تقدم لهم البحر عسلاً، وتسكب الوعود في قنانٍ مزخرفة، ثم ما تلبث أن تتبخر بكتابةِ أسمائهم في مجموعاتِ (الواتس آب)، ودفع رسوم التسجيل... ضحايا مكاتب التوظيف الوهمية هم خريجو الجامعات، والباحثون عن العمل من الشباب.. وراء المكتب الواحد خلايا من المكاتب تمارس نفس الأسلوب والطريقة... خلف دهاليزها ضحايا بالعشرات لا يدري عنهم أحد. هنا تفتح (لا) هذا الموضوع الحساس، وتقترب من ضحايا وقعوا في فخها، فيروون مآسيهم على صدرِ صفحاتها علَّ الجهات المعنية تقومُ بواجبها في ضبط من يقومون بابتزازهم عبر تلك المكاتب.
بيئة خصبة لمافيا الاحتيال 
تسهم مكاتب التوظيف في الكثير من دول العالم في التخفيف من البطالة وتشغيل الأيادي العاملة ورفد الشركات والمؤسسات الاقتصادية بالدماءِ الشابة، بينما نجد عكس ذلك تماماً في بلادنا، خاصة أن انتشارها مؤخراً في العاصمة صنعاء وغيرها من المدن بشكلٍ لافت، كشف عن سوءاتها، وتخلي من يديرونها عن القيم الإنسانية، مستغلين بذلك ظروف الفقر والفاقة، والبطالة التي يعاني منها الشباب، والتي تزايدت في ظل العدوان القذر الذي فاقم الوضع الاقتصادي مقترباً من عامه الثالث، خاصة خريجي الجامعات الذين ما تلبث أن تتحطم أحلامهم بين أيدي سماسرة ليس إلا، يفتحون دكاكينهم لاستقبال العشرات من المتقدمين، ويتضح في الأخير أنها مجرد (مكاتب تبيع الوهم).
كثيرون ممن طرقوا أبواب تلك المكاتب أكدوا لصحيفة (لا) أنهم وقعوا ضحايا نصب بأوراق وسندات رسمية تصل من 1000 إلى 2000 ريال، ناهيك عن استنزاف الجهد والوقت بالتردد على مثلِ تلك المكاتب التي قد تستغرق شهوراً تواعدهم بها، كل ذلك في ظل غيابٍ كبير من قبل الجهات المختصة، التي يفترض أن تقوم بحمايةِ الشباب من الابتزاز، ومافيا النصب.

استقبلوني باحترام
 ثم ابتسامةٍ ساخرة
في أروقتها استدرجتهم بأساليب ملتوية جعلتهم فريسة للنصبِ والاحتيال، ولكن هناك من اكتشف ألاعيبها مبكراً قبل الوقوعِ في استنزافِ الوقتِ والجهد، كحالةِ سهى عبدالله ـ طالبة ماجستير / جامعة صنعاء ـ التي تحكي بمرارةٍ عما حدث معها، حيث فتحت قلبها لصحيفة (لا) عل الجهات الرقابية تتابع هذه المكاتب من خلال النماذج التي تروي مأساتها هنا... تقول سهى: هذه المكاتب باتت ترتدي ثوباً متسخاً، فيه الكذب والغش وخداع الشباب العاطلين عن العمل، الذين يعانون في الوقتِ الراهن من الظروف الصعبة... فلولا ظروفي الصعبة ما طرقتُ أبوابها، ولا ذهبتُ للبحثِ عن عمل عبرها، فبينما كنتُ أتصفح مجموعة من إعلاناتِ التوظيف التي تنزل بشكل يومي في برامج التواصل الاجتماعي، وجدتُ مجموعة من الوظائف، فتشوقتُ وقلتُ أجربُ حظي.. فاستقبلني الموظف باحترامٍ، وانتهى بابتسامةٍ ساخرة.. 
تضيف: طريقة الاستقبال المغرية هي طعم ليس إلا حتى يتمكنوا من قبض الرسوم، واللعب بأعصاب المتقدم، فقلت للموظف: الإعلان الذي قرأته لكم بالأمس عن وظيفة كذا، فشرحوا لي بطريقة مغرية ومشوقة عن العمل معهم، فأعطوني إرسالية لإحدى الشركات، وعندما وصلت طرحوا علي شروطاً تعجيزية لم تخطر على بال، ومن تلك الشروط هو أن تحضر لهم في الشهر إعلانات بما يوازي مليوني ريال..!
تسخر سهى بمرارة وبلهجتها الصنعانية الجميلة: (وأنا من أين أدي لهم 2 مليون بالشهر، يسعم أننا نغرفها غريف، والله لو ألُفّ الشرق الأوسط كله ما أقدر أجيب لهم هذا المبلغ، ناهيك عن أننا في وضع اقتصادي متدهور)، تضيف: وضعوا راتباً لي قدره 40 ألفاً، ولكن بحسب الشرط السابق إذا لم أحضر لهم إعلانات بقيمة مليوني ريال، لا أحصل على راتب.

غادرتُ مكتبهم أحمل (خيبتي)!
والكلام ما يزال لسهى: حين عدت إلى المكتب الذي أرسلني إلى الشركة قلت لهم: لماذا لم تخبروني عن الشروط التعجيزية للوظيفة التي أرسلتموني إليها؟ رد علي موظف المكتب باستهزاء وضحكة ملؤها السخرية: هل تريدين أن ندفع لكِ رسوم اشتراككِ؟ فقلت نعم. أريد فلوسي التي دفعتها لأنكم كذابون، وكذبتم علي وعلى زملائي، ونريد حقنا منكم. فإذا بيد ذلك (المدير) تضرب على طاولةِ المكتب بعنف، مهدداً إياي بعدم تسليم رسومي، ورسوم زملائي، وتلفظ بألفاظٍ بذيئة، لا يمكن أن تخرج من فم إنسانٍ متعلم، فغادرتُ مكتبهم وأنا أقول في نفسي بأن رسوم الاشتراك التي يأخذونها من الشباب باسم الحصول على وظيفة، هي أعمال نصب، وأن إعلانات كهذه عن وظائف ليست إلا مجرد أوهام ينشرها السفهاء على مواقع التواصل الاجتماعي.

كنتِ تحت (التجــربة)!
من زاويةٍ أخرى يروي (معتصم) ما حدث معه: أنا أحد ضحايا هذه المكاتب، وجدتُ في دهاليزها استغلالاً بشعاً للشباب، كون البلد منشغلاً بمواجهةِ العدوان، نشطت هذه المكاتب التي لا ندري من وراءها، فيقدمون عروضهم للجنسين، وأخذ أرقام الفتيات بحجة التواصل معهن وإبلاغهن فور الحصول على وظيفة، ويقدمون إغراءات برواتب مغرية، فيتفاجأن بانتشار أرقامهن عبر المجموعات، ويتم مضايقتهن دون علمٍ من يقف وراء نشر أرقامهن، وفي حال عملت معهم إحداهن يقومون بتغييرها بحجة أنها كانت تحت التجربة، فيقولون لها مثلاً: كنتِ تحت التجربة لا راتب لكِ عندنا.
وكون (معتصم) عمل مع أحد تلك المكاتب، وما لاحظه عليه من تصرفات، يختم: لاحظنا أن تلك المكاتب الوهمية تقوم بتغيير السكرتارية كل أسبوع، وهي نصيحة أقدمها عبر صحيفة (لا) لكل الشباب ألا يأتوا إلى هذه المكاتب المشبوهة، ويطلبوا العمل عبرها، لأن الهدف ليس التوظيف، وإنما جمع مزيد من المال المدنس.

آخر الأوراق
 يرى مختصون اقتصاديون وتنمويون أن سبب تزايد عمليات النصب وتنوعها في الشارع اليمني، كتلك التي تمارسها مكاتب التوظيف، تمثل نتيجة طبيعية لشيوع القيم السلبية في المجتمع، وتغوّل رأس المال، والرغبة في التحول إلى الكسب السريع بغض النظر عن الأساليب المتبعة، وهو ما أدى إلى ما يعانيه الاقتصاد اليمني على جميع المستويات. وبحسب المختصين فإن الحد من عمليات النصب والاحتيال بكافة أشكالها يتطلب ضرورة إيجاد تشريعات جديدة تشرع فيها العقوبات، ولا تكون عقوبات شكلية، وتقديم الفاسدين والمحتالين أياً كانوا لمحاكماتٍ جادة وحقيقية، والعمل على سد أية ثغرات قانونية يفلت منها الفاسدون، تلك الثغرات التي كانت ولاتزال السبب الرئيس لنهب ثروات المال العام.