بشرى الغيلي/ لا ميديا


إني أجيءُ وفي الأحداقِ أنواءُ
فالشوقُ برحني ولدي أنباءُ 
وفي الفؤادِ ترانيم توشوشني     
إن الهوى يمنٌ والحسن صنعاءُ
فضمدي وجعي يا حلوتي فأنا
إليكِ  أشكو وفيكِ البُرء والداءُ 

الثالثة عصراً بتوقيتِ أزقتها الأنيقة، وأسواقها المنتظمة كحباتِ خرزٍ تزين عنق غانية حسناء. رائحة البُن من (سمسرةِ وردة) تصافحك بلطف، وأنت متجهاً صوب وجهتك المقصودة.  كل شيء هنا يحكي للتاريخِ عن عظمةِ وهيبةِ المكان. كل سوقٍ من أسواقها مختصة بتلبيةِ طلب من طلباتك. رغم إغراء الوجهاتِ المتعددة، إلا أن وجهتي كانت المشغولات النحاسية... يرافق الخطوات الوئيدة والمتأملة لدهشةِ المكان، صوت الأذان من الجامع الكبير، فتحملك نشوة روحية حد التماهي. ما يميز أسواق صنعاء القديمة أنها غير متداخلة، إذ كل سوق مستقلة تماماً عن الأخرى، بالإضافة إلى تبنّي التجار قوانين متعارفاً عليها منذ نشأة تلك الأسواق. ففي مطلع الستينيات من القرن الماضي كان هناك عُرف يمنع أي شخص من ممارسة التجارة في السوق حتى يحفظ (فقه المعاملات)، الفرع في الفقه الإسلامي الذي يهتم بالتجارة والمعاملات.

ورقةٌ  تاريخية
قد تأخذك جماليات المكان، والغرق في تفاصيله الهندسية البديعة، وأنت تتأملُ الأواني المزخرفة برسوماتٍ وأشكالٍ غاية في الإتقان،  لكنها لا تنسيك البحث عن البدايات، بدايات صناعة النحاس هنا. تقول هذه الورقة التاريخية إن بداية ظهور صناعة النحاس على نطاقٍ واسع كان في جنوب الجزيرة العربية، حيثُ تشير اللقى الأثرية التي عثر عليها في عدد من المواقع الأثرية اليمنية إلى براعة الحرفيين اليمنيين في صناعة الأدوات المصنوعة من النحاس. وعثر في أحدِ المواقع التي تم التنقيب فيها مؤخراً على الكثير من الصناعات النحاسية، من أبرزها عصا نحاسية ينتهي أحد طرفيها بشكل حية تتدلى إلى أسفل، وتعود إلى آخر أيام الحميريين كما يشير أحد الباحثين في هذا المجال، الذي تتبع أهم ما ورد عن الحرف اليمنية في المصادر اليمنية القديمة وأبرز ما تم العثور عليه من قطع كتلك المصابيح البرونزية والنحاسية التي عثرت عليها البعثة النمساوية، إضافة إلى تلك المتواجدة في المتاحف اليمنية والعالمية، حيث ذكر عالم الآثار جورمان أدولف أن متحف اللوفر بباريس يحتفظ بمسرجة يمنية صُنعت من النحاس على شكل ماعز قافزاً، كما أنه عثر على مسرجة من النحاس كمثرية الشكل لها فتحة نصف دائرية وقاعدتها مصنوعة من البرونز.

إبداعات حرفية يمنية
للنحاسيات المميزة أشكال بالغة الجمال والروعة. وتعد صناعة الأواني النحاسية من الصناعات العريقة في اليمن, وكانت تحظى بمكانة مرموقة لدى اليمنيين، فقد كانوا يحرصون على اقتناء التحف والمشغولات النحاسية المصنعة محلياً, والتي تستخدم للأغراض المنزلية، وبعضها يتم اقتناؤها كجزء من الأثاث. ولم يتبقَّ من هذه الصناعة المحلية إلا القليل المحدود, مثل المزاهر المزخرفة بالنقوش الإسلامية التي تستخدم لحفظ باقات الزهور والنباتات العطرية، والمواقد المستخدمة في إشعال الفحم الخاص بالطبخ, بالإضافة إلى أدوات الزينة والتجميل كالمكاحل, وكذلك الأباريق المطعمة بالعقيق اليماني والمزينة بالكتابات الشعرية والحكم والأمثال. وتزخر إبداعات الحرفي اليمني بجودة الصناعة في المنتج، مثل الشمعدانات ومرشات العطور المزخرفة والطاسات المكتبية المزخرفة بنقوش من آيات القرآن, والتي تستخدم في الرقية الشرعية، والملاعق والقدور والأباريق والمباخر والمحابر الحافظة للحبر الجاف.

انقراض...!
تجولت (فضاءات لا) وسط مسبوكاتٍ نحاسية، واستطلعت عن قُرب عراقة هذه الحِرفة وسألت عنها، فكان الرد صادماً من الحاج محمد حسين الآنسي (70 عاماً) أكبر النّحّاسين في (سوق النحاس) كونه أقدم تاجر أوانٍ نحاسية، فقد أكد:  
(لم يعد لحرفةِ النحاس أي وجود، فقد انقرضت منذ زمن، وأما هذه فإننا نصنّعها في لبنان، وفي حلب سوريا قبل أن تتغير الأوضاع هناك، والآن نأخذ العينات ونصنعها في الهند، فالأفكار يمنية والصناعة خارجية). وعن الأسباب يرى الآنسي أنها تعود إلى عدم وجود أيدٍ عاملة ومتخصصة، فقد رحل الجيل السابق وانتهت برحيلهم المهنة، وأول ما بدأت المهنة تنتشر كانت الصناعة تتركز في المباخر والمزاهر و(المدايع- النارجيلات)، وأول من أتقن الحرفة هم يهود اليمن، فانقرضت بانقراضهم، ورحيل الجيل القديم.

غياب السياح
سببٌ آخر يذكره الآنسي بحسرةٍ وغصة يتمثل في أن شراء المشغولات النحاسية كان مزدهراً أيام توافد السياح إلى صنعاء القديمة، واليمن بشكل عام، فكانت حركة البيع مرتفعة جداً حينها، والآن بسبب العدوان، والحصار الاقتصادي، وعدم وجود سياح، تعاني السوق ركودا كبيراً.

أول من أدخل الدفاتر المدرسية
وأنت تتأمل روائع المشغولات النحاسية، يلفت انتباهك شهادة التقدير التي يضعها الحاج محمد الآنسي فوق رأسه  بجانبِ القطع النحاسية، موقعة من مملكة هولندا، وعليها صورته، حيث يفاخر بأنه أول من أدخل الدفاتر المدرسية إلى اليمن، وكانت تطبع على الدفاتر صورة جمال عبدالناصر، ثم الرئيس السلال، ثم صورة الحاج محمد الآنسي، وهي من فترة 67 ـ 75. ويقول إنه طاف 25 دولة حول العالم، كلها لأغراض تتعلق بتجارة النحاس، لكنه توقف عن السفر منذ عام 2006م. يختم بروح لا تخلو من الدعابة أنه بعد إعلان الوحدة اليمنية، (جاء أصحاب عدن يشتروا مني جميع المكاحل بالمحل). ويردف باسماً: (فرحوا حينها بالوحدة وتكحلوا جميعهم).

نرمم فقط... ونشتري مقتنيات المواطنين
في المحل المجاور لمحل الآنسي التقت (فضاءات لا) محمد الصيرفي (40 عاماً) تاجر مشغولات نحاسية منذ ثلاثين عاماً، قال: (المحل له أكثر من 50 عاما، من فترة السبعينيات، وقد ورثت المهنة عن والدي). ويضيف بحسرة: (لم يعد لهذه الصناعة أي وجود، إلا في الترميمات فقط، لأن المنتجات الخارجية اكتسحت البضاعة المحلية، مما أدى إلى انقراض الأيدي العاملة). ويعود بنا الصيرفي إلى الماضي حيث يقول: (صناعة المشغولات النحاسية كانت في الخمسينيات والستينيات في أوج ازدهارها، لكن من بدايةِ السبعينيات بدأت الأيدي العاملة بالانحسار، كما أن الأهالي صاروا يبيعون ما يمتلكونه من أدوات نحاسية، فيعاد ترميمها وعرضها للبيع مرة أخرى. وفي بداية السبعينيات كانت البضاعة السائدة سورية، أما حاليا فالبضاعة الهندية مسيطرة على السوق، لأن أسعارها منافسة ورخيصة).

التاجر يشتري من المواطن
يستطرد الصيرفي: (حتى إن توفرت المواد الخام، فإن هذا لا يكفي، لأن الأيدي العاملة صارت أغلى، ونادرة، لذلك نضطر للاستيراد من الخارج، رغم ارتفاع سعرها، بسبب فارق سعر الصرف، مما جعل المواطنين يقبلون على شراءِ الأشياء القديمة). يختم متحسراً: (التاجر صار يشتري من المواطنين أكثر مما يبيع، بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية).
على الرغم من اندثار النحاس اليوم كصناعة وحرفة،  إلا أن الأدوات النحاسية كما لاحظنا مازالت تحظى بمكانةٍ مرموقة لدى اليمني الذي يحرص على اقتناء التحف والمشغولات النحاسية،  وعلى وجه الخصوص تلك التي تعود إلى تاريخ قديم ومصنوعة على يد حرفي يمني ازدهرت إبان الدولة الرسولية التي ظهرت في أيامها الكثير من الأدوات المنزلية المصنوعة من النحاس والمزينة بالكثير من الزخارف والنقوش الدقيقة والعبارات الشعرية والحكم والأمثال والآيات القرآنية المنحوتة، حسب مهتمين في هذا الجانب.