شعبٌ أسطوري الصمود.. وبدائل تحكي قصصها
صنعاء..  ستالينجراد جديدة

عامٌ ونيف من العدوان
عامٌ شُرّد فيه اليمنيون، تحت قصف لم يُبقِ لهم شيئًا، دمّر وأحرق كل ما له صلة بحياتهم اليومية، بيوتٌ سُوّيت بالأرض تماماً، مزارع أحرقت بصواريخ المتحالفين، مصانع دُمرت بشكل كامل فقد إثره الكثيرون وظائفهم وأعمالهم، قُطعت أرزاق الكثير ممن يعتمدون بشكل كبير على خدمتي الماء والكهرباء..
عامٌ ونيف من العدوان.. انتهت فيه الطبقة الوسطى التي كان يعوّل عليها الكثير في تماسك المجتمع، باتت تعاني العوز والحاجة، وانحدرت إلى مستوى متدنٍّ، وبات المجتمع طبقة واحدة هي (طبقة الفقراء)..! 
ورغم كل الوجع والعدوان، والحصار، والقصف، إلا أن (ستالينجراد) جديدة بُعثت من الرماد، فلعل الجميع توّقف خلال قراءاته عن الحملة الألمانية على الاتحاد السوفيتي أثناء الحرب العالمية الثانية، على مدينة ستالينجراد، وكيف صمدت لمدة ستة شهور من العدوان، وها هو التاريخ يكرر نفسه (ستالينجراد) صنعاء التي تواجه الحصار لأكثر من عام، وإن كان تاريخها يحكي عن حصار السبعين يوماً، وكيف تغلبت عليه، إلا أنها مع هذا العدوان الشرس أثبتت صمودها الأسطوري، شـأنها شأن كل المدن اليمنية، ولكن النقطة الفارقة لهذه المدينة أنه تم قصف كل الجسور التي تربطها ببقية المحافظات، ظناً من طيران التحالف عزلها اقتصادياً، واجتماعياً... ولكن هيهات لمدينة سام أن تُهزمَ حتى وإن واجهت عدواناً لألف عام...!
صحيفة (لا) توقفت مع قصص سكان (ستالينجراد صنعاء)، وكيف واجهوا الحصار، والقصف اليومي بابتساماتهم الساخرة وعشقهم للحياة..

حياةٌ أشبه بالأساطير
أثناء مرورك في (باب اليمن)، في أي وقت من الأوقات، تراه لا يهدأ عن الحركة التجارية، وتواجد السكان فيه على مدار الوقت رغم قربه من أهم مكانين استهدفهما طيران التحالف، (جبل نقم) و(وزارة الدفاع).. حينها تتأمل لو كان هذا المكان في دولة من دول (التحالف) لرحلوا جميعهم عن بكرة أبيهم... ولم يصمد منهم أحد، ولتركوا كل شيء خلفهم.. لكن لأنها صنعاء، ولأنها لا تستسلم لشيء، صمد سكانها.. فحين يسمعون الطيران يحلّق في سماء صنعاء، يرفعون أعناقهم ساخرين بلهجتهم الصنعائية المحببة: (شلوش الجن يا (مريم)، ولا بتهزي فينا شعرة، جي اصطبحي معانا)!
وعلى ذلك قس الكثير من التجمعات التجارية، كشارع (هائل) وشارع (جمال) وشارع (حدة)، والمولات التجارية المصغرة، والسوبر ماركتات، وغيرها..
فرغم الحياة الأسطورية الصامدة في وجه القصف والموت العشوائي لاستهداف السكان، ومنشآتهم الخاصة، والعامة، إلا أن هناك انعداماً شبه تام للخدمات الأساسية، وارتفاعاً هائلاً لمستوى المعيشة، وغلاء الأسعار.. هنا يظهر جلياً صمود سكان ستالينجراد ـ صنعاء، وإيجاد البدائل.. فهذا عاصم ـ موظف خسر عمله في شركة خاصة بعد أن قصفها الطيران في حي (فج عطان)، يزاول مهنةً أخرى فرضتها عليه ظروف العدوان، وهي فتح محل صغير زوّده بالطاقة البديلة لشحن جوالات المواطنين، وكل جهاز عمل له سعراً معيناً، فالجوال سعره 100 ريال في بداية الأزمة، ثم انخفض مع فتح محلات منافسة إلى 50 ريالاً، وهكذا عمل مع بقية الأجهزة كبطارية الجوال، والخازن، وغيرها، يقول عاصم إن هذا العمل جعله يستمر هو وعائلته بالبقاء والعيش بكرامة، حسب قوله، ويدر عليه دخلاً لا بأس به حتى يزول العدوان.
بائعة اللحوح..
تركتُ عاصم، واتجهتُ إلى (الخالة عزيزة)، وهي فعلاً عزيزة النفس، متحدثة لـ(لا) وقرائها بلكنتها الصنعانية التي عبّرت عن قلب مكلوم بعد أن فقدت زوجها في العدوان: (ابسري يا بنتي لأي حال وصلونا (عيال الكلبتين)، عيالي صغار مافيش معهم غير الله وأنا، وما كان قدامي غير هذا الحل: أعمل لحوح وأبيعه، رغم أن الذرة غالية، والحطب غالٍ، والماء مابش، لكني أستخدم بدائل أخرى كأوراق يستغني عنها طلاب وطالبات المدارس، أجمعها مع شوية (علب بلاستيكية) لأوقد للحوح، وأشتري مستلزماته لأستمر أنا وعيالي بالعيش، حتى لا أمد يدي لأحد)، وانحدرت دمعة ساخنة في نهاية حديثها كونها فقدت عائلها الوحيد.

الميزان مصدر عيشهم
يقفُ (محمد) ابن الـ11، تحت أشعة الشمس اللاهبة، يتصببُ العرق من جسده النحيل، غير مبالٍ بمضايقات المارة.. مررتُ من أمامه وهو يتوسلني أن أصعد (الميزان)، ويقول لي: (تعالي بس بـ30 ريال.. يا منعاه)، اقتربتُ منه لأنقل خلجات نفسه لقراء (لا)، وبعد حوار قصير معه قال: (تركتُ المدرسة لأنه لا يوجد غيري يصرفُ على شقيقتيّ بعد أن قصفوا منزلنا في (نقم)، وتوفي والدي، ووالدتي، وثلاثة من أشقائي، ونحن الآن نسكن مع جدتي التي آوتنا في غرفتها الصغيرة، بعد أن تخلى عنّا معظم الأقارب، ولذلك تركتُ المدرسة لأنه لا يوجد من يعطيني قيمة الكتب والدفاتر، وقيمة السندويتش الذي نأكله، فكل يوم الصباح أخرج إلى هذا المكان، وأحياناً أعود إلى جدتي كما خرجت).

الكهرباء الغائبةُ الحاضرة..
وللكهرباء حكايةٌ أخرى، ففي كل الحروب العالمية تظل الكهرباء كما هي، إلا في اليمن، يكون قطعها بمثابة العقاب الجماعي للمواطنين، ولأن الحياة باتت مرتبطة بها جداً، وأثناء رصد هذه الحكايا الأسطورية لأبطال قهروا المستحيل في ظل آلة العدوان المدمرة، توجهت صحيفة (لا) إلى مقهى (نت بنات)، فكل واحدة لها حكاية مع انعدام الكهرباء، وسبب تواجدها في ذلك المكان، فرغم أن معظم السكان توجهوا لاستخدام الطاقة البديلة لإنارة منازلهم، إلا أنها لا تفي بالغرض كله، فشحن الأجهزة الكبيرة يؤدي إلى ضعفها، فاضطرت طالبات الماجستير والبكالوريوس، للمرابطة في ذلك المقهى للشحن، ولإنجاز المهام، وكذلك لشحن أجهزتهن المختلفة، رغم أن المحل فيه مقاعد معينة يفرض المحل للجلوس عليها رسوماً خاصة.
(ندى) طالبة ماجستير، قالت: أحياناً أداوم هنا من الصباح حتى قبل المغرب، لأنني لو قعدتُ بالبيت لما أنجزتُ شيئاً من رسالة الماجستير، ولذلك أضطر للمجيء لهذا المكان. (أمل) هي الأخرى كانت على نفس الطاولة، لكن وضعها يختلف، فهي تأتي ليس لغرض الشحن فقط، بل لتنجز موادها الصحفية، وتتواصل مع صحيفتها، بينما (رقية) أخذت حيزاً لا بأس به من الطاولة، لأنها نقلت معها جوالات (العائلة) لتشحنها في المحل، وأخريات يأتين لينجزن بحوث الجامعة المتعلقة بالتكاليف الأسبوعية.

عامٌ من العطش
وللماء حكاية في ستالينجراد صنعاء، أكثر من عام وهي تعاني العطش، فانعدام المشتقات النفطية، وانطفاء الكهرباء ولّد معاناة إضافية للسكان، وخلال فترة الحصار والعدوان زادت المعاناة والأعباء على العائلات، والأسر، فانتشرت ظاهرة جميلة ومحببة تدل على تراحم أبناء الشعب الواحد في ما بينهم، ظاهرة (ماء السبيل) يستفيدُ منها ذوو الدخل المحدود والذين لا يستطيعون شراء الوايتات، كذلك تبرع فاعلو الخير بـ(وايتات) تمر أسبوعياً في الحارات، فتجدُ الصغار والكبار في مشهد أشبه بالتراجيديا الحزينة، جميعهم يحملون أواني بلاستيكية مخصصة لنقل الماء (سطول ودبيب) بكل الأحجام والألوان... وحدهم العدوان تحت معاناة واحدة، هؤلاء هم أبناء يمن الإيمان والحكمة حين يقهرون العدوان، حتى وإن اتحد العالم ضدهم، لن يقهر تماسكهم شيء.