ها هي 3 أعوام تمر على وصول الثورة الوطنية التحررية إلى أهم قلاع التبعية والاستكبار، كما هي على الشروع بالعدوان عليها لتقويضها وإرجاع شعبنا إلى حظائر الوصاية والخنوع والذل.. لم يحقق العدو أكثر من الخسائر، ليس على المستوى الميداني المباشر والتكتيكي وحسب، بل وعلى المستوى الاستراتيجي ككل، ليتعدى الأمر إلى فشل نظرية الحرب واستراتيجية المواجهة وفي مستواها الكوني، والتي تعدها أعلى الدوائر الإمبريالية وأكثرها انغلاقاً ودقة.
الحرب الوطنية التحررية وفشل الاستراتيجية العدوانية ميدانياً ونظرياً
 نتيجة لعجز العدوان عن إنجاز سيطرة فعلية استراتيجية على الأرض - واستحالة تحقيق الهيمنة الجوية المطلقة - فإن الهجوم البري الحاسم للعدوان غدا مستحيلاً، وستظل الحرب الجوية خيار العدو الرئيسي - وهي خيار تكتيكي/ استنزافي - لا يحسم معركة، ولا يسيطر على أرض. 
يبدو أن تحالف العدوان -وما يعكسه التخبط والجنون وعم التركيز والتوهان - تضاءلت استراتيجيته إلى أن تحافظ على حرب عصابات المرتزقة المدعومة جوياً وآلياً بنمط مناوشات كر وفر طويلة الأمد وغير حاسمة، ترافقها حرب جو وإبادة وتدمير واستنزاف ومحاولات تفجير الأوضاع الأهلية الداخلية، وهدفها ليس تدمير الخصم - فذلك فوق طاقته - وإنما استنزافه وإجباره على التفاوض بالشروط التي تفرضها مزايا العدوان المالية والجوية والدولية والاقتصادية، وذلك ما يتوهمه.
إن الحرب الجوية التدميرية والسياسية للعدوان قد أفلست، ذلك أن الحروب السياسية العدوانية يستحيل نجاحها في مواجهة حروب الشعب السياسية الوطنية التحررية والعسكرية، لكونها تملك القدرة على النصر لسببين، الأول أنها وطنية تحررية عادلة تستند على الشعب المقهور المسلح والمستعد للتضحية دون كلل لأجيال متعاقبة، وخلفها تأييد العالم المظلوم كله ولو معنوياً، ولها مخزون معنوي ضخم جداً، وإيمان وصلابة مجالدين أسطورية. والسبب الآخر، أن اليمن تملك قواماً قتالياً عرمرماً وقوياً حديثاً مجرباً ومقداماً يربو على المليوني مقاتل الرسميين والشعبيين، وخلفها احتياطات هائلة من الشعب المقهور المحارب بالفطرة..
إن هذا الوضع يضع المحارب اليمني في كفة الغلبة الاستراتيجية والتكتيكية ضد أعدائه.

من الغالب؟
دوماً ما كان أصحاب الأرض المظلومون المقاومون، هم أصحاب الغلبة والتفوق بحكم معرفتهم بأرضهم وارتباطهم العميق بها، على العكس من الغازي الذي دوماً يتملكه شعور الغريب، إضافة لكونه يظل في خوف وتوجس دائمين لكونه غير عارف بالأرض.
عندما يكون المعتدي والمحتل للبلدان أقوى عسكرياً؛ فإن الدولة المدافعة تكون في حالة حرب وطنية سياسية وعسكرية مشتركة، وتكون استراتيجياً في حالة الدفاع الوطني، ولا تستطيع شن الهجوم الكبير على المعتدي من اليوم الأول للهجوم العدواني، بل إن محاولات الهجوم الكبير قد تسبب لها المزيد من الخسائر العسكرية، عندما يكون المعتدي لا يزال قوياً وفي أوج قوته وفي ذروة حماسته القتالية.. ولذلك تأتي حروب العصابات الثورية الطويلة، حرب الصبر والذكاء والإيمان والإخلاص والتركيز، وقد تطول لسنوات إلى أن تتعدل التوازنات بين القوات، لاسيما عن طريق توسع جبهات العدو وطول طرقه ومحاوره واستنزاف الكثير من قواته نتيجة توزعها على جبهات عديدة، بينما تكون الأوطان المتحررة محتفظة بقواتها الرئيسية في مناطق آمنة، وتواصل التأهيل، وتفرز مفارز خفيفة الحركة لتشن حروب العصابات على جوانب المعتدي ومؤخراته وخطوط إمداداته الإدارية التي تشكل أضعف نقاط منظوماته الحربية وأخطرها تأثيراً على الجيش الغازي.
وهذا كان سبباً لهزيمة أقوى الجيوش في أوروبا والعالم - نابوليون في إسبانيا وروسيا في القرن التاسع عشر، وهتلر في القرن العشرين، وبريطانيا وفرنسا في حروب السويس والجزائر وعدن وإيرلندا، وإسرائيل في لبنان وغزة وسيناء، وأمريكا في فيتنام وكمبوديا ولاوس وكوبا، وإيطاليا في ليبيا، وإسبانيا وفرنسا في المغرب العربي.
هزيمة المعتدي الاستراتيجية.. مزيج عسكري سياسي أخلاقي واقتصادي ونفسي، كيف تفسر هزيمة فيتنام الضعيفة لأمريكا القوية؟ وكيف مصر الضعيفة هزمت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل مجتمعة؟ وكيف الجزائر هزمت فرنسا؟ وكيف عدن الفقيرة هزمت بريطانيا العظمى؟ وكيف حزب الله الفقير هزم إسرائيل؟

تعريف الهزيمة والانتصار
على ضوء التجارب التاريخية 
في فيتنام كانت الخسائر اليومية الفيتنامية أكثر من الخسائر الأمريكية اليومية: 4.8 مليون شهيد وجريح فيتنامي خلال 10 سنوات، مقابل 60 ألف جندي أمريكي وضعفهم من المرتزقة المحليين. أي أن الفارق هائل جداً، ومع ذلك فالنتيجة كانت هزيمة الطرف المعتدي الأمريكي، وخسر آلاف الطائرات الحربية وآلاف المدرعات والآليات، وبلغت تكاليف الحرب 150 مليار دولار، وفقدانه كل المخزون الذهبي الوطني المودع كغطاء للعملة الأمريكي. كانت الخسارة والانسحاب الأمريكي برغم كونها لا تزال تسيطر على مناطق كبيرة في جنوب فيتنام، ولا تزال لديها احتياطات سلاح وإمكانيات وجنود كبيرة أكبر من المدافعين!
وقبلها كانت فرنسا أقرت بهزيمتها بعد معركة كبرى طويلة هي معركة (ديان بيان فو) في العام 53م من الشمال الفيتنامي، واحتفظت بالجنوب حتى العام 64م، وسلكت مواقعها للأمريكيين.. لم تحدث الهزيمة نتيجة سحق كامل لقوات العدو وإمكانياته، وهذا الحال تكرر مع عدة نماذج أجنبية وعربية منها حزب الله مثلاً واليمن في 67م ضد بريطانيا.

حروب يصعب قهرها: حروب الشعب 
في حروب الشعوب الطويلة قد لا تكون الهزيمة عسكرية مطلقة وتامة، وإنما نسبية، إلا في حالات تاريخية معينة تكون فيها القوات الشعبية المسلحة للدولة الوطنية قد أصبحت أكبر وأقوى في نهاية الصراع الذي يدوم لسنوات، وتطورت التوازنات لصالح جيش الدولة الوطنية التي حققت اختراقات هامة.
والحرب في حقيقتها معركة إرادات غايتها إخضاع إرادة الخصم لإرادة المتغلب تحت وطأة الضغط المريع والصدمة.
والخسارة الحقيقية هي خسارة إرادة، أي انكسار العزم على مواصلة الصراع والقبول بالهزيمة على أنها نهاية التجربة، ومآل الصراع والاعتقاد بأن لا أمل في المواصلة والمحاولة والخوف من تحمل أكلاف الصمود.

كيف تحسب توازنات القوى بين الطرفين؟
تحسب على أساس موازين متكافئة ثلاثة: هي قوة العدد وقوة العدة وقوة الروح، والنتيجة تكون في صالح الذي يملك تفوقين على الأقل في مجالين أو أكثر؛ فإذا تكافأت القوة في مجالين فإن التفوق يكون في العامل الثالث الذي يمنح صاحبه إمكانية النصر، وخاصة إذا كان هذا التفوق في الجانب الروحي المعنوي والعقلي والنفسي والسياسي والفكري والعقيدي والقيادي.
فالأقوى معنوياً وإرادياً وصاحب الحق هو المتغلب وإن خسر مادياً وبشرياً مادام على أرضه وبين شعبه، فخسارته مؤقتة وحالة تزول، يمكن له أن يعيد مراكمة القوى مجدداً؛ لأن القوة المعنوية للأضعف المعتدى عليه تزداد كلما زاد الاضطهاد والظلم أكثر فأكثر لتصل إلى مرحلة لا يقبل فيها جندي العدو المزيد من القتل والظلم، ولا يملك دافع القتال والتضحية، وبالمقابل تزداد الطاقات الإيثارية للمعتدى عليه، ويزداد صلابة وقوة وشموخاً وشجاعة وإصراراً.
ويعجز المعتدي عن مواصلة السيطرة على البلاد نتيجة استمرار وتطور المقاومة الشعبية رغم الخسائر للمحتل الأجنبي.
كما تصبح العملية غير مربحة، بل مكلفة للمعتدي، فيصل إلى مرحلة العجز عن الوفاء بالتكاليف المالية لمواصلة حرب السيطرة، فينهار اقتصادياً قبل أن ينهار عسكرياً. فيضطر إلى طلب المفاوضات والتنازل عن البلاد لأهلها والرحيل عنها مجللاً بالعار. هذه الصورة النمطية للمهزوم لم تعد تطابق الواقع الجديد الذي اجترحته حروب الشعوب التحررية الجديدة.
 
قوة الرأي العام في الحرب وتأثيرها سلباً وإيجاباً
لا يستطيع المدافع إحداث التدمير المادي الكامل بالعدو؛ بل هو يحدث تدميراً بشرياً وتقنياً جزئياً، إضافة إلى تدمير معنوي كبير واقتصادي أكبر؛ حتى يصل المعتدي إلى مرحلة لا يجد معها الاستمرار مفيداً له.
تطورت قوى الرأي العام الداخلية للمستعمر، حيث وأصبحت للصحافة قوة خاصة مؤثرة ومعارضة سياسية قوية تتصيد كافة الفرص والأخطاء للحكومات، علاوة على دخول تكنولوجيا المعلومات والأخبار، مثل ذلك عاملاً أساسياً من تحول الانتصارات والحروب.
حين خرجت للرأي العام الأمريكي حقيقة الحرب في فيتنام، ووضع جنود بلادهم وجثامينهم وصورهم وهم يتهافتون على اللحاق بالهيلوكبترات للفرار، نزل الشعب الأمريكي إلى الشوارع يطالب الحكومة بالانسحاب، خاصة وأن أبناءه لا يحققون نتائج مفيدة، ولا يحققون الأرباح الموعودة. فسرعان ما يبادرون إلى المطالبة بإعادة الجنود ووقف الحرب غير المفيدة.
إن عوامل متعددة يجري توحيدها في النهاية تعطي النتيجة، فكسر إرادة المعتدي وتخليه عن الأهداف السابقة التي وعد بها جمهوره الذي يكتشف أن لا جدوى من الحرب، وأن من الأفضل الانسحاب والسماح للأبناء بالرحيل والعودة إلى الوطن، قبل أن يصير ذلك مستحيلاً.. وحين يخرج الشعب في بلاد المعتدي مطالباً برحيل وعودة قوات بلاده، يكون العدو قد خسر الحرب استراتيجياً، ويبدأ البحث عمن يفاوضه للخروج الآمن من البلاد، وأحياناً يضطر إلى الخروج بدون تفاوض ولا ضمانات أمنية تحمي قواته المنسحبة.
وتلك هي الهزيمة الاستراتيجية للمعتدي، هزيمة إرادته وعجزه عن المواصلة والاستمرار وتحمل التكاليف والخسائر البشرية والاقتصادية والمعنوية.

استراتيجية تقييد وشل العدو 
وباختصار فإن هذا النوع من الحروب المؤدية إلى هزيمة العدو يمكن تسميته بتقييد وشل العدو استراتيجياً قبل سقوطه التام، حينها يكون في وضع لا يستطيع معه أن يتقدم أو يتأخر رغم احتفاظه بقواته الكبيرة الأقوى؛ إلا أن المقاوم على الأرض استطاع أن يقطع الطرق على حركته أو جعل حركته خطرة أو عرضة لحصار بعيد تقل معه المؤن وتتناوشه عصابات المقاتلين الذين ينقضون عليه من كل جانب في كل خطوة يخطوها.
هذه صورة تقريبية عن هذا النمط من المقاومة الشعبية التي تقيد العدو بين التغلب والهزيمة الاستراتيجية بدون تدمير مادي شامل للعدو.

ارتفاع التكاليف 
أحياناً ينتج الانكسار ليس من الإجراءات التقييدية فقط، بل ومن النتائج وارتفاع التكاليف البشرية والمادية وتأثيرها اقتصادياً على وضع الدولة المعتدية، كما تحدث الهزيمة إذا كانت زعامة التحالف العدواني ومركز ثقل الحرب مرتبطة بالخارج أو بمركز آخر داخلي أو خارجي، فإن تعرض هذا المركز الخارجي أو الداخلي للانكسار أو للتحييد أو للتعطيل، فإن ذلك ينعكس على موازين القوى في خلل مفاجئ رهيب التأثير يؤدي إلى النتيجة الانهزامية ذاتها.

هزائم العدوان السعودي الأمريكي 
أين نضع السعودية وهزيمتها الاستراتيجية القادمة الممكنة؟ وفي أي إطار أو نمط؟ 
السعودية تقع بين النمط الأخير وبين أنماط أخرى، وهي نمط من المعتدين ليس قوياً بذاته؛ ولكن قوي بقوة المركز العالمي للاحتلال والعدوان، ما إن تهتز مكانة هذا المركز العالمي أو الإقليمي حتى ينهار الكيان التابع الملحق.. وبالتالي فإن خليطاً من الهزيمة المادية والبشرية والمالية والمعنوية والمركزية ينتظر السعودية من الآن. 

كيان عدواني لقيط
تشبه السعودية الكيان الإسرائيلي المستمد قوته من المركز الأجنبي الخارجي والإقليمي المحيطي الذي يشده ويربطه ويوجهه ويحميه.. وفي السعودية يكون العامل الأجنبي مؤثراً أكثر من بقية العوامل، وما إن يهتز أو يتعطل هذا العامل حتى يسقط الكيان التابع، لأن هذا المركز هو مركز الحرب والعدوان، ولا يمكن هزيمة العدوان إلا إذا هزم المركز الدولي الذي يحميه ويسلحه، وأصبح عاجزاً عن مواصلة الدعم والحماية للكيان حين يصبح عاجزاً عن مواصلة الدعم والتوجيه للعدوان حين يبدأ المركز في الاهتزاز والتراجع والتلويح بورقة المفاوضات والمشاورات وخرائط الطريق، فإن مؤشرات الهزيمة تكون قد ارتفعت وبانت، وهذا ما يعانيه العدوان الآن. 

الاستراتيجيا في حرب الشعب
استراتيجية حرب الشعب هي الجمع بين القوة والخداع والسياسة والدهاء والقدرة على المكيدة، كما هي القدرة على توليد خطاب إعلامي وسياسي متسق ومنضبط بالمسار الذي ترسمه القيادة الاستراتيجية.. إن مصير الحرب كلها أحياناً يكون مرهوناً بمدى تصرف القيادة الحصيف والذكي، وعدم الاستعجال في إظهار المواقف قبل معرفة موقف ووضع الخصم، ومعرفة تناقضاتهم وصراعاتهم وتبايناتهم.
ويهمنا أن نعود بالذاكرة إلى معركة الخندق بين المسلمين - الطرف الأضعف - وبين تحالف قريش - الطرف الأقوى - الذي جمع 10 آلاف مقاتل كأكبر قوة آنذاك في الجزيرة العربية، بعد نجاح تحالفه وتفاهمات أطرافه.. يومها أشار الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، بأن الانتصار على العدو يتطلب المكيدة والخداع لتفريق صفوفه وإثارة الفتنة بينهم، ولذا فقد أمر النبي بعض المسلمين في صفوف العدو ألا يظهروا إسلامهم إلا بعد النصر، وطلب منهم زرع الفرقة بين قريش وأحلافها من اليهود، فكانت الخطة الناجحة لنعيم بن مسعود، التي أوجدت خلافاً بين الطرفين أدت إلى انسحاب قريش بعد أن شكوا من نوايا اليهود، وانسحاب اليهود بعد أن شكوا من نوايا قريش، حيث دب الخلاف بينهم والشكوك، فانفرط الحلف ضد الإسلام وانهار الحصار.
لم تكن قوة المسلمين قادرة على مواجهة قوة الخصم المتجحفل بالقوة مباشرة وحدها، فقد أدرك الرسول الكريم صلى الله عليه وآله، بتأييد ربه، ضرورة تفريق كلمة المشركين كمقدمة لإضعاف الحصار وانكسار الزحف، وبعدها أمكن للرسول إنجاز الزحف صوب مكة، لأن الحصار وانكساره كان يشير إلى التوازن الجديد في قوتي الطرفين، فلم يمل لصالح الطرف المسلم إلا بعد تفريق الصفوف المعادية بالخديعة والمكيدة.
ملاحظة: كُتبت هذه المادة قبل نحو عام، وتنشر الآن مع إدخال تعديلات صياغة وتنقيح طفيفة.