عن الثقافة والمسرح وسبع سنين عجاف:
- تم النشر بواسطة محمد عبده الشجاع

عن الثقافة والمسرح وسبع سنين عجاف:
المشهد الثقافي اليمني.. واقع مؤلم أنتجته الأحزاب والنخب الثقافية وروجت لموته عبر الصراعات السياسية
قبل أكثر من ثلاثة أعوام، شيعت مجموعة من الأدباء من الجنسين، المشهد الثقافي برمته، الى مقبرة خزيمة، حيث يقطن رفاة الشاعر العظيم، صاحب التنبؤات والقصائد المثيرة للجدل، الأستاذ الراحل (عبد الله البردوني)، الرجل الذي أثرى المشهد شعراً وفكراً، عبر مؤلفات عديدة، بعض منها لا زال قيد التغييب، وحلقات إذاعية طوال مسيرة حافلة بالإبداع والإنتاج، بدأت في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، وانتهت في أغسطس من العام 1999م.
كان لزاماً على الجميع حينها المرور بقبره، والبوح له بكل شيء، كل شيء. استمر المشهد بالتقهقر، وطفت السياسة وحواشيها تقتل ما تبقى من آدميين كل يوم، ليصبح الحال محل شفقة. حين عدنا من خزيمة، كنا محملين (بالأحزان والإصرار) الذي منحنا إياه الشاعر، عبر نص خُلد على قبره (شوطنا فوق احتمال الاحتمال*فوق صبر الصبر.. لكن لا انخذال/ نغتلي.. نبكي.. على من سقطوا*إنما نمضي لإتمام المجال/ دمنا يهمي على أوتارنا*ونغني للأماني بانفعال).
الواقع أن ذلك التشييع لم يكن مجرد استسلام فقط، لكنه كان مقدمة لبث حزن وانكسار قد يطول وجودهما الى أجل غير مسمى، وبرغم الزخم الثوري التواق الى التغيير، وتفاني الشعراء والروائيين وكتاب القصة والتشكيليين، الذين يبرزون من حين لآخر بروح جديدة وعزف منفرد، إلا أن الطاغي هو المشهد السيئ من السياسة، وهو مشهد معتم أصبح يجر البلاد جراً الى أتون سحيقة، ومستقبل غامض لا يلوح فيه سوى البارود وصوت الصراع.
المسرح والقوى التقليدية، فعل لا يليق، ودعوة تحرم الإبداع
في بلادنا فقط لا يشكل إبداع المرأة وانخراطها في الإنتاج والعمل اليومي، جدلاً لدى بعض الجماعات، وإنما الكارثة أن الإبداع بكل أشكاله، سواء الذي ينتجه الرجل أو المرأة، القاسم المشترك بين هذا وذاك، هو الخوف من انتشار الرذيلة، وهذه المصيبة التي لم يتنبه إليها الكثير، ولم يعمل على حلها أي طرف، تتشارك فيه أطراف عديدة، وهو موت المسرح والمشهد الثقافي عموماً، بداية من غياب الدولة التي لا يحق لغيرها تصنيف الإبداع، ووضعه في خانة الحلال والحرام، ضعف المؤسسات والجمعيات والنقابات المرتبطة بكل ما له علاقة ببنية الدولة ومراكزها الثقافية، التي تنشئ فرداً واعياً بحياته وحقوقه، ولذا ظهرت شخصيات ادعت الوصاية، وعمدت الى حشر نفسها، والوقوف أمام مظاهر طبيعية متعلقة بالوعي والثقافة، ولم تجد من يردعها، بل وجدت فرصة للبسط والتمدد حين وجدت أن الجميع متقاعس، مما ساعدها على فرض إرادتها وإصدار القول الفصل.
على سبيل المثال لا الحصر، قيام مجموعة متدينة يقودهم أحد الأشخاص، قبل سنوات، بإغلاق المسرح المفتوح المطل على السائلة في صنعاء القديمة، والذي كان مكاناً جميلاً تقام فيه الأمسيات الرمضانية والفنية والإنشادية، حيث كانت تأتيه من مختلف محافظات الجمهورية، وتم إغلاقه بحجة أنه خرج عن إطار العادات والتقاليد، وسط صمت غير مبرر إطلاقاً، ومن يومها لم نجد ما يحييه سوى الغبار وأطلال جدران متناثرة.
منير طلال، كاتب وباحث ورئيس تحرير المواقع الإلكترونية لوزارة الثقافة، يقول في هذا الجانب: مشروع بناء المسارح في صنعاء متوقف، فالمسرح الملحق بالمركز الثقافي متوقف منذ 15 عاماً، وكل يوم يتم تغيير اسمه، فمرة مسرح الطفل، ومرة المسرح الكبير، وما يزال تحت الإنشاء.
ويضيف طلال: بالنسبة للمسارح التي قالت الحكومة إنها ستنشئها بحديقتي الثورة والسبعين، فلا وجود لها، الموجود هو المسرح الكائن بحديقة السبعين، ويسمى مسرح (يمن موبايل)، ومن النادر أن يتم تقديم عروض مسرحية فيه، مع بالغ الأسف، حيث لا يوجد برنامج لتنشيط المسرح مع الجهة المشرفة عليه، وهو مسرح صغير، لكن من الممكن أن يحدث ثورة لو استغل على النحو الأمثل.
ويتابع: في بداية تعيين الأستاذة أروى عثمان، تقدمت إليها بمشروع استغلال بعض الفضاءات لعمل مسارح في أمانة العاصمة صنعاء، وأولها مسرح مكشوف بالتحرير أمام (بيت راغب)، وتحويل (سينما بلقيس) و(سينما كابع) و(سينما حدة) و(خالدة) إلى مسارح ودور عرض سينمائية، عن طريق شرائها من أصحابها، وقد أبدت استعداداً للمضي بالمشروع، لكن البلد دخل في سلسلة من الأزمات السياسية، وصولاً للحرب الداخلية والخارجية، لتتوقف كل المشاريع والطموحات والأحلام والتطلعات التي كنا نحلم بها، فحالياً لا صوت يعلو فوق صوت المعركة الحربية.
مسرح مفتوح على كل الاحتمالات
وجدي الأهدل، كاتب وروائي، يقول: ما قام به أحد رجال الدين من تدخل مسلح لإغلاق المسرح المفتوح في صنعاء القديمة (السائلة)، قبل سنوات، ليس تصرفاً فردياً، ولكنه يعبر عن رأي قطاع واسع من الناس، مع الأسف. ولو أجرينا استفتاءً فربما نصدم من حجم التأييد لما قام به رجل الدين المذكور آنفاً. المجتمع اليمني محافظ، ويميل إلى الانغلاق والتكتم.. ولذلك فإن إفراد مساحة للمسرح المفتوح ضمن النطاق الحضري للمدينة، لا يتسق مع هذه الطباع التي ربما زاد تعاطي القات في أماكن مغلقة من حدتها.
ويضيف الأهدل: ينظر الإنسان اليمني إلى الفنون نظرة دونية، وهذه النظرة مشتركة بين الأميين وعدد لا يستهان به من جحافل المتعلمين وخريجي الجامعات.
ويتابع: يفترض أن يكون (المسرح المفتوح) الرئة التي تتنفس من خلالها المدينة، وبالأخص أن الطقس في صنعاء معتدل معظم شهور السنة. في (المسرح المفتوح) يمكن تقديم عروض مسرحية، وحفلات موسيقية وغنائية، وأناشيد دينية، وأمسيات أدبية وفكرية وتثقيفية، وغير ذلك. والإنسان اليمني - ذكوراً وإناثاً- بحاجة ماسة إلى هذه الجرعة الثقافية، ليمتلك حساً جمالياً ووعياً أخلاقياً، ويرتقي بنفسه روحياً. الأوروبي لا يرمي مخلفاته في الشارع العام، ولكن اليمني يفعل ذلك، دون أن يرف له جفن.. وأعتقد أن المسألة هي مسألة ذوق، وأن الآداب والفنون هي التي تنمي الإحساس بالذوق عند الإنسان.
ويقول أحمد المعمري، ممثل: المسرح اليمني منذ السبعينيات وهو في ازدهار ومشاركات داخلية وخارجية، وأخذ جوائز سواء لأفضل عرض أو أفضل ممثل وديكور... الخ، حتى كانت هنالك مشاركات دولية في اليمن، ومنها الكويت تقريباً في الثمانينيات، أقيمت عروض مسرحية، وكان لدينا مهرجان للمسرح اليمني غير المسرح العالمي، حتى المؤسسة العامة للمسرح والسينما آخر عمل لها مسرحية (القلاصات)، وطافت أكثر من محافظة، واشترك بها العديد من نجوم المسرح اليمني، ولغاية بداية التسعينيات وبعدها نوعاً ما تراجع بشكل متقطع. وفي 2004 صنعاء عاصمة الثقافة استعاد المسرح نفسه، وكانت هنالك مشاركات من أكثر من دولة، ومنهم نور الشريف عمل عرضاً مسرحياً في اليمن، وأيضاً مشاركات من اليمن داخلية وخارجية. أما بالنسبة للمسرح المفتوح، للأسف لم يتم الاهتمام به بالشكل المطلوب، وكان لدينا في المركز الثقافي مسرح جماهيري، لم يتم إنهاؤه منذ العام 2000م، ولا ننسى أيضاً عدم اهتمام الدولة بالجانب الثقافي.
المسرح بين الخوف والغياب
والسؤال هنا لماذا كل هذا الخوف من مسرح مفتوح؟ والحشد له بالفتاوى والصلوات والأدعية، مع العلم أن هناك قتلاً يومياً مفتوحاً، لم يحشد لإيقافه أبداً بتلك الصورة، بل ربما هناك من يحشد لتمديد مشهد الاقتتال اليومي!
المسارح التي بنيت قبل 10 سنوات من الآن، لم تستكمل، وظلت شاهداً حياً على موت المشهد حتى داخل أروقة العقول القائمة على المؤسسات الثقافية، تم بناء مسرح مجهز بالكواليس والمدرجات في حديقة الثورة، يتسع لأكثر من ألف شخص، ومثله في حديقة السبعين، والصورة توضح حاله تماماً، أصبح بقعة للتبول، ومكاناً لصب الردميات والمخلفات، مقلباً لإحراق القمامة، تغير أكثر من أربعة وزراء ثقافة، وأكثر من خمسة أمناء للعاصمة صنعاء، وتغير أكثر من رئيس وزراء، ووزير مالية، وتغير حتى رئيس الجمهورية، وتغير وضع البلاد الجغرافي، وتغيرت سيرة مجتمع وإنسان بحاله، ولا زالت المسارح مفتوحة للريح والرماد، وأعشاباً وحشائش يابسة.
اليوم اتسعت بؤرة الأحداث، واتسعت معها فجوة ضياع الهوية، أصبح الغالبية يبحثون غن خبز لا أكثر، لم يعد المسرح ذا أهمية، ولا الفعاليات الثقافية، ولا توجد خطة واحدة على أرض الواقع منذ العام 2012م، بل إن المرارة أن هناك تغييباً الى درجة أنك تتساءل: هل توجد وزارة فلانية أم لا؟
إذن، كيف يمكن لنا أن نطور من حال الثقافة الشعبية، ليستمر العطاء ويتجدد الخلود، ونصبح طابوراً واحداً يتجه نحو الرقي؟ لم يعد المسرح اليوم هو أبا الفنون، ولم يعد الشعب بحاجة سوى (للخبز)، والخبز فقط، وبه يحيى كيفما اتفق.
احترقت أرض المسرح قبل التشييد، وظلت الكواليس حبيسة ذاتها بدون بروفات تذكر، لتبقى المدرجات عرضة لتقلبات الفصول والمناخ، ويستمر التغيير.
المصدر محمد عبده الشجاع