تفاقمت مؤخراً الأزمات الداخلية السعودية، وبالأدق في البنية الحاكمة المسيطرة التي تتفجر داخلها الاحتقانات والتناقضات التناحرية الاستئصالية: سياسية طبقية اجتماعية اقتصادية ثقافية مالية ديموغرافية، مشبعة بالكثير من المشكلات المتوارثة والمتراكمة منذ النشأة مطلع القرن الماضي، حيث كان بناؤها الاستعماري الاستيطاني قائماً على هذه التناقضات البينية.
يعاني العدوان أزمات في مساراته الحربية والسياسية والاقتصادية لا تتوقف، كمأزق وأزمة شاملة سبق أن عرضناها في الأشهر الأولى من العدوان بدراسات نشرناها في (المسيرة) و(لا) عام 2015م، أكدنا فيها أن أثر ونتائج العدوان سترتد عكسياً على البنية الحاكمة السعودية، لتفجر جميع تناقضاته التي حاول بالأموال أن يخمد تفاعلاتها. ففي النهاية تعمل التناقضات المضغوطة كأية قوة مخزونة تتعرض للمزيد من عوامل ومتغيرات الانفجار، ولا تجد أي منفذ سوى أن تنفجر لتطيح باللب الداخلي لمركزها الذي أطلقها، وسرعان ما تحطمه تحت ثقل قوتها لتأتي على البنيان كله، ولا يمكن التحكم بصيرورتها.
وبعد قرابة ألف يوم من عدوانه فقد تكالبت عليه النتائج من كل جانب من الخارج والداخل، وأصبح السعودي يحارب - بالوكالة - على جبهات عديدة سرعان ما عرضته للإنهاك والترنح. وهو يحاول الآن أن يجد له مخرجاً من متاهة الحرب ضد اليمن، لكنه وبرعونة قيادته وغرورها وغبائها وقلة تجاربها وبقائها بيدقاً بأيدي ترامب وأجهزة المخابرات الأمريكية؛ يضاعف من تداعيات هذه التفجرات الداخلية.
كما أن معارك النظام السعودي في السباق على العرش تحتاج لاستمرار دوران ماكينة القتل والحرب ضد اليمنيين بأي شكل؛ لأنها تجد فيها وحدها إمكانيات التحرك للانقضاض على التاج الملكي الذي تدور عليه الحرب الداخلية الآن بضراوة لا رحمة فيها بين كبار الأمراء والديناصورات (القروسطية) المتخمة بتريليونات الدولارات النفطية المنهوبة.
إن نتائج العدوان على اليمن جاءت مخيبة لآمال الحكام السعوديين، فيما يشتد الصراع بينهم حول المسؤولية عنها، لاسيما مع عدم مقدرتها على الخروج دون تسوية سياسية تضمن انتهاء هذا الحال وانتفاء المسؤولية. ويمكنها أن توقف الجيش اليمني عن مواصلة التقدم والسيطرة في عمقها الجنوبي.

محطات للأزمة البنيوية السعودية
تتشابك أزمات العدوان الخارجية مع أزماته السياسية الداخلية التي عبرت عن نفسها في عدة تفجرات سابقة.
كانت إزاحة الأمير محمد بن نايف عن موقع ولي العهد أحد أهم التفجرات الأولى بفعل مردود نتائج العدوان على اليمن. إذ رأى في الإخفاق والاستعداد لدفع الثمن والتوصل إلى حل سياسي، ضرورة لتقوية موقعه التنافسي أمام ولي ولي العهد بن سلمان. وقد عبر عن هذه الإرادة في اجتماعات عدة سربت مجرياتها للإعلام.
وكشف ذلك حجم التمزقات والتباينات في المصالح بين الأجنحة داخل الأسرة المسيطرة، وأثر الهزائم المتوالية والاستنزاف المالي الجنوني الذي سحب المملكة النفطية الثرية حد التخمة إلى الاستعانة بالقروض من المؤسسات الدولية النقدية، تزامناً مع الاستهلاك من الصناديق المستقبلية للاستثمار المودعة في بنوك الخارج. ورافق ذلك تكون عجز مالي سنوي قدر بأكثر من 100 مليار دولار، إلى جانب تناقص الودائع المالية في الداخل والخارج. بينما تتجاوز الخسائر المالية جراء الخسائر العسكرية لعامين من العدوان فقط ألفي مليار دولار، وستصل إلى 3 تريليونات نهاية العام الثالث، وهذا ما تؤكد عليه أغلب المراكز الإعلامية والبحثية الغربية.
من جهة أخرى، فقد جاءت الضربات الصاروخية اليمنية للعمق السعودي، لتضاعف من المشكلات والمعضلات في أتون صراع داخل القيادة الأسرية السعودية. فالمطلوب كان تدمير اليمن لا تطوير قدراته الصاروخية التي باتت تصل عواصمهم.

الصراع على العرش والدور الأمريكي والبيروسترويكا الوهابية
معلوم أن صعود بن سلمان على حساب بن نايف كان بتنسيق أمريكي مع ترامب مدفوع الأجر، والتزام الملك المنتظر بالبرنامج الأمريكي (التحديثي) لإعادة تأهيل دور الكيان السعودي في الاستراتيجية الأمريكية الصهيونية. وما يجري الآن فعلياً، هو تصعيد أسرة مالكة جديدة تتمحور حول عائلة سلمان وأولاده والموالين لهم من أبناء العمومة.
وهو ما معناه صناعة انقلاب شامل جذري على شخوص الأسرة السعودية القديمة وإسقاطهم من سدة السيطرة السابقة لصالح قوى سيطرة جديدة من الأسرة، فالانقلاب الجاري الآن يطيح بهيمنة الأسرة السابقة وأمرائها في جميع المواقع. وذلك يشابه كثيراً انقلاب السيد جورباتشوف خلال حكمه للاتحاد السوفيتي السابق.

التناقض المهيمن
الصراع يجري هناك ليس بين طبقات مختلفة، وإنما بين شرائح من نفس طبقة الارستقراطية العشيرية المسيطرة التي تباينت تدريجياً مصالحها وأنشطتها وأهدافها.
وأهم خلفيات ذلك، هي أزمة الهوية الحادة التي تعيشها السعودية، فهي تظهر العروبة والإسلام، بينما نشاطها على الأرض صهيوني إمبريالي غربي، وهذا الازدواج التناقضي الرهيب جعل المملكة في مهب الريح من حيث تداخل الأوراق وازدواج المواقف التي جعلت جزءاً كبيراً من البنية المسيطرة خاصة الحديثة تعيش مشطورة التفكير والرؤية، فقد أصابته معضلة أزمة الهوية في الصميم، وجعلته في مأزق وجودي حاسم. وقد أراد من خلال العدوان على اليمن أن يعالج مشاكل المملكة بتصديرها إلى الخارج فزادته تفجراً ومعضلات ومصائب لا يجد لها حلاً ولا مخرجاً سوى محاولة تفكيك الكيان القديم وإعادة بنائه وتشكيله وفقاً لأولويات جوهره الأصلي ومستجدات اللحظة.

التناقض القومي العروبي الإسلامي
يلعب هذا التناقض الدور المهيمن على تناقضات الكيان منذ إقامته في قلب الجزيرة ككيان غريب لا يختلف عن دور الكيان الصهيوني، بل هو يكمله ويحميه ويؤسس ويشرعن له، لكنه قد غرق في قلب التناقضات والملابسات المحلية القومية والعقيدية، فتأثر بها -من حيث التزامه الإعلامي بها- بقدر ما أثر عليها. والتأثر بها لم يكن من حيث تبنيه لها أو ما شابه، لكن بمردوداتها عليه كالتزامات أمام الشارع العربي الإسلامي الذي تكشفت له الصورة الحقيقية لماهية الكيان السعودي، وبات يقف نقيضاً لهذا الحال، الأمر الذي أفقد جانباً كبيراً من التلطي السلطوي السعودي بدعاوى (خدمة الحرمين وصون الإسلام وتجسيده...)، وبالتالي فقدان جزء كبير من عوامل السيطرة والاستمرار.
وبعد أن كان الجيل الأول من المكلفين من النخبة بمواصلة الدور الامبريالي وتنسيقه بحذق وتمويهه بدراية، فقد جاء جيل بعدهم لم يعد يفقه أسرار وشفرات الكيان الموضوعة بأيدي صانعيه الإمبرياليين للتعامل مع الملفات المحيطة والداخلية.
وفي ظل اشتداد المقاومة العربية التحررية للمنظومة الإمبريالية الصهيونية التي يقابلها انحسار كامل للأخير، وضعف يتجلى كل يوم، دخل الكيان السعودي في صراعات تفتك بوجوده. 

الملك الضال.. ابن السبية
وقد ظهر بوضوح هذا الضعف عن أداء الدور الوظيفي بحسب القواعد والإرشادات المرسومة، في عهد حكم الملك عبد الله وبعده.
لم يكن عبد الله محل ثقة أبيه، فأمه أخذت سبية بعد عدوان عبد العزيز على قبيلتها آل الرشيد القحطانية الشمرية التي كانت أسرتها حاكمة لها، وقد حاول الملك عبد العزيز التخلص منه.. وما أعطى عبد الله محلاً من الحكم كان من خلال موقعه في (الحرس الوطني) وترجيحه الصراع على العرش الملتهب مع الملك سعود لصالح الأمير فيصل. وهو ما حال دون تجاوزه من قبل إخوته السديريين.
ويبدو أن عبد الله -إلى جانب عوامل أخرى- كان محملاً بذكريات أمه (السبية) وما لاقته من عذابات المذابح لذويها، إلى جانب ما ورثه عن عائلة والدته وموقعها العروبي ومقاومتها الزحف الوهابي الصهيوني وإرثها الحربي. وهذا الإرث الأخير يبدو أنه أثر بنزوع الملك عبد الله إلى الشعور باستقلالية وهيلمان وقوة، بينما لا يعرف أن ذلك غير ممكن، فالكيان بني وظيفياً ولن يبقى خارج هذه الدائرة الوظيفية.. وهو الأمر الذي جعله يلغم عدة مواقع حساسة حاكمة من أقاربه محدثاً نوعاً من التوازن مع الشجرة السديرية التي راحت بدورها تستشعر الخطر والإزاحة، واتجهت لترتيب مسلسل التصفيات الأخير للشريحة التي صعدت في عهد عبد الله، والتي تأتي ضمن سيناريو صهيوأمريكي أغراضه أكبر من تصفيات متبادلة بينية.
ما يهمنا، هو ملاحظة الآثار التي ترتبت على سياسات عبد الله في الدور الوظيفي للكيان. فقد وسمت سياسته بنكهة خاصة به تقاطعت مع الأصول الشفرية للكيان وأهدافه، ومنها تطور علاقاته بالرئيس الأسد في سوريا، وخلق علاقات تقاربية كان لها آثار هامة في توفير أجواء تصالحية نسبية بين المحاور العربية مؤقتاً، وتخفيف حدة النزاعات البينية، لكنها في الوقت ذاته أنتجت اضطرابات بنيوية في طبيعة الأهداف الخاصة بالكيان.

المحيط وتداعيات تغيراته 
على الكيان السعودي
ليس من قبيل الصدفة أن كل حدث في المحيط الجغرافي المجاور للسعودية الآتي خارج الإرادة أو المصالح الإمبريالية، تكون له ارتداداته القاسية على البنية المسيطرة السعودية. وذلك أن البناء السعودي ككيان وظيفي لجهة الإمبريالية والصهيونية، قام بمنطق التوسع على الأراضي والبلاد العربية وشعوبها، وإخضاع كل المحيط العربي لسيطرتها بالوكالة، وتصفية أي اتجاه عربي وإسلامي مقاوم وثائر، عوضاً عن التساند والتضافر مع الكيان الصهيوني وحمايته وتوفير شروط وعوامل بقائه...
(في مراسلات (تشرشل - روزفلت) يتحدث الأول -في سياق توضيحه لواقع العالم العربي- أن بريطانيا شرعت بالإعداد ببناء الكيان السعودي قبل أن تفكر ببناء الكيان الإسرائيلي).. إن ذلك يوضح الدور الإمبريالي للكيان السعودي وماهية بنائه.
فكل تغيير لصالح جبهة المقاومة والتحرر في المنطقة، يصيب الدوائر السعودية والدولية بالجنون والهوس والقلق الفظيع، وهو الأمر الذي يشعل جنون التراشق بالمسؤولية وضرورة تقديم (كبش فداء)، عوضاً عن أنه ذلك يفر الفرص الأمثل للانقضاضات المتبادلة على كرسي الملك.
على خلفية توسع رقعة المد العروبي التحرري الناصري في المنطقة العربية، نشب الصراع على الملك بين الملك سعود والأمير فيصل. وانتهى الصراع بصعود فيصل للحكم، فيما ذهب سعود لمصر والإعلان أنه بصف الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وسبب ذلك إرباكاً كبيراً في الداخل السعودي ولدى دوائر السيطرة الدولية.. لتنتهي تلك المرحلة باغتيال الملك فيصل في مخدعه من قبل أحد أقاربه، وكشفت لاحقاً أنها بتخطيط أمريكي مخابراتي.
وإثر انفجار (الثورة الإسلامية في إيران) بقيادة الإمام الخميني سلام الله عليه، تفجرت الأوضاع في السعودية بما عرف بأحداث مكة أو انتفاضة الحرم التي استمرت ملتهبة لقرابة الشهرين في الحرم، ولم يتمكن النظام السعودي من تجاوز ذلك إلا بتدخل قوات خاصة من أمريكا والأردن وبريطانيا لقمع الانتفاضة.
أيضاً من التفجرات الداخلية البارزة، كانت هزيمة التدخل السعودي في اليمن أثناء الحروب الست، وخسارة الحرب السادسة وسقوط مواقع سعودية حيوية أبرزها الجابري والدود في جيزان، تأزم الداخل السعودي، وأطيح بالأمير سلطان وولده المتوليين للملف اليمني، وآخرين.
لكن المشهد الأبرز من التفجرات الداخلية كان السنوات السبع (العجاف) الأخيرة بالنسبة للسعودية، فاشتعال الثورة البحرينية وتدخل السعودية لقمعها، فجر في عمق الأخيرة الأوضاع الاجتماعية والسياسية، لاسيما في مدن الشرقية والقطيف، وآخرها العوامية، وما شاهدناه من حملات واسعة للتصفيات والاعتقالات لناشطين سعوديين ولرجالات وقادة رأي وعلم.
ومع شن العدوان الكوني على اليمن وبلا نتائج، وفشل العدوان على سوريا والعراق، اتسعت وتضخم حجم التداعيات على الداخل السعودي بما لا يمكن احتواؤه، وفجر أزمة شاملة في بنية الحكم والعلاقات وكل التراكمات التاريخية، بدءاً من الأزمات الاقتصادية والأمنية والاجتماعية والديبلوماسية، إلى الصراعات البنية من تصفية الشخصيات من غير السديريين، والوضع الذي أقامه الملك عبد الله، إلى بدء الانقلاب على بن نايف بتصعيد ولي ولي عهد له هو بن سلمان، مروراً بالتأزم الخليجي البيني والانقسام في صفوف (دول مجلس التعاون الخليجي) من عمان والكويت وأزمة حصار قطر، وصولاً إلى مسلسل التصفيات الجاري بشراسة لعشرات الأمراء والمسؤولين بمقدمتهم بن نايف ولي العهد السابق، ومتعب بن عبد الله قائد الحرس الوطني، وأحد أثرياء العالم العشرة الوليد بن طلال.. وليس هذا آخر الأمر.
إن هذه الهستيريا التصفوية والانقلابية والدموية كانت نتيجة مباشرة بالدرجة الأولى للهزائم القاسية التي تلاقاها الكيان الوظيفي في المنطقة، فيما مدراؤه الدوليون في واشنطن ولندن عازمون عقب هذا الفشل عن أداء المهام المنوطة بهم إلى إحداث تغييرات شاملة شديدة القسوة في البنية السعودية وتحميلهم أكلافاً ضخمة جداً.
وما يبدو جلياً أن هذه الصراعات ستواصل التفجر إلى مديات لا تحتمل نتائجها على البنية السعودية. 
وخلال الأحداث في سوريا وفشل الحرب عليها، وشن العدوان على اليمن بلا نتيجة، تفجر الوضع السعودي إلى أقصى مدياته، ولا يزال.
من جهة أخرى، فقد ذهبت السعودية لمعاوضة خسائرها ومداراة كوارثها وأزماتها إلى إعلان العلاقات مع الكيان الصهيوني والعداء للقضايا العربية والإسلامية, وإطلاق سيل الفتاوى لصالح الكيان وبالضد للمقاومة العربية والإسلامية والقضايا العربية، بمقدمتها فلسطين.
إن الكيان السعودي، بكل تأكيد، صار في المرحلة الأخيرة من استنزاف عوامل بقائه وسيطرته.
ويبقى السؤال: كم من العمر سيمد به النفط ومنظومة البترودولار عموماً الكيان الوظيفي السعودي قبل الوصول للسقوط الذي سيكون وبلا شك: مدوياً؟
لا نعتقد أن ذلك سيأخذ وقتاً طويلاً، لاسيما وأن جبهة المقاومة والتحرر في توسع تظل أمامه الكيانات الوظيفية في انحسار شديد.