علي نعمان المقطري / لا ميديا

معارك موسكو، السويس، الإسكندرية، صنعاء، عدن، القاهرة، دمشق، بيروت، عكا، القدس، الجزائر، الإسماعيلية، بورسعيد، ستالينجراد، لينينجراد، سايجون، كييف، كورسك ومينسك.. كلها حروب مدن صامدة مقاومة لأشهر ولسنوات وهي تحت الحصار والاحتلال الأجنبي، وهي تقاوم وتقاتل بأشكال عديدة من قتال الجيوش للجيوش، إلى قتال العصابات الشعبية والفدائية للغزاة، إلى قتال المجموعات الصغيرة السرية التخريبية، إلى جماعات اغتيال العملاء والجواسيس والأذناب، إلى صائدي الجنود وقتلهم، إلى جامعي الأخبار والمعلومات حول العدو الغازي ومواقعه وشؤونه ومخازنه وقادته، إلى الجماعات المخترقة للعدو المندسة بين صفوفه وبين أنصاره وعملائه المتحدثة بلغته.
كانت موسكو لنابليون مقبرة أحلامه الإمبراطورية ومحرقة جيوشه، وكانت موسكو وفولجاجراد بعد قرن مقبرة ومحرقة لهتلر وأحلامه الإمبراطورية أيضاً، ومقبرة لجيوشه الملايينية السبعة. وكانت بورسعيد مقبرة لأحلام الإمبراطورية البريطانية والفرنسية خلال العدوان الثلاثي على مصر العروبة في 56م. 
وكانت بيروت مقبرة لأحلام الصهيونية وبداية الانهيار، ومثلها كانت غزة والسويس. وسنقف هنا على شذرات ودروس من حروب المدن البطلة الكبرى، لأن ذلك يعتبر من صميم فهم وإدراك طبيعة المعركة القائمة ضد العدوان ومخططاته المستهدفة مدننا العزيزة. 
 
المدن مقابر لجيوش نابليون 
دروس نابليون البليغة حول حرب المدن كانت حصيلة خبرته المأساوية الحربية الكبرى في روسيا ومدنها التي انتصبت من تحت أنقاضها ومن بين رمادها وخرائبها المهدمة تنتفض لتقاتل وتتمرد ضد الغزو الأجنبي والاحتلال والاستعباد الذي أحالها إلى رماد بمدافعه ونيرانه ليخمد في روحها روح الحرية والاستقلال، فزاد أوارها شعلة الحرية والثورة والتمرد والانتقام والثأر، وأحالت الأرض ناراً تحت أقدام المحتلين حتى قضت على جحافل جيوشه التي بلغت مليون جندي وخادم ومرشد وموجه وسائس. 
كان نابليون قد اقتحم روسيا بجيش هو الأكبر في التاريخ، وإلى ذلك الوقت لم يكن قد خسر أية معركة من قبل. فقد أغراه تهاوي العروش والدول والممالك الأوروبية الغربية بسرعة بالغة أثارت غروره وطمعه في أن يُسقط بقية البلاد، خاصة روسيا التي كانت عملاق أوروبا الصاعد، ذات المساحة الأكبر في العالم والغابات الخضراء والأنهار والمياه والثروات الطبيعية الواعدة والأرض. 
في أوروبا كانت روح الاستتباع والخنوع للغازي هي السائدة بين النخب المحلية التي استسلمت للغازي واستقبلته بترحاب، ورأت فيه مخلصاً من أوضاعها الفاسدة السقيمة في أحيان كثيرة، ولذلك رأينا على عتباته يزف الأمراء والأميرات والملوك المهزومون يطلبون رضاه ووده وتسامحه وعدله بهم، ويضعون تيجانهم في خدمته، ويضمون بقايا جيوشهم المهزومة إلى جيوشه حتى تكوَّن له جيش عرمرمي كبير يضم مختلف الجيوش الأوروبية التابعة، وبهذه الجحافل تقدم نحو روسيا لغزوها واحتلالها وقهرها. 

المجتمع المديني 
كانت أوروبا منذ الثورة الفرنسية نهاية القرن الثامن عشر، قد أضحت مجتمعات مدينية تسيطر عليها الصناعة والتجارة والحرف والإدارة الحكمية، مجتمعات مدينية تحتل المدينة مركز الثقل على عكس مجتمعات العصور الإقطاعية التي كانت تسيطر عليها روح الريف الزراعي القروي حين لم تكن المدن قد ازدهرت بعد، واجتياح كل بلد يفرض بالضرورة اجتياحاً لمدنه الكبرى الرئيسية. 
وكانت الحروب على الطريقة الكلاسيكية بقيادة الملوك والأمراء تجري في السهول المفتوحة أمام وخارج المدن الكبرى، ولم تكن المدن قد أصبح لها دور حربي مباشر. فالحرب كانت شأناً ملكياً علوياً للطبقة العليا الإقطاعية الأرستقراطية الزراعية، أما المدن فتوابع يدفعون الأتاوات لقاء الحماية.. أما في العصر الحديث فقد أضحت المدن الكبرى هي مراكز الرأي العام والسلطة والقرار القومي والشعبي والجامعات والمثقفين والتجار والمجالس والبنوك والصناعات والأسواق والموانئ والتجارة الدولية القارية. 
كان الجميع يتجنب تطويل أمد الحرب من باب الحرص على بقاء الثروات سليمة بداخلها ليستفيد منها، يوظفها لنفقات جيوشه ومعاركه. 

معركة قلبت المعادلات الحربية 
كانت المواجهة الكبرى مع نابليون قد بدأت أمام موسكو وداخلها في ما بعد، أمام موسكو انتصر نابليون على الجيش الحكومي القيصري انتصاراً محدوداً فلم يقضِ عليه نهائياً، مما سمح له بالانسحاب إلى الداخل، وخلفه دخل نابليون إلى العاصمة موسكو متصوراً أنه سوف يجد استسلاماً من القيصر والقيادة الروسية هناك بعد هتك أستار عاصمتهم الأثيرة، إلا أن قائد الجيش الروسي أرسل جواباً نارياً إلى نابليون قائلاً له إن الحرب لم تبدأ بعد، ولم يفهم نابليون مغزى القول إلا في مساء ذات اليوم، حين فوجئ بأن المدينة كلها وقد سيطر عليها الجيش الفرنسي، تتفض محترقة، حيث كان الروس يحرقون مدينتهم على رأس الغزاة ليلاً، ويغادرونها إلى الغابات المجاورة، كان ذلك كميناً حربياً ضخماً لم يُعرف من قبل في الحروب، فقد ترافقت الحرائق مع الهجمات العصابية ضد الجنود الفرنسيين، وحوصرت المدينة خلال الهجوم الروسي، فأطاحت بأعداد هائلة من الجنود في ظلام الليل الشتوي الدامس، وكانت تلك بداية النهاية للغزاة، فقد تحولت المدن الروسية والغابات إلى قواعد حرب الشعب ضد الغزاة. 
ومن حيث كان جيش نابليون ينتظر مواجهة الجيش الروسي النظامي ليسحقه كما فعل صباح اليوم السابق، فقد تحول الجيش الروسي إلى أشباح تضرب وتختفي وتتحرك دوماً وتهاجم من جنبات ومؤخرات جيش نابليون، وتهاجم الطرق والحراسات والإمداد والتموين، وخلال أسابيع أصبح الجيش الكبير محاصراً، وقد تآكلت قواته تحت ضربات السيوف والبواريد الروسية حتى أفنته ولم يبقَ منه سوى الحرس الامبراطوري الخاص الذي تمكن من الخروج من دائرة الحصار والهروب، وعدده 20 ألفاً فقط. لقد كانت موسكو حقاً محرقة ومقبرة للجيش الفرنسي العظيم. 
وكانت تلك نهاية الإمبراطورية النابليونية والفرنسية، فهزيمة فرنسا حولتها إلى دويلة مقسمة تحت السيطرة والتبعية الأوروبية، حيث تقاسمت أوروبا أطراف أراضيها، وأعادوا النظام الملكي القديم أو ما سمي عصر الرجعة. 
 
 قلاع المدن المليونية 
تشكل المدن المليونية الكبرى في أي بلد يتعرض للاحتلال، أهم قلاع وحصون المقاومة والدفاع عنه، وخاصة الساحلية منها والواقعة على أطراف البلاد، وتشكل مدخلاً للبلد المستهدف، فلا يستطيع الغازي تجاهلها وتجاوزها بعد تطويقها بعدد من الوحدات العسكرية، ومواصلة التقدم للأمام، فقد يضطر العدو إلى استخدام كامل قواته وجيشه مجتمعاً في مهاجمتها واحتواء ثورتها وتمردها وليس اقتحامها، غير أن هتلر لم يتعلم الدرس النابليوني، فوقع في المحذور نفسه، وتجرع من كأس أمر وأكبر من كأس نابليون. 
وكانت حرب المدن الطويلة تتعارض مع استراتيجية الحرب الخاطفة السريعة التي اعتمدها هتلر ومعاونوه، وقد اعتمد هتلر في خطة الحرب الخاطفة على جبهتين في وقت واحد، اعتمد على جبهة حلفائه اليابانيين والإيطاليين والمجريين والنمسويين، وعلى ميدان عالمي تجري فيه الحرب التي سميت الحرب الميكانيكية الحركية والبرقية بهدف الالتفاف وتلافي مخاطر المواجهات الطويلة مع خصوم أقوى وأكبر عدداً وعدة ومالاً ومساحات إذا توفر لهم الوقت للاجتماع والتنظيم، وكان في صلب خطة هتلر هو أن يسارع في تدمير الخصوم دون أن يعطي لهم فرصاً لالتقاط الأنفاس أو التفكير. 
وكانت المدن الكبرى تشكل أكبر العقبات أمام تقدم جيوشه وتحقيق المفاجأة وصعق العدو وترويعه وتدميره نفسياً ومادياً بالسرعة الخاطفة، ولذلك قرر دك كل عقبة أو مدينة تقف في طريقه وبعنف، معتمداً على بث الخوف والرعب الذي يثيره في نفوس الشعوب المستهدفة، مراهناً على الاستسلام السريع، وكان استسلام المدن الغربية السريع قد أغراه بأن مصير مدن الشرق لن يختلف عن مصير مدن الغرب. 

 معركة موسكو الكبرى 
بداية قرر الروس صد العدو على الحدود مباشرة لتأخيره وحتى يعيدوا تنظيم قواتهم وأنفسهم للمقاومة الطويلة، ولأنهم فوجئوا بالهجوم العدواني على روسيا، فلم يكونوا على استعداد كامل للحرب، لذلك قاتلوا كيفما كانت أوضاعهم، ومن الوضع القائم أو من الحركة، ولذلك فقد أخروا الغزاة عن الوصول إلى أعماق البلاد بالسرعة المخططة، ومنحوا القيادة الفرصة لإعادة تنظيم صفوفها والإعداد لخطة مضادة وتجهيز عديدها وعدتها ونقل مصانعها إلى المناطق الآمنة في الشرق، فأقاموا بسرعة نصب وتركيب المصانع الحربية المنقولة من الغرب إليها في العراء، وتمت صناعة الدبابات والطيارات بالأعداد الهائلة، مع سير التدريب للجيوش الجديدة التي جرى تعبئتها للدفاع عن العاصمة والمراكز الكبرى للبلاد. 
في الأسابيع الأولى من الهجوم الألماني خسر الروس على الحدود 4 ملايين جندي بين قتيل وأسير وجريح وآلاف المعدات، واضطروا إلى التراجع نحو الوسط والعاصمة، وواصلوا تراجعهم إلى مسافه 30 كيلومتراً من موسكو العاصمة وإلى داخل لينينجراد ثاني أكبر المدن الروسية وأكثرها حداثة وثقافة والتي حوصرت لـ300 يوم، ثم كسرت الحصار بقيادة الجنرال جوكوف، كانت معارك مدن شعبية وحكومية تتساند القوتان معاً في وجه الغازي. 
أراد الروس وقائدهم في خطتهم المضادة أن يضعوا الغازي في مواجهة طويلة لا يتحملها مع الوقت، ولا يستطيع تحمل أكلافها البشرية والمادية والجغرافية والمعنوية، أي شن الحرب القومية الشمولية ضده، وهو نفس الاتجاه القديم للجيش الروسي في مواجهة نابليون مع تغير الزمن والظروف، فالجوهر يبقى واحداً، وضع العدو في شروط حرب لا تناسبه، يتم فيها تحييد تفوقاته وتطويل خطوط إمداده وتقسيم قواته على مساحات واسعة يتعرض خلالها للحصارات والقطع والهجمات، وكان هذ أفضل تكتيك أنتجته عقول قادة الحرب الوطنية الكبرى الروسية بناء على الخبرة التاريخية للحرب الوطنية السابقة والجارية في أوروبا، وعلى معرفة عميقة لنقاط ضعف وقوة العدو واستراتيجياته وحقيقة قدراته، وقد استنهضت المعركة الوطنية كل الروس.. وأمام موسكو تم اختيار الموضع المناسب للمعركة المصيرية على تلال موسكو الواقعة على بعد 30 كيلومتراً من المدينة، أقيمت خطوط وشبكات الدفاعات الروسية المضادة للدروع والدبابات والمدافع والطائرات الألمانية، وقد توزعت القوات الروسية المدافعة على سلسلة من الخطوط المنيعة التي تتوالى حتى قلب المدينة وأحيائها ومبانيها وإلى كل بيت وحي وشارع وضاحية وقرية، حولها الجميع يشارك في الحرب ضد العدو ويقاتله كل بطريقته ووسائله المتوفرة، اختيار التلال الغابية الشجرية الكثيفة الواسعة حيد قسماً كبيراً من حركة المدرعات والطيران الخاصة بالعدو، دفع العدو بمليوني جندي إلى جبهة موسكو، لكن الشعب في المدينة كان قد حشد عدة ملايين من المحاربين الاحتياطيين إلى جانب الجنود الرسميين الذين كانوا أقل من مليونين. 
وخلال أسابيع من المواجهات والمعارك الضارية انهار الجيش الألماني وانسحب إلى مسافة 300 كيلومتر، منهزماً، وكان ذلك أول الانتصارات الكبرى في معارك الحرب العالمية الثانية.