ترجمة خاصة - لا ميديا / نشوان دماج -

«ستستغربون كيف أن هذا العالم محكوم بالنزر اليسير من الفهم». 
هذا ما قاله البابا يوليوس الثالث. كم كان صادقاً! فالجهل عادة هو من الخطورة مثله مثل الشر. 
والكثير من قرارات الغرب الخاطئة إزاء العالم الإسلامي متعلقة بعدم الإلمام بأبسط القضايا. 
طيلة خمسين عاماً وأنا في كل تنقلاتي في البلدان الإسلامية أشعر بخجل دائم، بسبب الهراء المغامر الذي ينشره سياسيون وقانونيون غربيون عن العالم الإسلامي.

أظهرت حرب كسر الحصار العراقية في العام 2003 احتقارا يسرق الأنفاس تجاه العالم الإسلامي. فخلال غزو قوات النخبة الأمريكية تم قتل آلاف المدنيين. وثمة أعداد لا حصر لها -جزء منهم بذخيرة ملوثة باليورانيوم- أصيبوا بالشلل. 
أما (iraq body count) (عدد جثث العراق) فقد خرجت حتى نهاية العام 2006 بما يربو على مائة ألف قتيل عراقي. بطبيعة الحال لم تسم المنظمة سوى حالات القتل التي تحدثت عنها وسيلتا إعلام ناطقتان باللغة الإنجليزية. أما عائلات المقاتلين العراقيين المقاومين للاحتلال فليس لها بطبيعة الحال مصلحة في أن يُعرَف عن أبنائها أنهم منخرطون في القتال ضد الحكومة العراقية أو ضد قوات الاحتلال الأمريكي. فهذا قد يعرض الأسرة بأكملها للخطر.
يتحدث ويكيلكس عن مائة وتسعة آلاف قتيل. بطبيعة الحال ويكيلكس لم يتح له إلا الوثائق الأمريكية التي -بناء على الأسباب ذاتها دائماً- لا تتضمن العمليات العسكرية الكبيرة للولايات المتحدة، كالمعارك حول الفلوجة. كما أن سنة الحرب الأولى الدامية غابت عن المادة المنشورة من قبل ويكيلكس.
ولذا ليس مستغربا أن دراسة لأطباء عراقيين وأمريكيين مستقلين نشرتها مجلة (lancet) الطبية، توصلت إلى نتيجة مفادها أنه فقط حتى نهاية يونيو 2006 هناك ما يزيد عن ستمائة ألف عراقي فقدوا حياتهم بطريقة وحشية في فوضى الحرب. 
لجنة بحث مكلفة من الكونجرس الأمريكي، ويرأسها وزير خارجية أمريكا الأسبق جيمس أ. بيكر، زعمت من باب النقد الذاتي، في ديسمبر 2006، أنه نظراً لأعمال العنف في العراق فإن هناك "شحة بيانات متزايدة". إنك لو أخذت 93 ملفا رسميا خاصا بأعمال عنف حدثت في يوم محدد من شهر يوليو 2006 وقمت بتفحصها عن كثب، ستجد أنها في الحقيقة 1100 حالة عنف. يتحدث أحد العاملين في مشرحة بغداد باستسلام: "عندما وصلت إلي في أحد الأيام هنا ببغداد خمسون جثة فإنني سمعت في التليفزيون مساء ذلك اليوم أن حصيلة القتلى في عموم العراق كان عشرة فقط. إنهم يفعلون ذلك عن عمد". 
دراسة لمعهد الأبحاث البريطاني المستقل (أو.آر.بي) من يناير 2009 توصلت إلى ما يفوق مليون قتيل عراقي ومثلهم من الجرحى. ففي بغداد هناك تقريبا أسرة من كل أسرتين فقدت أحد أفرادها. وصدام حسين طيلة ثلاث وعشرين سنة من حكمه، تسبب -وفقاً لـ"هيومن رايتش ووتش"- بموت 290 ألف مواطن عراقي.
كيف يمكن توقع أمر آخر وكل من دراسة مجلة (lancet) وتحليل معهد (ORB) جوبه بمعارضة ساخطة من كافة الحكومات المشاركة في الحرب؟! إن الأرقام الحقيقية ليس لنا أن ندركها أبدا. ومن ذا الذي يمكنه أن يُدرك الحقيقة القاتلة لحرب من حروب الكَذَبَة؟!
في هذه الأثناء تراجع عدد حالات القتل اليومية في العراق. لكن ما تزال الفوضى هي السائدة على الدوام. وحال الشعب اليوم أسوأ مما كان في عهد صدام حسين (كوفي عنان). لا ينبغي أن يكون هناك كثير من العراقيين الذين يقولون: "عظيم، وطننا مدمر، مئات الآلاف من المواطنين قتلوا، الملايين مازالوا في الشتات، التعايش الديني منعدم، معدل وفيات الأطفال من أكثر المعدلات ارتفاعا في العالم، شبه انعدام للطاقة والماء والدواء، البطالة والتضخم تعديا الخمسين في المائة، بالكاد يمكن أن ترى أحدا في الشارع؛ غير أن هذا كله يهون، فصدام قد رحل". والمستفيد الوحيد من هذه الفوضى هو إيران والتطرف السياسي.
أهي مفاجأة أن 80 في المائة، وفقاً للاستبيان الأخير لكل من (BBC) و(ABC) من العراقيين، سُنَّة وشيعة، يطالبون برحيل الخمسين ألف جندي أمريكي تقريبا الذين مازالوا في العراق، ناهيك عن أعداد لا حصر لها من "الشركات الأمنية" بلاك ووتر؟!
لم يحدث مرة واحدة في المائتي سنة الأخيرة أن اعتدى بلد مسلم على بلد غربي. المعتدون كانوا دائما إما القوى الأوروبية الكبرى أو الولايات المتحدة الأمريكية. الدول العربية لوحدها كان عليها في تلك الحقبة أن تدفع عن نفسها عشرين حربا وغزوا من قبل البلدان الغربية. ومنذ بدء الاستعمار قتل الملايين من المواطنين العرب. وكان نصيب الغرب من هذه الإحصائية الحزينة من القتلى هو 10:1. 
إن الحديث الجاد حول ما يسمى تطرف المسلمين ينبغي أن يضع في الحسبان هذه الحقائق التاريخية كاملة. فالغرب كان وما يزال أكثر تطرفا من العالم الإسلامي. ومشكلة عصرنا ليست تطرُّف المسلمين، بل تطرُّف بعض البلدان الغربية. لقد قمنا في القرنين الأخيرين باضطهاد المسلمين بلا رحمة. 
كتب المؤرخ الألماني ألكسندر ديماند في كتابه "التاريخ الصغير للعالم": "إن كلا من الأثر الروحي للبعثات التبشيرية والروح الاستكشافية الغربية وحب المغامرة والبحث عن الربح فتح "للعرق الأبيض" العالم. لم يكن لأي حضارة أخرى أن تصمد أمام روحه الاسكندنافية المحاربة ولا أسلحته الفتاكة ولا حضارته المتفوقة تقنيا"، ولا حتى الحضارة الإسلامية. 
ويا لها من "تحفة" دعائية هذه، حين يصور الغرب نفسه كضحية لتطرف العالم الإسلامي، وما يزال عليه للأسف أن يتحرك عسكريا في الدول الإسلامية ذات الثروات الغنية، حتى يتسنى له العيش بسلام وحرية!
أمر مثير للسخرية عندما يسأل الآن زعماء روحيون غربيون بملامح كلها القلق: كيف أمكن إنزال الهزيمة "بالحضارة العربية التي كانت متفوقة إلى حد بعيد في المجال العسكري والاقتصادي والثقافي"؟! (هانس ماجنس انتسنبرغر). إن الغرب، من خلال تدخلاته العسكرية المستمرة ومن خلال الاستعمار الذي مول به مسيرته الصناعية، هو الذي يتحمل ذلك بالتأكيد. فلقد ترك عند انسحابه من المستعمرات بلدانا منهوبة تنزف دما. 
عند بدء استعمار الجزائر في العام 1830 كانت نسبة الذين يجيدون القراءة والكتابة 40 في المائة. ولقد كانت على الأقل نسبة مرتفعة مثل فرنسا. فغالبية الجنود الفرنسيين الغزاة لم يكونوا أكثر تعليماً من الشعب الذي كان عليهم جعله متحضراً (ايريك هوبسباوم). في العام 1962، عند انسحاب قوات الاحتلال الفرنسي، هبطت نسبة الذين يجيدون القراءة والكتابة في الجزائر إلى أقل من 20 في المائة.
لقد سرق الاستعمار من العالم العربي -في عصر مصيري عاشه الاقتصاد العالمي- مسيرة تطور تفوق المائة عام. وها هو توكوفيلا بعد 17 عاما من احتلال فرنسا للجزائر يوضح مستقيلا: "انطفأت الأضواء. لقد جعلنا من المجتمع الإسلامي فقيراً جاهلاً لا إنسانيا".

* كاتب وسياسي ألماني شهير، يعتبر من أبرز المدافعين عن القضايا العربية والإسلامية، ومعارضاً قوياً لسياسات الغرب الامبريالية تجاه شعوب المنطقة.