ولادات صحفية متعسرة .. التروس الأخـيرة
- تم النشر بواسطة غازي المفلحي/ لا ميديا

مطبعة المشرق تم تهريبها إلى عدن بتواطؤ مسؤولين وجهات رسمية في صنعاء
المطبعة الحديثة لمؤسسة الثورة متوقفة منذ 5 سنوات بسبب عطل برمجي
تحقيق وعدسة / غـازي المفلحـي / #لا_ميديا -
ليست الصحيفة وحدها التي تكافح للبقاء في اليمن منذ 4 سنوات عدوان، بل حتى وسائل إنتاجها تحتضر كذلك، فصحف مثل "الثورة" و"لا" و"المسيرة" و"الميثاق"، تطبع حالياً بمطبعة تعود إلى فترة ستينيات القرن الماضي، تجاوز عمرها الـ50 عاماً، أعيد إنعاشها بعد أن تقاعدت لسنوات قبل العدوان، بسبب الحاجة إليها كخيار بديل لا غير. ولأن مطابع الصحف عادة ما تمثل ركناً ضرورياً في المؤسسات الصحفية الكبيرة الحكومية أو الحزبية، فإنها تعرضت لضربة قاصمة بسبب العدوان الذي عطل الحياة في المؤسسات الصحفية الحكومية، وحاصرها بكل أنواع العجز، فبعضها تعرضت للنهب والتهريب من قبل مرتزقة العدوان ومتواطئين معهم، والبعض الآخر حكم عليها بالبقاء عاجزة عن العمل بسبب افتقادها قطع غيار مهمة، منع العدوان والحصار من دخولها البلد.
أول صحيفة في الجزيرة العربية
لليمن تاريخ رائد في الطباعة والصحافة، فقد عرفت بلادنا الطباعة مبكراً في أواخر القرن التاسع عشر، وصدرت أول صحيفة في الجزيرة العربية عام 1879م. حيث أدخل الاحتلال البريطاني، عام 1853، مطبعة إلى مستعمرة عدن، لتغطية احتياجاته الإدارية، فيما أدخل الاحتلال العثماني، عام 1872، مطبعة سميت "مطبعة الولاية". وصدرت صحيفة "صنعاء" بأمر السلطات العثمانية عام 1879، بينما صدرت أول صحيفة في عدن عام 1900م، تحت مسمى "جريدة عدن الأسبوعية"، بأوامر سلطات الاحتلال البريطاني.
ثم تطورت أعمال الطباعة والصحافة قدماً في فترة حكم آل حميد الدين شمالاً، والبريطانيين جنوباً، ثم في فترة ما بعد الثورة حتى عام 1990، وتحقيق الوحدة اليمنية المباركة، وكانت أفضل فترات الصحافة اليمنية ما بعد قيام الوحدة المباركة، حتى أتى العدوان محاولاً إعادتها إلى نقطة الصفر.
فالمطابع الحكومية منذ 2015 وحتى اليوم، تعاني من حصار يمنعها من الحصول على قطع غيار وتوفير المواد اللازمة للطباعة، بالإضافة إلى أنها جافة الموازنة من الأساس، أما المطابع الأهلية فهي قليلة، وأغلبها متخصص للطبع التجاري، ولا تطبع فيها الصحف، لأن العملية مكلفة جداً مالياً، حيث تكلف الصحف مبالغ تفوق أضعاف ما يمكن أن تباع به.
نهب وتهريب مطابع
آخر مطبعتين أهليتين متخصصتين في طباعة الصحف في صنعاء، أغلقت إحداهما، وهي مطبعة المجد، بسبب أمر قضائي، وقضايا ضريبية، ولا يبدو أن هناك بوادر تبشر بأن تعود إلى العمل قريباً. بينما الثانية، وهي مطبعة المشرق، تم تهريبها تحت أعين السلطات في صنعاء إلى عدن، وتزامن تهريبها مع حديث وسائل إعلام المرتزقة عن عودة صحيفتي "الشارع" و"الأولى" للصدور، وهو ما حدث بالفعل، حيث عادت صحيفة "الشارع" للصدور من عدن المحتلة، قبل أسابيع. وقال مصدر خاص إنه كان أبلغ عن عملية تهريب مطبعة المشرق منذ وقت مبكر، حيث لم يكن قد تم تهريب سوى جهاز الـ"CTB"، لكن لم يستمع إليه أحد، واستمرت عملية التهريب لتلحق المطبعة جهاز الـ"CTB" إلى عدن، وهو ما يؤكد وجود تواطؤ من قبل مسؤولين وجهات رسمية في صنعاء، في تهريب مطبعة المشرق إلى عدن. وسبق تهريب المطبعة الادعاء بأنها تعطلت، ثم مزاعم أنها ستنقل لمنطقة أخرى في العاصمة، لكنها في النهاية وصلت إلى أيدي المرتزقة في عدن، حيث تعمل هناك على طباعة صحيفة "الشارع" الممولة من الاحتلال الإماراتي.
مؤسسة الجمهورية في تعز، التي كانت تعد من أكبر وأحدث المؤسسات الصحفية في اليمن، والتي كلفت الدولة أكثر من مليار ريال، تعرضت أيضاً للنهب على أيدي عصابات الارتزاق، كما قامت هذه العصابات بنهب المطابع التجارية، وعددها 3 مطابع أوفيست الـ"CTB" ٤رؤوس ومطبعة رأس، ومطبعة "السورز".
بالإضافة إلى تشليح جهاز التحكم والرابط بالكمبيوتر من المطبعة الحديثة التي كانت تطبع الصحيفة، ومواصفاتها 9 رؤوس، والمحركات "الينموهات" المحركة للآلة، ونهب 300 رول ورق بقيمة 60 مليون ريال.
البلاد التي كانت من أوائل الدول العربية في دخول المطبعة وإصدار الصحف، تكاد تخلو اليوم من مطابع تلبي احتياجاتها. فمن بين كل مطابع الصحف، لم يعد هناك سوى مطبعتين عاملتين، هما: مطبعة مؤسسة الثورة، ومطبعة دائرة التوجيه المعنوي. ورغم أن مؤسسة الثورة تمتلك آلة "GOSS" حديثة، إلَّا أنها معطلة، وتتم الطباعة حالياً بالآلة القديمة، أما دائرة التوجيه المعنوي فتطبع بآلة "هيدلبرج" قديمة أيضاً.
عودة اضطرارية إلى الماضي
في مؤسسة الثورة بصنعاء، نجد عدداً من الصحف البارزة في الساحة اليمنية المناهضة للعدوان، مثل "لا" و"الثورة" و"المسيرة" و"الميثاق"، تطبع بأقل الإمكانيات البدائية والصعبة، وبآلة ولدت في الستينيات، وتقاعدت في الخليج مرة، ثم في اليمن بداية الألفية، ثم عادت للعمل وهي مربوطة بالحبال خلال فترة العدوان، بعد أن كانت الملجأ الوحيد والأنسب لطباعة الصحف، بالرغم من أن مؤسسة الثورة تملك واحدة من أحدث المطابع التي دخلت اليمن، إلَّا أنها متوقفة منذ عام 2014، بسبب عطل برمجي، حسب المؤسسة.
يقول الأستاذ عبدالرحمن الأهنومي، رئيس مجلس إدارة المؤسسة، رئيس تحرير صحيفة "الثورة"، إن العدوان والحصار جعلا عملية الاستمرار في الطباعة تحدياً كبيراً بسبب شحة المواد وصعوبة الحصول عليها، كما أنه أدى لفقدان المطبعة موازنتها المالية، مضيفاً أنه لم تكن للمؤسسات الحكومية سابقاً، قدرة في الاعتماد على إيراداتها فقط، وكانت تحتاج موازنة حكومية تصرف لها، ويمكن تخيل وضعها التمويني الآن، و"الثورة" إحداها، وكيف تخوض معركة التشغيل والبقاء مع آلاتها وصيانتها واحتياجاتها وموادها الخام وأجور العمال والموظفين.
مزيد من التفاصيل يضيفها المهندس صالح عبده الدحملي، مدير عام المطابع في مؤسسة الثورة، الذي قال إن أكبر مشاكل الطباعة هي العدوان والحصار، لأن المواد الأولية غير متوفرة، والأسعار في تقلب وارتفاع مستمر.
"مطبعة الثورة تطبع الصحف بالتكلفة، وتكاد تكون بخسارة"، هكذا يقول المهندس الدحملي، بسبب انهيار الريال والمعاناة في استقدام الأوراق والحبر والكحول وغيرها من المواد اللازمة للطباعة، ويضيف أنهم وضعوا هامش ربح بسيطاً، 20%، كحد أعلى للطباعة التجارية.
وعن المطبعة الحديثة المتوقفة في المؤسسة، يشرح الدحملي أن ذلك بسبب عطل في النظام البرمجي، فهي مطبعة فرنسية حديثة من نوع "GOSS"، وأي عطل يؤدي إلى قيام الكمبيوتر بإيقاف النظام ككل، وقد تعطلت وحدة التحكم نتيجة انقطاع التيار الكهربائي، وتحتاج إصلاحاً عن طريق الشركة الأم، ومن الصعب التواصل مع الشركة الأم حالياً أو إرسالها من يقوم بالمهمة، وتبلغ قيمة هذا النظام أو الوحدة بين 40 و50 ألف يورو.
وقد عملت هذه المطبعة لـ12 عاماً، ثم أوقفها هذا العطل، وهي تستطيع تغطية احتياج اليمن كاملاً في الطباعة الصحفية، فهي تستطيع سحب 50 ألف نسخة في الساعة، حسب الدحملي الذي يضيف: نعمل حالياً بآلة "goss" قديمة جداً، وقد انتهى عمرها الافتراضي، لكننا نعمل بأقصى إمكانيتها المتاحة، وبعض قطعها ومفاصلها مربوطة بالحبال، لأنه لم يعد هناك قطع غيار لها، ونقوم بتأليف قطع غيارها، إذ نستعين بالمخارط لصنع بعض القطع المعدنية، وبمصانع البلاستيك لصناعة القطع البلاستيكية. وتوقع الدحملي أن تستمر الـ"goss" المعمرة في الصمود طالما أنها آلة ميكانيكية، فإذا وفرت لها القطع اللازمة فقد تعمل إلى ما لا نهاية كطبيعة هذه الآلات.
وعن طرق الطبع البدائية يقول: نحن نواجه كل الظروف التي تطرأ علينا، فإذا لم تتوفر بليتات الـ"CTB" لا نتوقف، بل نطبع على ورق "كلك"، وإذا لم يتوفر الكلك نطبع "أفلام"، المهم ألا نتوقف، وأن ننتج في النهاية الصحيفة. ونحن نعتمد على عدة بدائل، ولو اعتمدنا على بديل واحد فقط نتوقف في أسبوع، لأن الآلة حساسة ومستهلكة كثيراً.
لا خيار
وبالتساؤل لماذا لا تطبع الصحف في المطابع الخاصة بالطبع التجاري كمطابع الشرق الأوسط وإحدى مطابع الثورة؟ تكون الإجابة أن هذا النوع من الطباعة سيحتاج الورق الأبيض العادي، بوزن 60 جراماً، وإلا ظهرت الصورة والكتابة في الوجهين، وبالطبع تحتاج الحبر المناسب، وكذلك الكحول، وسعر البرميل الكحول يصل لنصف مليون ريال، كما أن العمل بعد الطباعة أكثر مما قبلها في التعطيف والتجميع، بينما تخرج من المطبعة الخاصة بالصحف جاهزة أتوماتيكيا، وكل ما سبق يعني سعراً عالياً لا يمكن للصحيفة تحمله، ولن يكون منطقياً في خططها المالية من تكاليف وإيرادات. والصحف مخيرة بين مطبعة دائرة التوجيه المعنوي التي بدورها تعاني من عدم امتلاك مخزون ورق (رولات)، حيث ضرب الطيران المعادي مخزن الورق الخاص بها، أو مطبعة الثورة التي تعمل بآلة طباعة قديمة جداً.
كما أن تجارة مطابع الصحف في اليمن حالياً غير رائجة رغم توفر رؤوس الأموال، ويعزو الدحملي ذلك إلى خوف رؤوس الأموال من المجازفة بمليارات الريالات على سلعة تقول الدراسات إنها تنحسر أكثر فأكثر مع مرور الأيام، وستتوقف قريباً، وهي الصحف الورقية التي -بحسب الدراسات- قد تختفي في غضون الـ15 سنة القادمة.
زووم إن من بين حبر وزيت تخرج الصحيفة
تقوم مطابع الثورة بالطباعة على ورق "الكلك"، وهي عملية قديمة في التاريخ الطباعي، وتأخذ كثيراً من الوقت والجهد، وتفرض على العمال البقاء بجوار آلات الأشعة والمواد الكيميائية لمدة أكبر، ما يشكل خطراً على صحتهم، بسبب تعطل آلة الـ"CTB" الخاصة بإخراج ما يعرف بـ"البليتات"، كما أن بليتاتها غالية، حيث تطبع الصفحات أولا في أوراق بلاستيكية شفافة "كلك"، ثم يتم إلصاق كل 4 منها معا حسب ترتيبها توازيا في الصحيفة، ثم توضع على ألواح من الألمنيوم تسمى البليتات التي توضع بدورها في جهاز التنوير، فيقوم بنسخ ما على أوراق الكلك من كتابة وصور صحفية على البليتات بالأشعة، والتي يجب عدم التعرض لها كثيراً، بعدها تذهب البليتات إلى جهاز التظهير، حيث توضع وتغمر وسط سائل كيميائي، في عملية أشبه بالتحميض، أخيراً تذهب البليتات إلى المطبعة. بينما تختصر آلة الـ"CTB" كل تلك الخطوات، وتخرج كل 4 صفحات مع بعض، في ما يسمى البليت، وتذهب مباشرة للمطبعة.
ووصول البليتات للمطبعة لا يعني وقت الراحة وانتظار خروج الصحف مطوية جاهزة، فالطابعة من نوع "GOSS" التي تطبع الصحف حاليا في مؤسسة الثورة، آلة مسنَّة كثيراً، تطبع في 6 ساعات ما تطبعه الطابعة الحديثة في 15 دقيقة، ويحتاج فريق الطباعة الوقوف عند كل جزء ومفصل في الآلة تأهبا لأي عطل معتاد يطرأ في أية لحظة. حبر الطباعة مع زيوت وشحوم الآلة الميكانيكية على أيديهم وملابسهم وهم يتحركون مع الطابعة في كل لفة تدورها، ولا فرصة للجلوس، وإضافة إلى هذا كله فالعمل بأكمله يتم بعد منتصف الليل، فأولئك العمال المكافحون في مطابع الثورة يعملون في الوقت الذي يخلد فيه الناس للراحة والنوم.
المصدر غازي المفلحي/ لا ميديا