علي نعمان المقطري / لا ميديا

تمدد العدو في جغرافية الحديدة التي تبتدئ من الخوخة ـ حيس، وأصبح في مواجهة قوات منطقتين عسكريتين يمنيتين على الساحل الغربي، المنطقة العسكرية الخامسة، إضافة إلى مواجهة المنطقة الرابعة التي أطرافها تعز، مما وسع خط المواجهة والاستنزاف ومضاعفتهما ضد قواته، ومع انتقال الكثير من ألويته نحو الشمال فقد كان يسحب من رصيد الجبهة الجانبية التي أضحت الآن مؤخرة ومجنبة في وقت واحد وخط إمداد أيضاً رئيسياً للقوات المتقدمة شمالاً، وبهذا حول مقدمته إلى مؤخرة ومجنبة وخط إمداد ورأس جسر بحري، ونقل المعركة إلى مؤخرته ومجنباته حتى أصبح يواجه 3 معارك في وقت واحد، واحدة في مؤخرته خلال تقدمه شمالاً باتجاه الحديدة، وثانية في مقدمته أمام الكيلو 16 والمطار ومشارف مدينة الحديدة، وثالثة وهي المعركة على مجنبتيه اليمنى واليسرى خلال تحركه باتجاه النخيلة ـ الدريهمي ـ الزعفرانة ـ المنظر ـ مدينة الحديدة.

أدت مغامرات العدو المجنونة إلى تقسيم قواته بين الجبهات الثلاث المتباعدة على مسافة مئات الأميال، وإضعاف كل جبهة منفصلة وتيسير اختراقها والالتفاف عليها، وقطعها عن الأخريات التي باتت مقطوعة عن بعضها البعض ويفصل بينها قوات الجيش واللجان المتواجدة على الأرض، والتي تواصل توجيه الضربات المدمرة لقوات العدو دون توقف، وكلما تقدمت على الساحل ضعف سمكها وتركزها وثقل قوتها ووحدتها، ومع توسع التمدد توسعت قوات الجيش واللجان التي تواجهها وتستنزفها أكثر فأكثر.

وبدلاً من أن يلجأ العدو إلى استراتيجية انتظار الخصم المدافع ليتقدم على الساحل المكشوف المحمي من الطيران فيجعل معركته تدور على أرض ملعبه الذي أعده جيداً للدفاع عن مواقعه التي سيطر عليها سلفاً وأعدها بحيث يصعب اختراقها لأنها مكدسة بعدد كبير من القوات والمعدات وقريبة من البحر، راح العدو يتجه نحو غزو شمال الساحل ويكشف قواته على الطريق البري الطويل ووزعها على امتداد الطريق الطويل طامعاً في السيطرة على موانئ الحديدة ومدنها وسهلها الزراعي السكاني الكبير ومنافذها وجزرها، وبتوزيعه لقواته على المسافة الطويلة الممتدة مئات الأميال لا تملك خلالها الوسائل الكافية والقوى لتأمين حمايتها، حيث أضحت مساحة المواجهة تصل إلى حوالي 1200 كم مربع، وهي مساحة تتطلب عدداً كبيراً من الألوية والفرق العسكرية.

ومع هذا المصير البائس من تقطيع القوات وتوزيعها على مساحة كبيرة كهذه، أصبح من الصعب توفير الإسنادات الضرورية الداعمة للمعركة والدفاعات والحماية للقوات جواً وبحراً وبراً، حيث إن وسائل الحماية الاستراتيجية والإنشائية والتقنية لا يمكن تفتيتها على مساحات مجزأة منفصلة لقوات قليلة العدد والموارد، مما يجعل تلك النقاط المنفصلة سهلة الخرق والتطويق والحصار والاجتياحات المنفردة عبر التقطيعات المتعددة والتطويق والإبادة بالتجزئة والجملة.

ففي حين ما تزال قوات العدو في المخا متحوصلة في دفاعاتها الخندقية والتقنية وكثافة تجمعاتها ومساحاتها المحدودة، تكسب قوات الجيش واللجان معارك الهجوم والزحوف، حين تخرج من تلك الحويصلات الدفاعية الملاصقة للبحر والميناء والأرض الرملية، أما عندما تتحول إلى وضع الدفاع على الشريط الساحلي فيصعب عليها التقدم في ظل السيطرة الجوية في المجال المكشوف المفتوح للعدو.

وقد كدس على هذا الشريط الضيق ما بين 30 إلى 50 لواءً عسكرياً هي زبدة احتياطاته الاستراتيجية التي جمعها من مختلف الجبهات، فحكم على جميع الجبهات بنتيجة مغامرته الساحلية المجنونة، وكان يتصور أنه بتكديسه لأغلبية عددية عسكرية محلية سيضمن تفوقاً كمياً حربياً مدعوماً بالطيران والبحرية على الساحل، حيث قوات الجيش واللجان لا تستطيع النزول إلى الساحل المكشوف، وإذا فعلت فإنها ستقع تحت رحمة طيران العدو وبحريته وصواريخه.

 

ما الذي يعنيه تقطيع أوصال الجيوش وقطع إمداداتها؟

لا يمكن لأي جيش الاستمرار في الهجوم والتقدم والزحف بعد قطع إمداداته والطريق الرئيسي المعتمد عليه، حيث يحدث تبدل حتمي إجباري في أولوية تخطيط قراراته واستراتيجيته ومهامه على الفور، وأول التبدلات تطرأ على استمرارية الهجوم للأمام والتمدد على الأرض، لأن أي هجوم يتطلب المزيد من الإمدادات والتعزيزات واستهلاك المزيد من القدرات في لحظات لم يعد هناك طريق لوصول تلك القدرات والإمدادات الجديدة، كما تحدث تحولات مفاجئة على طرف الخصم المدافع الذي يدرك أزمة العدو فيبادر إلى مزيد من الضغط عليه وعلى قواته بعدد من الإغارات والكمائن، لأنه يعرف أن العدو صار في وضع يصعب عليه فيه القيام بالهجوم ومواصلته نتيجة تقطع خطوط إمداداته.

فالقوى الوطنية المدافعة عن الوطن تكون عاجزة أحياناً عن المواجهة المباشرة الكبيرة في المناطق المكشوفة للطيران المعادي، ولذلك تتجنب الاشتباكات الكبيرة الطويلة مع الغازي في مناطق السواحل المكشوفة وهو مازال في أوج قوته وعنفوانه ومتجمعاً بكل قواته الرئيسية في صعيد واحد وفي نطاق مساحة ضيقة تمكنه من التركيز على أي جزء من القوى الوطنية المكشوفة وإبادتها في بداية المعركة وكسب الحرب، فالجيش التحرري لا يستطيع رمي كامل قواته في المواجهة الأولى المكشوفة عندما يكون الغازي هو الأقوى، فنتيجة المواجهة ستكون في صالح الغازي، وستفتح الطريق أمام الغزاة إلى مراكز البلاد الداخلية بعد أن تكون جميع القوات الاحتياطية قد سحقت في المعركة الكبرى.

فالغزاة هم في الغالب كانوا امبراطوريات بحرية وكانت نقاط قوتهم تظهر أكثر كلما كانت المواجهات تجري على السواحل المكشوفة، وأثناء حشدهم لقواتهم بعد النزول الآمن لها، بينما عدم حشد المدافع لقواته قبل الإنزالات المعادية تساعد على أخذه على حين غرة وحين تكون معلوماته قاصرة عن تحديد الوجهات التالية للعدو والنقاط التي يخطط للإنزال فيها وحجم قواته، وقد أظهرت التجارب التاريخية أن الغزاة يمكنهم أن ينزلوا قواتهم على أي ارض استعدوا جيداً لغزوها وأن يحتلوا أجزاءً منها خاصة السهلية الساحلية، وهناك عادة مرحلة زمنية فاصلة بين غزو السواحل والانتقال إلى المراكز الداخلية للبلاد، وأهم مرحلة هي تأمين السواحل، لأن عبرها تصل إليهم الإمدادات والتعزيزات وتكون فيها لهم قواعد حماية ودفاعات عند الاضطرار إلى التراجع أو الانكفاء مؤقتاً.

وقد تمكنت بريطانيا بفعل التمترس خلف جبال عدن أن تبقى أكثر من قرن قادرة على صد جميع الهجمات اليمنية القادمة من الشمال والشرق لتحريرها بسبب التموضع الجيد للمرتفعات حول المدينة التي نصبت عليها مدافعها ورشاشاتها وسيطرت نارياً على المساحات المفتوحة أمامها، واستمرت على التكتيك إياه لعقود من الزمن حتى استنفدت طاقات وقدرات المقاومة اليمنية الوطنية التي كانت ضعيفة التسليح ولا تملك آليات وطرائق التعامل مع الدفاعات والمدافع والصناعات الحديثة التي كانت حينها ما تزال احتكارات غربية خالصة.

 

من الهجوم إلى الدفاع إلى التفاوض

لقد خسر العدوان معارك الجبهات الأخرى خلال العامين 2015 و2016م، وفي العام 2017م انتقل العدو إلى وضع الدفاع الاستراتيجي التراجعي على الخطوط التي وصل إليها وأضحى أقصى طموحه هو البقاء والاحتفاظ بما وصل إليه في العامين السابقين وفي مقدمتها محافظات الجنوب ومأرب والجوف والمندب وغرب تعز.

وقد جرب في مشاورات الكويت وجنيف قبلها والظهران استغلال حاجة اليمنيين إلى السلام والطعام والغذاء والدواء ووقف الموت والترويع والرعب ورفع الحصار الشامل والعزلة الدولية، وقد جس نبض اليمني من خلال قيادة مفاوضيهم المحنكين الشجعان فلمس صلابة لا تشجعه على الكشف الصريح عن نواياه مباشرة، أو ممارسة الضغوط على اليمنيين من باب الحصار والاحتياجات الإنسانية، فقد كان أضعف من أن يفعل ذلك بعد أن دمرت هيبته بالهزائم والخيبات والنكسات العسكرية، فلم يأت إلى المشاورات إلا بعد تمنع واستعصاء وبنوايا كيدية استغلالية إملائية متصوراً بتفاهة العقل الأمريكي المادي المغرور أن اليمني لا بد أنه في النهاية آتٍ إلى طاولة المفاوضات، وسيقدم التنازلات بدافع الجوع والألم والترويع والحصار والتضييق الشامل، لكن الواقع أحال أوهام العدوان إلى غبار.

كانت القيادة العدوانية المشتركة محكومة بما حققته في عدن المحتلة في بداية العدوان عندما تمكنت بفضل الخيانة العفاشية الانفصالية من إخراج الجيش واللجان من عدن، فدارت رؤوس قادة العدوان حتى ثملت من سكرها واستمرت في ثمالتها ولم تفق إلى الآن حتى بعد انكساراتها وهزائمها على الأرض، فقد استخلصت النتائج والدروس الخاطئة استراتيجياً وتكتيكياً، ولم تدرك أن أهم دروس الحرب تتمثل في أن أي نجاحات سهلة تتحقق لقوة معينة قد تكون عاملاً أساسياً لهزائم كبرى قادمة.

قيادة العدو دفعت ثمناً باهظاً لغبائها الاستراتيجي، حيث كانت تنظر لقوات الجيش واللجان وتقدرها بمقياس ما تحقق ضدها من ضربات ميدانية مؤقتة في ظروف خيانة معقدة وفي ميدان غير ميدانها، ولم تدرك مدى ما يمكن لقوات الجيش واللجان أن تحققه من طفرات وتطورات نوعية وكمية، وهذا كان واحداً من أسباب هزائمها، ولكنه ليس الأول والأخير، فالقاعدة الرئيسية للحرب هي أن تعرف عدوك جيداً بواقعية، وأن تعرف نفسك بواقعية أيضاً، ثم تقيم قدراتك وطاقاتك وقدرات وطاقات الآخر في نفس الوقت.

 

الحرب لأجل التفاوض

كان العدو يتصور أنه يملك بين يديه أوراق ضغط حاسمة، أولاها الحرب الاقتصادية، وثانيتها التخريب الأمني، وثالثتها التوسع الاحتلالي على الأرض ومحاصرة العاصمة وخنقها، ورابعتها ورقة الخيانة العفاشية التي ستمكنه من السيطرة على العاصمة من الداخل والخارج، والسيطرة على الساحل التهامي والزحف مجدداً باتجاه المحافظات المجاورة وإسقاطها، وحسم الحرب بإعادة الاعتبار للمخطط الإمبريالي الأشمل.

أراد العدو فرض الاستسلام على اليمنيين عبر المفاوضات السياسية، فإن لم يحدث فالتسليم لما يحتله من أراضٍ كخيار أدنى، فقد كان يراهن على أن قوات الجيش واللجان سوف تستنفد عتادها العسكري جراء استنزافه في أكثر من 40 جبهة مهما كانت احتياطاته، فكم سنصمد أمام عتاد 20 كياناً حربياً كبيراً؟

كان هذا هو السؤال الأهم لدى كل من العدو والصديق، فالعدو يراهن على لحظته التاريخية الحرجة المحتمة التي لابد أنها آتية، أما الصديق فهو يثق في قدرات الجيش واللجان والشعب اليمني وقواه وقادته التي لا تنفد، ومن تجارب تاريخه الحربي الكفاحي ضد الطغاة والغزاة.

صحيح أن الكثير من أبناء شعبنا قد تبادر إلى أذهانهم السؤال الذي يقول: إلى متى سنظل صامدين صابرين؟ وكيف نستطيع ذلك؟

إلا أنهم واثقون من نصر الله، ومن حنكة وحكمة قيادتنا الثورية المؤيدة بالتوفيق الإلهي، التي عقدت العزم على المحاولة الإنسانية مهما تكن نتائجها، فهي ستكون حتماً خيراً، والرهان على الأجيال الوطنية المتوالية، فلو عجز الجيل الحالي أمام تحديات الطغيان الإمبريالي، فإن المستقبل حتماً واعد ومعقود بالعقليات الشبابية المستنيرة، وتوسيع التحالفات الشعبية الوطنية، وتوعية العقول بأهمية اللحظة الوطنية الراهنة وأهميتها في صناعة المستقبل الحر الخالي من شوائب عصور التبعية والوصاية والاحتلال.

ومهما تكن الأكلاف والتضحيات والخسائر، فإن الشعب اليمني الفقير الكادح المجاهد سيربح عالماً جديداً، ولن يخسر سوى قيوده، وسيكون مستعداً لأن يبذل مهجه من أجل بقائه وتطوره وكشف طاقاته الإنسانية الثرية.