابيين والبلاك ووتر والمرتزقة من كل لون، جنبا إلى جنب في (أممية جديدة) تستعيد الذكريات (اليسارية القديمة)، يقاتلون الجيش اليمني، ويحرضون الناس على حربه، ويفتحون الأبواب أمام الاحتلال الأجنبي، وبدأ الحراك يطالب السعودية بالوفاء بوعودها, وبداية أعلن أنه لن يتجاوز أراضي الجنوب وحدوده السابقة في الحرب ضد الجيش، وظن البعض خيرا، وفي الهجوم على تعز كان في المقدمة وطرفا رئيسا في القتال، وبعد أسبوع أدرك أن قواته المحدودة العدد مطلوب منها أن تمحى من الوجود في الهجوم على تعز، وبعد خسائره الأولية إذا به يصاب بالرعب، معلناً انسحابه من الجبهة دون أن يصدقه أحد لأنه اعتاد أن يقول شيئا ونقيضه معاً.
وعد العدو الحراك أن يقدم له جزءاً من السيطرة الذاتية على بلاده التي فتحها للعدوان، ليندفع مجدداً إلى الجبهة بعد جولة من المساومات البينية، وهكذا دواليك.
وبعد استنزاف طويل وصراع مرير أخيرا تم إعطاؤهم موقع محافظي عدن ولحج في إطار صفقة تمت في السعودية، واستغرقت مساوماتها شهرا بين الرياض وأبوظبي،على تقاسم الأعباء والمسؤوليات بين السعودية والإمارات والظهور بمظهر المختلفين مما يعطي المشروع ثماره.

 تباينات الساعات الأخيرة للتحالف
خلال الشهر الأخير ومنذ بداية ديسمبر الماضي، بدأت الصراعات تشتد بعنف بين الحراك وبين القاعدة والإخوان وداعش ومن خلفهم هادي والسعودية ومخابراتها العسكرية في كتلة خلفهم الأمريكيون، ومن جهة أخرى كتلة (الحراك الجنوبي الانفصالي الثوري)، أي حراك الضالع ولحج وردفان وعدن وخلفهم الإمارات وبريطانيا والليبراليون العدنيون، أما حراك حضرموت بكل فصائله من البيض وباعوم والجفري والعطاس وغيرهم ومن الليبراليين الحضارمة المغتربين المتجنسين، فقد بقوا خارج الموضوع لا يظهرون شيئا، بل إن عدداً من قادتهم قد اختفوا وغادروا البلاد مؤقتا إلى السعودية والإمارات والقاهرة.

"حراكات عديدة" ... ما معنى هذا؟
معناه عدد من الممكنات، أولاً لهم مشروع خاص بهم لا يشمل الحراك للجنوب الإقليمي الغربي.. هل لهم مشروع متوافق عليه سرا بينهم وحدهم مع الراعي السعودي الحريص على خصوصية الشرق النفطي الحضرمي أولاً؟
وهذا يتضح من الغموض الذي يحيط بمواقف البيض وباعوم والعطاس والجفري.

العطاس يكسر الغموض
لكن العطاس والجفري قد أوضحا نيتهما بتقديم المقترح الهام بإعطاء السعودية حضرموت مكافأة لها لإدارتها لصالح الجميع من خلال تشجيعها لبناء القناة العملاقة التي تكلف 600 مليار دولار، وتحول الربع الخالي الى بحيرات وجنان خضراء، وتشغل عدة ملايين من العاطلين.. (الله الله)..
هذا التصريح قد ترافق مع الحملة المشيخية السلاطينية للحضارم الكبار بالدعوة إلى قبول ضم وإلحاق حضرموت إلى كيان السعودية العربية المفتوح، مذكرين الملك سلمان بأن حضرموت كانت في القرن الثامن عشر مع الجزيرة العربية تتبع الوهابية السعودية لبعض الوقت حين كانت بريطانيا ما زالت فتية قادرة، وهذا دليل قانوني على الحق الانضمامي وتصحيح التاريخ مرة أخرى!
هذا هو المشروع الذي يتلهف له التجار المتجنسون في المملكة المهاجرون في السعودية، ويريدون تحقيق الحلم بالانضمام الى السعودية والتمتع معها بثمار النفط الحضرمي العربي المشترك. 

 مصير الجنوب وحضرموت الكبرى
 هذا هو الشغل الشاغل للعطاس والبيض، ولا شيء آخر اسمه الجنوب غير هذا، إنه الجنوب الحضرمي المهري السقطري الشبوي فقط، فهما، أي البيض والعطاس، لم يعد معنى الجنوب يعني سوى حضرموت الكبرى، هذا المشروع لا تطمئن السعودية إليه إلا إذا كان خاليا من القبائل الشديدة المراس في أبين والضالع ويافع ولحج، التي لا تستطيع إدارتها أو التحكم بتصرفاتها عندما تتكشف أسرار كثيرة جدا لاحقا بعد سنوات، ومثلا السعودية وحلفاؤها لا يريدون إشراك القبائل الغربية في الانضمام إلا بعد مرحلة من التطويع سيكون إن خضعوا لإعادة تأهيل وتشذيب طويلة، ولذلك من الواضح أن أزمة شديدة تنتاب العلاقة بين الحراك والسعودية وهادي، والآن أزمة انزاحت عن أوعيتها السابقة بعد أن أخرجت مع خلافات هادي وبحاح إلى العلن أخيرا، وتوسع الإشراف على البلاد بين السعودية والإمارات، الأمر الذي لا يبدو معقولا إلا بعد أن سالت دماء كثيرة إماراتية وحراكية أكثر من 400 قتيل خلال الأشهر الأخيرة كلهم حراكيون محسوبون على الحراك الثوري بأيدي داعش والقاعدة، وبأسلحة سعودية إماراتية..

ما القضية إذن؟
تبدو هنالك أسرار عديدة تكتنف العلاقات بينهما، اتفاقات ووعود والتزامات متبادلة لم تتم، فقد أصبحت الثقة مفقودة ببن الجانبين، ولذلك تم تكليف السعودية للإمارات بأن تمسك الجنوب معها كيلا ينفرط العقد ويدخل الجيش اليمني من خلف الشقوق الظاهرة في العلاقة، ولكن لمخابرات السعودية وهادي أجندة أخرى خاصة بهم.
ما هي؟
إنها تتعلق بالفصول التالية من المشروع الاحتلالي للجنوب وخطواته التي لا يريدها الحراك أن تتم أو يتعاون معها كما تريد السعودية وهادي وفقاً لأجندتها الخاصة التي لا يلم هو بتفاصيلها وأبعادها الخفية المتصلة بالمشروع الحقيقي المبطن غير المدرك إلا من أقلية من محترفة من المسترزقين السياسيين كالعطاس والبيض المنغمسين مباشرة ضمن المشروع التمزيقي الاحتلالي للجنوب.

ملامح المشروع الاحتلالي المبطن
يتميز هذا المشروع غير المعلن بمجموعة من الملامح الأساسية:
أن المشروع الحقيقي المعمول عليه مبني على المخطط الامبريالي البريطاني السعودي المؤسس بريطانياً في خمسينيات وستينيات القرن الماضي مع العرش الوهابي، ويقوم على التمهيد لسلخ إقليم شبوة وحضرموت والمهرة وسقطرى، وتحت شعار إقامة حضرموت الكبرى.
ظل هذا المشروع يعمل عليه من قبل السعودية وعصاباتها طيلة ربع قرن.
تمت إعادة إنضاج المشروع أثناء اندلاع الحرب 94م، والحرب نفسها كانت جزءاً من هذا المشروع البريطاني السعودي.
داخل مشروع الدفاع عن الجنوب كان تيار قيادي -وهو اليوم في قيادة الحراك، لعب دوراً رئيسياً في الحرب ضد الجنوب وتدمير جيشه (أكثر من عشرة ألوية)، وهذا التيار هو الآن الداعي لما يسمونها هوية جنوبية.
هذا التيار يخفي حقيقة المشروع الذي يعمل عليه فعلاً تحت غطاء استعادة الدولة.
الحراك يعيش حالة تناقض حادة في داخله بين الأجنحة، وهذا التيار (تيار البيض) قد وجه أكثر من طعنة للحراك.
كما توجد حسابات قديمة داخل الحراك بين قسم دثينة وأبين وبين القسم الغربي، وتعمل السعودية وهادي على الاستفادة من تفجير هذه الصراع لتمرير المشروع في مرحلته الراهنة.
هدف الاحتلال الراهن في سياق هذا المشروع، هو التحضير لمشروع سلخ حضرموت بالمحافظات المحيطة بها، ولكي يوفر الظرف الملائم لإنجازه يتم التلاعب بمفهوم الإقليم الغربي الذي سبق وهيأ له هادي والإخوان من خلال الأقاليم الستة، والوصول للقاعدة الاجتماعية التي لم يتم غزو رؤوسها بعد بهذا المشروع الانسلاخي من خلال تفجير الصراعات بينها، وتأتي محاولات تصفيات شلال وغيره من بقية حلفه في هذا السياق. وفي الأخير، ومع تأزم المجتمع في خضم هذه الصراعات، سيكون استدعاء الأجنبي هو الخيار الأنسب والمرحب به كما صرح بذلك قائد الثورة في آخر خطاب له.