في وضع مأساوي ومحزن للغاية، لم يصله اليمنيون من قبل، وفي ظل حصار شامل وقصف وتدمير وحرب قذرة يقودها تحالف مكون من 10 دول عربية، بقيادة السعودية.. كل ذلك عزز أعداد الفقراء وشريحة البطالة والمرضى نفسياً والمجانين والمشردين.. ظروف قاسية قذفت بهم الى أرصفة الشوارع، وبالذات خلال الأشهر الأخيرة، نشاهدهم منتشرين في كل زاويا شوارع وأحياء العاصمة.. في زيارة خاطفة إلى شريحة المشردين والمختلين عقلياً، وجدنا قصصاً ومعاناة عدة سنسرد أهمها في هذا التقرير الميداني. 
 هرباً من صقيع البرد، وبخطى سريعة ابتدأت من جولة الرويشان مروراً بشارع حدة الى شارع الزبيري، ثم حي القاع، وصولاً الى سور الجامعة القديمة في العاصمة صنعاء. المسافة التي قطعتها ليلاً قد تكون بمقدار كيلومتر.. لكن على امتدد هذه المسافة شاهدت مشردين ومجانين كثراً يرتصون على أرصفة الشوارع، وتحت شوالات وأغطية خفيفة يضعون أجسادهم النحيلة داخلها خوفاً وتخفيفاً من صقيع البرد القارس هذه الأيام. البعض منهم يفترش أرصفة الشوارع بكراتين لينام عليها من دون أي غطاء، وهؤلاء هم المجانين الذين يمر من جوارهم آلاف المارة، وبرغم معرفتهم بمعاناة المجانين والمشردين والمختلين عقلياً من البرد والجوع، وأن هذه مجرد حلول بسيطة لاتقيهم من البرد القارس، لكن نادراً ما يبادر أحد من المارة ليتبرع ببطانية وأغطية وفرش لهؤلاء المشردين الذين تتسع شريحتهم يوماً بعد آخر في الشوارع، بسبب الوضع المادي وحصار وقصف العدوان السعودي على مدنهم ومساكنهم. 
تشرد وتسول
على محاذاة شارع الزبيري بالتحديد في الأرضية الخالية والملتصقة بالمستشفى الجمهوري، يقطن عدد من المشردين، وجوارهم أيضاً تقطن أسرة صغيرة، قال بعض الموطنين هناك لـ(لا) إن هؤلاء المشردين تعرضوا الى مضايقات، وتم طردهم من وسط الساحة عدة مرات.
قال ماجد، وهو صاحب بقالة مجاورة، إن المشردين اتخذوا هذه المنطقة كسكن قريب من المكان الذي يتسولون منه، وهو شارع الزبيري. وأكد أنهم بالفعل لا يملكون أي سكن، ولا يستطيعون حتى دفع إيجار شهري إن أرادوا ذلك. 
وأضاف أنه خلال أيام البرد يغادر بعض المشردين هذه الأرضية، ومنهم من يعود في الصيف بعد انتهاء برد الشتاء، والبعض منهم يستمر هنا تحت البرد حتى ينتهي. 
 
زوايا مخفية وسط الشوارع ينام فيها المشردون 
مقعد حديدي وضعته إحدى الشركات التجارية كدعاية إعلانية لمنتجها قبل أعوام في الجامعة الجديدة. يخرج أحد المشردين من تحت هذا المقعد كل صباح. قال لي أحد المواطنين هناك إن هذا المشرد ينام تحت هذا المقعد منذ سنوات، ولا أحد يضايقه. ويعتبر هذا المكان سكنه الوحيد والمفضل.. وأضاف بقوله: الجميع اعتاد عليه أنه مشرد (بعد حاله)، ولا يضايق أحداً. 
أما المشرد الآخر فلا يتوقع الكثير المكان الذي اتخذه ليستقر فيه لسنوات. لقد شاهدته بالصدفة ذات مرة وهو ينزل من فوق إحدى الأشجار في أحد الأرصفة، ولم أكن أتوقع ذلك، برغم مروري الدائم من جوار عشه المخفي فوق الشجرة، إلا بعد أن تأكدت، وجدت أن المشرد (سبك) له عشاً يشبه الخيمة الصغيرة. معظم المارة لايعرفون مسكنه، ومن يعرف أن المشرد معه عش، لا يعرف متى يغادر ومتى يعود إلى عش تشرده. 

الدفء الوحيد من يجمعهم
مشهد مؤلم كان لـ4 من مشردي الشوارع أشاهدهم أغلب الأيام أثناء عودتي الى منزلي في المساء خلال هذه الأيام الباردة. ملامح 3 منهم توحي بأنهم ليسوا مختلين عقلياً، وإنما الفقر والبوس والمعاناة والعدوان والحصار خصمهم الأول والأخير. أما الشخص الرابع فيبدو أنه مختل عقلياً من خلال سلوكه وملامح جسده المتسخ وارتدائه نصف سروال وبقيه جسده عارٍ كاملاً. جميعهم يتجمعون منذ دخول وقت المغرب جوار مولد كهربائي كبير تابع للمستشفى الجمهوري. وبهدوء تام يدفئون أجسادهم لساعات.. ولا يغادر بعضهم المكان إلا وتوافد آخرون بحثاً عن الدفء، وعلى هذه المنوال حتى الصباح. لقد قام المشردون بتنظيف المساحة المجاورة للمولد حتى تتسع للمتوافدين الكثر طوال الليل. 

من خارج العاصمة
عبد السلام شاب ثلاثيني مشرد منذ أن قدم من قريته في محافظة إب وصولاً الى العاصمة صنعاء، بحثاً عن العمل، قبل سنوات، لكنه لم يتوفق.. الوضع المعيشي وحالته المادية المتدهورة وعجزه عن الحصول على عمل يعول به نفسه، كان سبباً كافياً لتقذف به الظروف الى رصيف الجامعة القديمة، متخذاً بقعة صغيرة بمحاذاة سورها ليبيت فيه طوال السنوات السابقة. يستيقظ عبد السلام صباحاً من داخل (شوالته) التي ينام فيها، متجهاً للبحث عن قناني المياه المعدنية التي يبتاعها من أجل صرفة أكله وشربه. وعند المساء يعود الى بقعته جوار سور الجامعة القديمة. هكذا يمضي عبد السلام حياة التشرد جوار عشرات المشردين الذين يرتصون على مسافة سور الجامعة.
أثناء زيارة (لا) شاهدنا اثنين من المشردين يبدو واضحاً أنهما مختلان عقلياً، وجوارهما مشرد كبير في السن يتعدى عمره الـ70 عاماً. يعتبر الرجل المسن من المشردين الجدد، وأحد ضحايا الحرب والعدوان على اليمن. قال للصحيفة إنه انضم قبل 3 أشهر الى رصيف الجامعة القديمة، قادماً من محافظة تعز. حكى لنا بصوت مبحوح يملؤه الحزن، أنه فقد كل شيء في تعز بسبب الحرب والقصف، حتى أسرته التي قال إنها غادرت تعز وسبقته الى العاصمة لتستقر عند أقارب لها، لم يعد يسمع أخباراً عنها. قال إنه لا يعرف أحداً هنا، وإنه غريب عن كل شيء. بالفعل كان غريباً ووحيداً، ولم يجد أحداً يحتفي به، لا أقارب أوفياء ولا أحد، لينضم الى رصيف المشردين في العاصمة، متخذاً الرصيف مكانه الأخير الذي لم يتوقع ذات يوم أنه سينام عليه وسط لسعات البرد القارس ليلاً، وتحت حرارة الشمس المرتفعة نهاراً.

ليسوا (حرِّيب) ولا أمن سياسي 
ماتزال نظرة المجتمع تجاه المختلين عقلياً قاصرة وخاطئة. البعض مازال واثقاً بوهمه ويتعامل معهم على أساس أنهم (مخبرون وحرِّيب) يعملون لصالح أجهزة أمنية. إذا كانت هذه الطريقة حقيقة بالفعل مطلع السبعينيات والثمانينيات، فإنها حالة بدائية، لكن في وقتنا الحاضر لم تعد طريقة الجنون مناسبة كوسيلة استخباراتية في ظل العولمة والعالم الافتراضي وعصر المعلومة، بالإضافة الى تطور العاملين في هذا المجال. ولم يعد المجانين أداة استخباراتية، بل أصبح هناك أكاديميون وأشخاص في كامل وعيهم ومظهرهم الأنيق يقومون بمثل هذه المهمات (نموذجاً حزب الإصلاح)، الذي انتهج هذه الطريقة بين الأوساط والشرائح المختلفة، للتجسس عليها. 
لا داعي للتخوف اليوم من شريحة المختلين عقلياً ومن مشردي الشوارع. ولا تستغربوا من سبب اختفائهم المفاجئ من أرصفة شوارعنا، لأنهم يموتون غرباء بأمراض، أو يتجمدون في البرد، أو يغادرون الحياة بحوادث مرورية. هذا ما يؤكده مدراء مستشفيات حكومية بتصريحاتهم بأن لديهم عشرات الجثث لمختلين عقلياً في ثلاجات المستشفيات منذ سنوات، مطالبين أهاليهم بالحضور والتأكد من هوياتهم. يغادرون عالمنا غرباء لأنهم مجانين بالفعل لا يملكون حتى هوياتهم، ولا أقارب لهم ولا أحد يعرفهم. فقط ذنبهم أنهم جُنوا في بلد كهذا بسبب الفقر والصدمات النفسية والإهمال من قبل أسرهم، بالإضافة الى عدم وجود جهة رسمية لاحتواء المختلين عقلياً. وإذا تفاعلت المصحة الوحيدة المخصصة لذلك في العاصمة، حسب أطباء كانوا يعملون فيها، قالوا إن المصحة غير مؤهلة، وعاجزة عن القيام بدورها، حتى وإن فعلت ذلك، فإنها تفاقم حالات المختلين عقلياً للأسوأ، وتصبح مستعصية على العلاج، وهذا بسبب الطرق والوسائل العلاجية القديمة المستخدمة، واستخدام الحقن التي عفا عليها الزمن، ولا توجد طرق حديثة وتأهيل كفيل بعلاجهم كما هو مطلوب. 

البعض ينظر للمشردين باحتقار وتذمر 
لا توجد إحصائيات رسمية ولا أرقام ولا رعاية ولا أمن صحي ولا اهتمام اجتماعي أو أسري ولا حكومي، ولا حتى مبادرات خيرية خاصة أو منظمات حقوقية قد تحد من زيادة اتساع شريحة المشردين التي نشاهد ضحاياها يملؤون الشوارع يوماً بعد آخر، مفترشين كراتين وأسمالاً بالية متسخة ليناموا عليها تحت صقيع البرد ليلاً وحرارة الشمس نهاراً. حال المشردين في شوارع العاصمة محزن جداً. لكن للأسف نادراً ما نجد من يتعاطف مع هؤلاء المشردين ليساندهم ببعض الملابس والبطانيات والفرش والأكل، أما الغالبية العظمى فيشاهدونهم على أساس أنهم مختلون عقلياً أو مشردون يحبون التشرد والبقاء في الشوارع. ناهيك عن أن بعض المارة من المواطنين ينظر إليهم بتقزز، ويتعامل معهم بكل احتقار وتذمر. 
العدوان ضاعف أعداد المشردين 
في تصريح سابق لمدير المصحة النفسية الكائنة في حي الصافية بالعاصمة صنعاء، قال إن عدد المختلين عقلياً يتجاوز الـ500 ألف حالة على مستوى اليمن. وقال مختصون اجتماعيون ونفسيون لصحيفة (لا) إن الأرقام الحقيقية قد تكون أكبر من ذلك بكثير. 
وأشاروا إلى أن هذه الإحصائية كانت قبل سنوات، وقبل العدوان والحصار على اليمن الذي فاقم هذه المشكلة والمأساة، ومن المؤكد أن أعداد المرضى نفسياً والمختلين عقلياً والمشردين ارتفعت بأضعاف عن الإحصائية السابقة. 
وأضاف المختصون أن الحرب والحصار على اليمن كانا سبباً في تدهور الأوضاع المعيشية، متمثلاً في فقدان الناس أعمالهم بسبب تدمير أماكن أشغالهم ومساكنهم، بالإضافة إلى أن هناك الكثير ممن فقدوا أسرهم وأقرباءهم بسبب القصف.. كما أن الوضع المادي والاقتصادي المدمر وانعدام سبل العيش تماماً أمام الآلاف من الموطنين، ساعدا في زيادة أعداد المختلين عقلياً والمصابين بالأمراض النفسية والمشردين. 
وأوضحوا أن وضعاً كهذا يجعل الذين يعانون ضغوطاً نفسية والتزامات أسرية من السهل أن يصبحوا عرضة لإصابتهم بالاختلال العقلي، والأمراض النفسية. وأكدوا أن الفترة الأخيرة شهدت عدداً كبيراً لمجانين ومشردين وجوههم جديدة توافدوا وأصبحوا ضحايا في الشوارع. 
ولمح البعض الى أن ثقافة وعادات الكثير من الأسر اليمنية تُعيب الكشف عن أحد أفرادها مصاب بمرض نفسي، فإما أن تحبسه داخل المنزل دون أن تقوم بعلاجه، أو تتخلى عنه وترحله بعيداً عن منطقتها، مشيرين إلى أن الجانب الاقتصادي للكثير من الأسر يحول أيضاً دون علاج الكثير من المرضى النفسيين. 
في الوقت نفسه، دعا المختصون النفسيون منظمات المجتمع المدني الحقوقية والجمعيات الخيرية وفاعلي الخير والجهات الحكومية الى الوقوف بجانب المشردين والمختلين عقلياً، ومساندتهم، ووضع حلول اقتصادية سريعة ومؤقتة، وتوفير أعمال لهم، ومعالجة المصابين منهم بحالات نفسية، وهم بحاجة للمساعدة، خاصة في ظل الأجواء الباردة خلال هذه الأيام.